الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري
المؤلف/ المشرف:
فهد بن عبدالرحمن الرومي
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
بدون ̈الأولى
سنة الطبع:
1407هـ
تصنيف رئيس:
علوم قرآن
تصنيف فرعي:
علوم قران - مناهج ومدارس تفسير ودراسات قرانية
الخاتمة
وبعد:
هذه أهم الاتجاهات لتفسير القرآن الكريم في القرن الرابع عشر الهجري، وتلكم هي أسسها التي قامت عليها. لها ما لها وعليها ما عليها. ولا أجد حاجة لتكرار ممل ـ حتى ولو كان مختصراً ـ للأبحاث التي تناولتها فدون من أراد ذلك المقدمة فقد أجملت فيها ما تناولته من أبحاث ودونه الكتاب كله ففيه التفصيل ودونه الفهارس ففيها الدلالة وإنما يهمني ويهم غيري فيما أرى أن أخص الخاتمة بالحديث عن النتائج التي توصلت إليها بعد هذه الدراسة وفيها أمور ما كنت أتصور حدوثها ووقوفي عليها. وعلى كل حال فسأقدم النتائج بقدر من الاختصار الذي يعطي الثمرة ولا يؤدي إلى الملل.
فمن النتائج:
أولاً: في العصر الإسلامي الأول لم يكن ثم إلا فرقة إسلامية واحدة وإلا أمة إسلامية واحدة هي خير القرون وهي قدوة المسلمين ولم يكن بينهم شقاق في العقيدة أو خلاف وكلما ظهرت شرارة من هنا أو هناك هيأ الله لها من أمة المسلمين من يطفئها أو من يضرب صاحبها بدُرَّتِه ضربة يعيد بها صاحبها إلى رشده، ولم يكن لهذه الحالات الشاذة أثر يذكر في التفسير سلباً أو إيجاباً فلم يحوج الأمر المفسرين إلى الرد عليهم أو على شبهاتهم إلا النادر الذي لا يشكل منهجاً.
ومضى حين من الدهر نشأت فيه مذاهب وفرق أخرى هيأ الله سبحانه وتعالى لهم من يرد عليهم في مؤلفات مستقلة أو عند تفسير القرآن الكريم.
ونظرة سريعة إلى التفاسير في تلك الفترة يظهر فيها حجم المعركة.
فرق تؤلف تفاسيرها على قواعد أصولها التي أنشأتها من قبل، وتبث شكوكها وشبهاتها.
وفرقة أخرى تكابد بين أمرين أمر تقرير عقيدتها واستخراجها من نصوص القرآن الكريم والسنّة النبوية وأمر الرد على شبهات الخصوم وأوهامهم.
قامت فرق المعتزلة والشيعة الاثني عشرية
…
والباطنية والزيدية
…
والخوارج
…
والأباضية
…
والصوفية
…
والفلاسفة وأمثالهم يفسرون القرآن الكريم وفق أصولهم.
وقام أهل السنّة والجماعة يقررون عقائدهم ويردون على خصومهم فلم يهملوا آية فيها تقرير لعقيدتهم إلا وبينوه ولا آية فيها رد على خصومهم إلا وأظهروه.
وفعلوا ذلك إظهاراً للحق وتبرئة لذممهم وذوداً عن عقيدتهم وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر فما زالوا ظاهرين.
وقد كان الاتجاه العقائدي في التفسير في القرن الرابع عشر أول أبحاث هذه الدراسة ـ وإن أنس لا أنس ـ صدمة تلقيتها وأنا أكتب عن تفاسير أهل السنّة والجماعة.
فقد عانيت كثيراً في الحصول على نصوص تقرر عقيدة أهل السنة والجماعة بكل تصريح ووضوح بل تسوقها بإشارة عاجلة وكأنها مقررة عند قارئ التفسير ومعلومة.
وليتهم حين يفعلون هذا يتجاوزونه إلى الرد على شبهات الأعداء وكيد الخصوم والتأويلات الباطلة
…
ليتهم يبرزون الرد على الشيوعية والرأسمالية والاشتراكية أو القومية الترابية أو اللسانية ليتهم يردون على البابية أو البهائية أو القاديانية أو يردون على عصابات الانحلال الفكري أو شبهات المستشرقين أو انحرافات المنحرفين أو حتى ليتهم يردون على الفرق المعاصرة كالشيعة التي جعلت همها في العصر الحديث مواجهة أهل السنة والجماعة ومصادمتهم ليس في داخل بلاد المسلمين فحسب بل حتى في الدول الأوروبية والأميركية وكم سمعت من الدعاة إلى الإسلام في تلك الأنحاء من نشاط أولئك ضدهم وكأن هؤلاء يدعون إلى الشيوعية والإلحاد لا إلى الدين الإسلامي.
ليت أصحابنا ردوا على الشيعة هؤلاء أو ردوا على الأباضية وبينوا لهم الحق
…
أو ردوا على الصوفية التي عششت على أنحاء كثيرة في العالم الإسلامي وقاد العوام فيها والجهال بعض العلماء كما تقاد الشياة
…
يذودون عن أفكارهم ويدافعون عن أفعالهم ويبررون منكراتهم وهم يعلمون أنهم يقولون غير الحق
…
؟.
ليت أصحابنا ردوا على النصرانية وما تقوم به من نشاط كبير لتنصير المسلمين في أرجاء العالم مستغلة أوضاع العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية
…
ليتهم ردوا على اليهودية ومنظماتها
…
الصهيونية والماسونية وأندية الروتاري وغيرها من وسائلهم الماكرة للاستيلاء على قيادة العالم كله وتوجيهه أو جعله تحت سيطرتهم إن استطاعوا ولن يستطيعوا بإذن الله.
بحثت عن هذا كله أو عن بعضه في تفاسير أهل السنّة والجماعة في العصر الحديث فلم أجد فيها بغيتي ولا بعضها.
وكل ما وجدته نصوصاً من هنا أو هناك الصريح الواضح منها قليل وما سواه التمس منه ما أردت التماساً.
يمرون غفر الله لهم ولمن سبقنا بالإيمان ـ على الآية وقد زعمتها ـ طائفة قديمة أو حديثة دليلاً على مذهب ضال أو فكرة خبيثة فلا يعرض أولئك للرد عليها.
يمرون غفر الله لهم على الآية تستدل بها فرقة على ما يزعمونه حكماً شرعياً خالفوا فيه الفهم الصحيح للنص وما يؤيده من السنّة والإجماع فلا يكلف أحدهم نفسه بيان ذلك
…
وكأنه يكتب لا يخفى عليه الحق في ذلك.
ولعلي ألتمس لهم عذراً أنهم يقررون التفسير الحق ويقدمونه ميزاناً أصيلاً يوزن به كل قول سواه وكل شبهة وكل بدعة.
لكني مع هذا لا أرى الحق ـ في هذا فالقضية أكبر من أن نجمل الحديث عنها أو نوجزه والقضية أكبر من أن نجعل الحق في أيدي الناس وَيَزِنُون به
…
فما زال في الناس كثير من لا يحسن استعمال الميزان وما زال في الناس من يعجز عن استعماله وما زال في الناس من يطلب الطعام وأن يوضع له على المائدة وإن لم نفعل نحن ـ أهل السنّة والجماعة ـ فسيجد من يقدم له هذا الطعام بكل سرور
…
ولعلي قد بلغت.
ثانياً: وحين اتسعت العلوم الإسلامية عامة، واتسعت العلوم القرآنية خاصة وأفرد من العلماء السابقين آيات الأحكام بتفاسير مستقلة لم يكن أحدهم يكتب التفسير لهذه الآيات بمعزل عن مجتمعه وقضاياه، بل كان يعطي صورة كادت أن تكون كاملة عن بيئته
…
حتى المذهب الفقهي الذي ينتحله كان له أثره في تفسيره.
ففسر كثير منهم آيات القرآن حسب مذاهبهم الفقهية فكان تفسير للمذهب الحنفي وتفسير للمذهب المالكي
…
وهكذا.
وإذا عطفنا النظر إلى القرن الرابع عشر الهجري وجدنا الأمر جد مختلف فقد تخلى عن كثير من صفات التفاسير القديمة بحسناتها وعيوبها.
كان على من أراد أن ينهج منهج تفسير آيات الأحكام أن ينظر إلى ناحيتين .. ناحية عطاء النص
…
وناحية حاجة المجتمع
…
وواقعه ويوازن بينهما
…
لا
…
لست أريد أن يهمل نصاً لأنه غير واقع في المجتمع ولا أريد أن يؤجل البحث فيه إلى أن يقع
…
لا أريده أن يفعل ذلك ما دام النص القرآني عليه صريح
…
لكني أيضاً لا أريد منه أن يسترسل في بحث قد أشبعه العلماء من قبله
…
ولم يتركوا له فيه من عراش أريد منه أن يترك لهذا مباحث جدت من بعد في عصرنا هذا من غير أن يعطيها حقها من البحث.
يخطئ أولئك الذين ينظرون إلى آيات في القرآن الكريم وهم يحسبون أن الفقه ليس إلا معرفة أحكام الطهارة والإرث والوقف والهبة وينسون أنه هو نتاج دين شامل كامل أيضاً.
إن الفقه يشمل ما أسلفت ويشمل غيرها ويشمل أيضاً كل المناهج والأنظمة في كل مجالات الحياة ما يجد فيها.
يشمل النظام الاقتصادي الإسلامي بأوسع معانيه وإيجاد الحلول لمشاكل العالم المعاصر الاقتصادية ويشمل النظام الاجتماعي والنظام الجنائي والنظام الدولي والنظام المدني والنظام العسكري في أوسع مجالاته نظام العلاقات الدولية والسفارات وأخلاقيات الدولة الإسلامية يشمل كل أشكال المعاملات المالية في نظام البنوك المعاصر يبين حلالها وحرامها وحقها من باطلها. وحين يقصر مفسر أو فقيه في جانب منها فإن القصور من جهده وليس من النصوص فليعتر أولئك الذين يصرفون جهودهم إلى ما نضج واحترق من المسائل الفقهية ويتركون عجزاً أو تهاوناً أو كسلاً عن الأبحاث الأخرى التي ما تزال بحاجة إلى أن يخرجها العلماء للناس ويقولون لهم بأعلى صوت هذا نظام دينكم فخذوا به
…
نظرت في كتب تفسير آيات الأحكام في العصر الحديث وهالني ما رأيت
…
رأيتها تكرر ما قاله الجصاص وابن العربي والشافعي والقرطبي وأنعم بهم من رجال وأنعم بها من كتب
…
لكنهم كتبوا لأبناء عصرهم وعالجوا قضاياه وأشبعوا الموضوع درساً وبحثاً حتى كادت كتب بعضهم أن تكون كتب فقه لا تفسير.
ومع هذا كله فإن كتبهم موجودة لم تفقد حتى أصولها، ومنتشرة في الأسواق أكثر من كتب من نقل عنها فأي فائدة نرجوها من جديد لم يأت بجديد؟!.
وليت أصحابنا ـ غفر الله لنا ولهم ـ وهم يكتبون في التفسير الفقهي ولا يعالجون قضايا مجتمعهم المعاصر ليتهم عالجوا بعض الاختلافات الفقهية بين أهل السنّة والجماعة وبين الفرق الأخرى ليتهم نقضوا ما يستدل به الشيعة في تفسيرهم لإباحة نكاح المتعة ليتهم أظهروا مواطن الخطأ في الاستدلال عند هؤلاء ـ ليتهم ردوا على الذين يزعمون إباحة الربا غير المضاعف ويبثون الشبهات في تحريمه ويدعون إباحته ليتهم ردوا على الذين يرون أن فرض الرجلين في الوضوء المسح ـ أو ردوا على تفسيرهم للخمس وتوزيعه، أو ردوا على الذين يعطلون الجمعة أو الجماعة بمزاعم باطلة
…
ليتهم وليتهم. هل التمس لهم في هذا ما التمسته آنفاً لمفسري أهل السنّة والجماعة في العقيدة من عذر، وهل ينفع العذر إذا رأيت فيه ما رأيته في ذاك
…
!!.
ونظرت أخرى في كتب التفسير الفقهي فوجدت أصحابهاـ أو هكذا خيل إلى ـ يكتبون لتلاميذهم ولا يكتبون لزملائهم وإخوانهم العلماء وظهر أثر ذلك فيما يكتبون.
أما أنهم يكتبون لتلاميذهم فكل ما اطلعت عليه من كتب التفسير الفقهي إلا القليل منها ألفه أصحابه لتلاميذهم في المعاهد والجامعات فكانوا لذلك يسيرون وفق منهج خاص لا يتجاوزونه يسيرون معه وليس مع النصوص ومدى دلالتها يسيرون مع النص وينظرون إلى الخلف إلى المنهج المقرر خشية أن يكونوا قد ابتعدوا عن حدوده ومنطقته فيعودون فجأة وتكاد تحس بأن الموضوع مبتور وتكاد تحس بقوة النقلة تهزك، وكانوا لذلك يقتصرون على سور معينة هي تلك السور التي حددها المنهج وعلى آيات معينة من السورة هي كذلك.
لا شك أن مثل هذا لالتزام سيؤثر على عطاء المؤلف وعلى نتاجه ولذلك نرى صغر حجم المؤلفات في التفسير الفقهي في العصر الحديث عنها في القديم.
ليس لأنهم اكتفوا بما قاله السابقون وليس لأنهم اقتصروا على ما جد في الحديث
…
ولكن لهذا الالتزام فحسب.
كلامي هذا ـ أيها الأحبة ـ يشير بأصابعه العشرة إلى بعض المؤلفات في العصر الحديث، وببعض أصابعه إلى بعضها
…
لكني لا أجد تفسيراً فقيهاً معاصراً إلا ويشير إليه إصبع منها.
نحن أيها الأحبة بحاجة إلى تفسير فقهي معاصر يعنى بالشمولية والاستيعاب، فيجمع آيات الأحكام الفقهية كلها لا يتقيد بمنهج دراسي، ثم يتناول هذه الآيات كلها بالتوضيح والبيان، لا يقتصر في بيانها على الوجه الذي أشبع بحثاً ولكنه مع هذا يلتمس من مدلولاتها علاج المجتمعات الأمية المعاصرة بشتى أشكالها وألوانها ويظهر فيما يظهر العلاج الإسلامي لكثير من قضايا العصر الشائكة، لا يلتزم مذهباً بعينه يلوي النصوص لتوافقه، ولا يدخل النص بذهن مشبع بالقواعد يلتمس لها أدنى مبرر في النصوص؟!.
ينظر في النص فيستخرج منه دلالته الصريحة الواضحة مستنداً إلى الكتاب والسنّة ثم ينظر بعد ذلك في الأفكار والمذاهب الأخرى يرد عليها ويبطلها ..
منطلقاً من النص القرآني الكريم ـ ما أحوج الأمة في عصرنا هذا إلى هذا الدستور القرآني
…
ولعلي بلغت.
ثالثاً: ولا شك أن أفضل طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن فإن لم تجد فعليك بالسنّة فإنها شارحة له مفسرة وهذا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور.
وهذا النوع من التفسير كان هو السائد في صدر الإسلام لأنه أصح أنواعه.
ثم نشأ التفسير بالرأي المحمود وانبثق التفسير بالرأي المذموم ودخل التفسير علوم شتى فتعددت مذاهبه وتعددت طرقه ومناهجه، فقلت العناية والاهتمام بالتفسير بالمأثور وكاد أن يندرس في كثير من التفاسير القديمة والحديثة.
وعجبت ثالثة وأنا أنظر في كتب التفسير في العصر الحديث أبحث فيها عن تفسير أولى بالمأثور اهتماماً كبيراً أو أختص به فما وجدت ووجدت فيما وجدت تفاسير تتعامل مع التفسير المأثور كما تتعامل مع علوم أخرى حيناً تورده وحيناً تهمله أو تنساه أو تجهله
…
وهل يجهل المفسر السنّة!! هذا ما حدث
…
!!.
ووجدت فيما وجدت تفاسير تأتي بما يخالفه
…
ووجدت فيما وجدت تفاسير تفسر بمعناه من غير أن ترويه
…
ووجدت ووجدت أشكالاً وألواناً من التعامل مع التفسير بالمأثور ـ لكن لم أجد من يوليه حقه من الاهتمام ويلتزمه في كل موضع من مواضعه التي ورد فيها.
حتى تلك التفاسير التي تحمل عناوين التفسير بالمأثور لا نراها تلتزمه حتى وإن سميت بـ "التفسير القرآني" للقرآن بل جاوز هذا أحدهم فبث إلحاده في تفسير سماه ـ كيداً ومكراً ـ "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن" وتعلق بهذه التسمية بعض أرباب المذاهب والفرق الضالة ليموهوا على الناس الحق فسموا تفسيرهم "الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة" وما حشاه صاحبه إلا بالآراء المبتدعة والروايات الموضوعة!!.
وأكثر من رأيته يهتم بهذا المنهج في التفسير الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" فقد أولاه عناية واهتماماً كبيرين وفاق بهما أقرانه
…
ويليه بفارق كبير الأستاذ محمد رشدي حمادي في تفسيره "الموجز في تفسير القرآن الكريم المصفى: الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول" كما وصفه صاحبه في عنوانه.
والأمة الإسلامية في العصر الحديث بحاجة إلى تفسير يعني بالتفسير بالمأثور
…
بالقرآن وبالسنّة
…
يورد الآية القرآنية ويورد بعدها ما يفسرها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وينطلق بعدهما لبسط ما تدل عليه من معان وما ترسمه من حقائق
…
الأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا النوع من التفسير يورد فيه ما صح من الأحاديث ويبين درجته، ويرد ما ضعف منها، أو ما هو موضوع ويحذر من القول به
…
فقد انتشرت في كتب التفسير أحاديث يرددها الناس ويحسبونها صحيحة ويقفون عندها لا يتجاوزونها وإذا جئت بتفسير آخر أصح منه نظر إليك من طرف أو صوب عليك بصره
…
وكأنك أتيت بالجرم الكبير الذي لا يغتفر.
نحن ـ أمة الإسلام ـ بحاجة إلى تفسير ينشر التفسير الحق ويظهره
…
ويورد التفسير الضعيف أو الموضوع ويرده ويبطله حتى لا تقوم قائمة إلا للحق وحتى ينمحي الباطل. اللهم هل بلغت.
رابعاً: قلت ـ فيما قلت ـ في النتيجة السابقة أن التفسير قد اتسع بعد صدر الإسلام فدخلت فيه علوم شتى.
وأقول إن من بين هذه العلوم، العلوم التجريبية كالطب والفلك وعلم طبقات الأرض وعلم الحيوان وعلم النبات و
…
و .... إلخ من تلك العلوم، فاهتم بعض العلماء آنذاك بهذه العلوم فأدخلها بعضهم في التفسير وأكثر منها فيه حتى قيل عنه فيه كل شيء إلا التفسير.
كان هذا في وقت لم تكن فيه تلك العلوم إلا وليدة تحبو على يديها وقدميها
…
ومرت قرون وترعرعت فيه وشبت فقامت تثب على قدميها وتعدو
…
حتى حسبها بعضهم قد نضجت واكتملت وانتهت إلى أوج نشاطها حسب مدلولاتها
…
وما عرفوا أنها مازالت تنمو وأنها ما زالت تتغير وتتبدل
…
وبلغ من عناية أبناء القرن الرابع عشر الهجري بهذه العلوم واهتمامهم به أن كان أول تفسير كامل للقرآن الكريم يتم في هذا القرن هو ذلك التفسير الذي حشاه صحابه بتلك النظريات والحقائق العلمية صغيرها وكبيرها فلا يكاد يمر بكلمة فيها ذكر لآلة أو نبات أو حيوان أو خلق إنسان أو ريح أو مطر أو سحاب أو سماء أو أرض ونحو ذلك إلا وأحال تفسيره إلى بحث علمي بحت خاص بما عرضت الإشارة إليه في الآية وملأه بالصور الموضحة والتجارب العلمية والشواهد من كلام أهله وخبرائه وعلمائه الجديد منها والقديم حتى تشك وأنت تقرأ فيه فيما بين يديك فتطويه وتنظر إلى غلافه فإذا هو فعلاً كتاب الجواهر في تفسير القرآن الكريم ويأخذك العجب والدهش بين مسماه وما تقرأ فيه، فتسأل أهل الذكر فيشيرون بالصمت
…
بالصمت لتسمع كلمة جاءت من عمق القرون السالفة تجلجل
…
فيه كل شيء إلا التفسير
…
فما زالت تلك الكلمة منذ قيلت تشق مسارها في التاريخ راسمة أحرفها على كل من سلك هذا المسلك المتطرف في التفسير حتى وإن كان فيه تفسير. لأن هذا طغى عليه فأفسده فلم يعد تفسيراًَ.
وكم أشفق على تلك الكلمة: "فيه كل شيء إلا التفسير"، فقد مكثت سنوات منذ قيلت معطلة لم تجد لها عملاً لكن العمل المرهق جاءها جملة في هذا القرن، حيث نشأت تفاسير كثيرة فيها كل شيء إلا التفسير، فذهبت ترسم نفسها على الأغلفة لا يراها إلا أصحاب البصيرة وأهل العلم والذكر
…
لست من أعداء التفسير العلمي كما تحسبون ولست من أنصاره ومؤيديه كما تظنون. أنا ـ أيها الأحبة ـ إن سألتم عن موقفي وسط بينهما
…
لست من أولئك الذين يرفضون التفسير العلمي حتى حقائقه ولست من الذين يتحمسون له حتى نظرياته وتصوراته.
كما شكوت من أولئك الذين يقحمون التفسير العلمي التجريبي فإني أتضايق من أولئك الذين يرفضونه كل الرفض.
ليته ينفر منا طائفة من شتى أصحاب العلوم والمعارف يستفيد من خبراتهم نفر من أهل العلم الشرعي يسألونهم عن حقائقه فيستشهد بها هؤلاء في التفسير
…
ولا يفسرون بها النص.
ويسألونهم عن نظرياته فلا يوردونها لا تفسيراً ولا استشهاداً لأنها ما زالت متأرجحة لا تستقر ومن يستمسك بمتأرجح فإنه لا بد متأرجح معه وإن سقط سَقط معه
…
أعرف أن هناك من سيرفض قولي وأعرف أن هناك من سيعدله ويقوم ما يراه معوجاً ولعل فيهم من يقبله ويراه حقاً
…
وهذا رأيي والله أعلم.
خامساً: أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن الكريم لحكم عظيمة غايتها تصحيح العقائد وتقويم السلوك.
وعلى المفسر أن يجعل هذا الأمر في ذهنه عند تفسيره ثم عليه وهو طبيب عقول أن يكون كطبيب الأجساد ينظر في مريضه ويشخص داءه ثم يصف له الدواء، وعلى المفسر أن ينظر إلى مجتمعه فيحدد أمراضه ويظهر مواطن ضعفه وتفككه وانحلاله ثم يصف له الدواء القرآني
…
سواء كانت علله في العقيدة أو في السلوك.
كم يسرني ذلك المفسر الذي أراه يفسر الآية القرآنية ثم أراه يضرب الأمثلة من مجتمعه ـ في غير تشهير ـ ويلتمس لها العلاج القرآني وكم يسرني ذلكم المفسر الذي يرى عادة ذميمة في مجتمعه أو تحللاً أو إهمالاً لواجب أو انتشاراً لبدعة
…
فلا يمر بآية هي علاج لهذا أو ذاك إلا ويربط بينهما ويشير إلى علاجها ويأمر به.
يهمل كثير من العلماء مسألة الربط أوالتشخيص الدقيق وهم يحسبون أن لدى مستمعيهم ـ كلهم ـ القدرة على الاستنتاج والتطبيق.
تجد المفسر مثلاً يتحدث عن الربا وتحريمه ويشرح آياته مفردة مفرَدة ومواطن البلاغة ومحاسن التعبير ويبلغ في ذلك شأواً، ثم ينتقل إلى آية أخرى بعدها وهو يحسب أنه قد أشبع الموضوع حقه، وما درى ذلك الرجل أنه أخذ جانباً وترك الآخر
…
كان عليه ـ مثلاً ـ أن يضرب أمثلة للربا من مجتمعه فيشير نصاً إلى البنوك الربوية معاملاتها ومواطن الخطأ فيها ومواضع الربا وآثار ذلك في الاقتصاد
…
كان عليه أن يعطي المثال المستقيم فيذكر البنوك الإسلامية وما يجب أن تتعامل به ولا ضير أن يذكر أسماءها وأنواع معاملاتها.
ستقولون ـ أيها الصحاب ـ أنه خرج عن التفسير فأقول على فرض أنه خرج أليس خروجه هذا أفضل من خروجه عنه إلى الأساليب البلاغية والمسائل اللغوية والتغني بحسن التعبير والوقوف عند معالم الجمال إن صح تسمية كل ذلك خروجاً!!
ثم إني لا أعتبر هذا ولا ذاك خروجاً عن التفسير إذا ناسب المقام، فإذا كان المقام مقام حديث مع العلماء والأدباء فليكن كذلك وإذا كان حديثاً موجهاً للعامة أو للإصلاح الاجتماعي فليكن بأسلوب آخر وبأهداف وطرق أخرى، ليوجه همه إلى تلكم القضايا الاجتماعية ويبسطها للناس فلا يجعل التفسير بمعزل عمن أنزل القرآن لإصلاحهم وإصلاح عقائدهم.
حين نزل القرآن الكريم أصلح كثيراً من البدع والمنكرات التي تحدث في مجتمع الجاهلية وخصها بالذكر فحرم وأد البنات والربا وشرب الخمر وعبادة الأوثان وما زال القرآن يقوم الأخلاق
…
حتى النداء من وراء الحجرات
…
فما بال أقوام منا يهملون جانب الإصلاح الاجتماعي في تفسير القرآن الكريم ويظنونه ـ مخطئين ـ خروجاً بالتفسير عن حده.
إن الأمر هنا يختلف عن المناهج الأخرى، الأمر هنا يتطلب تفاسير عدة لا تفسيراً واحداً، حيث يقوم من كل بلد من بلاد العالم الإسلامي عالم عارف بأمراض مجتمعة يفسر القرآن فيعرض لها ويحذر من خبيثها ويحمد حسنها.
أقول هذا لأن العالم الإسلامي مترامي الأطراف .. مختلف العادات، وقد ينتشر في مجتمع من المنكرات ما لا وجود له في مجتمع آخر
…
فقد يوجد الربا في بيئة ويستفحل ولا يكاد يوجد في أخرى، وقد تنتشر حانات الخمور ودور الرذيلة والملاهي وأندية القمار في بيئة ولا يعرفها آخرون، وقد ينتشر الاختلاط والتبرج والتعري والفسق والفجور في مجتمع ولا يعرفه آخر، وقد تنتشر بدعة التصوف وطقوسها في بيئة دون بيئات، وقد تشتهر بعض المحرمات وتصبح عادة مألوفة في مجتمع تحتاج إلى أن ينص العلماء عليها ويحذرون منها كالشغار والنجش وبعض أنواع الربا والإسراف والتبذير و .. و .. إلخ.
وهذا يوجب أن يقوم من كل مجتمع عالم يكتب علاجاً قرآنياً لأمراض مجتمعة فما زالت المنكرات منتشرة وما زالت البدع سائدة، نسأل الله سبحانه الإصلاح والتوفيق.
سادساً: قام في القرن الرابع عشر الهجري رجال علماء بذلوا وسعهم حسب مفهومهم وحسب قدراتهم للإصلاح سياسياً واجتماعياً وكان لهؤلاء جوانب مشرقة وكان لهم أخرى ونال هؤلاء الرجال منزلة كبيرة في مجتمعاتهم بين العلماء والعامة. ونفذ بعض المغرضين وذوي النحل الباطلة من هذه "الأخرى" فأمسوا يبثون شكوكهم وأوهامهم وبدعهم ومنكراتهم فإذا قام معترض عليهم قال لهم إنكم تردون اليوم ما كان يقرره فلان منذ 42 عاماً؟.فيطرق القوم وكأنه قال لهم قول معصوم.
تقولون وما دخل هذا في التفسير؟! فأقول إن بعض هؤلاء كان لهم نشاط في التفسير منه ما أبدعوا فيه ومنه ما جانب الصواب و
…
أخشى ـ وقد حدث فعلاً ـ أن يستدل رجل بالجانب الذي وقع فيه الخطأ فيحسبه آخرون قد أتى بالحجة القاطعة.
علينا إذاً أن نقيم رجال التفسير فنظهر ما لهم ونظهر ما عليهم أين كتب الرجال في القرن الرابع عشر؟
حقاً إن كثيراً منهم ما زال حياً يرزق وحقاً إن بعضهم قد انتشر صيته؟ ولكن أقولها عن تجربة إذا ما أردت ترجمة قصيرة عن حياة أحدهم فضلاً عن الجرح والتعديل فإني لا أجد له رائحة.
حبذا لو قام أحدنا بالكتابة عن مفسري القرن الرابع عشر وليس عن اتجاهات التفسير فحسب.
يكتب تراجم لحياتهم العلمية ومؤهلاتهم للتفسير ومن تتوفر فيه شروط المفسر منهم ومن لا تتوفر فيه، ثم يكتب ما له في التفسير وما عليه ويرد أو يناقش بعض أخطائه الظاهرة في التفسير.
وبذلك ننقي ساحة التفسير وساحة المفسرين من زغلها وزيغها ونكشف للناس حقيقتها فلا يجرؤ مجترئ بعد ذلك أن يستدل بهفوة، ولا يطأطئ أحدنا رأسه مسلِّماً باحتجاج زائف.
علماً أن الأمر لا يقتصر على ذوي الهفوات من المفسرين، بل سلك بعضهم طريقاً خاصاً ونهجاً إلحادياً علانية يسعى لأن يُرَدَّ عليه فيشتهر ويرى ـ لضعف إيمانه أو عدمه ـ إن الإلحاد هو اقصر طريق إلى الشهرة.
فعلينا أن نقف لتلك الزمرة بالمرصاد دفاعاً عن كتاب الله عز شأنه، نقف لهم فلا نحقق مأربهم ولا ننشر كتبهم بشتى الوسائل ونسعى أن يكون موقفنا منهم درساً رادعاً لمن يقف خلفهم أو ينتظر فرصة ليفعل فعلهم. اللهم هل بلغت.
سابعاً: اختلاف أساليب التعبير عبر القرون ظاهرة واضحة لا شك فيها وكم من قصيدة سمعناها فأدركنا من مفرداتها ونغمها وجرسها أنه شعر جاهلي أو شعر إسلامي أو شعر حديث أو حتى شعر أندلسي ونحو ذلك
…
وقع هذا لأن لكل مجتمع ما يناسبه من الألفاظ والعبارات.
وهذا يوجب على المفسر أن يتحدث بأسلوب عصره فلا يأتي ـ وهو يفسرـ بغريب الألفاظ ولا يتكلف الحديث ولا يمعن في عويص المعاني ولا يتشدق في التعبير.
لا يعلو حديثه عن درك العامة ولا يهبط إلى وضيع القول عند العلماء فليحاول جهده في التعبير بحيث إذا سمعه غير المتخصص أدرك أبعاده وشده أسلوبه وإذا سمعه العالم شده حسن التعبير وطلاوة الأسلوب
…
والموازنة هذه يهبها الله لمن يشاء من عباده.
أما التبسيط العميق للتفسير، فإنه يحيل التفسير إلى كتاب مدرسي يوضع للناشئة إن لم يكن وضع لهم أصلاً، مثل هذا يبعد كل البعد عن الإتيان بجديد في الفكر أو في التدبر أو في التأمل.
ولهذا لم يكن لهذه المؤلفات أثر في دراستنا هذه عن مناهج التفسير الجادة.
والإغراق في العبارات أيضاً يقصر القائدة منه على المختصين والعلماء ويحرم سواهم من الانتفاع به، والقرآن الكريم لم ينزل لهؤلاء وحدهم ولا لهؤلاء دون سواهم، بل نزل للجميع فليكن التفسير للجميع أيضاً.
لا أريد من هذا أن أمنع التفاسير الموسعة العميقة الأبحاث لكني أريد تبسيط أسلوبها حتى إذا ما أراد أن يسلكها غير العلماء سلكها وكانت له كالمعلم يخاطبه ويوجهه ويسأله ويجيبه بأسلوب لا يهبط إلى ذلك ولا يعلو عن مداركهم
…
اللهم هل بلغت.
وبعد:
ليست هذه خلاصة البحث وليست كل ما أريد قوله، فقد بثثت فيه وبين مناهجه ملاحظاتي في مواضعها ولكني أشرت إلى ما أشرت إليه للتأكيد ليس إلا.
أما الأساس السليم والمنهج القويم في التفسير الذي يجب أن نسلكه فيه فقد بينت أسسه وقواعده في حديثي عن منهج أهل السنّة والجماعة ولا أظن أني في حاجة إلى تكرار القول إني قد وضعت منهجهم أول المناهج ليكون ميزاناً بيد القارئ يزن به كل ما يصادفه في طريقه فبه يأخذ وبه يرد.
ولهذا فلا أرى موجباً لإعادة هذه الأسس مرة أخرى فهي أيضاً الأسس الفضلى وهو أيضاً المنهج الحق.
لكن هذا لا يمنع من التجديد.
التجديد في الأسلوب الملائم لأبناء العصر والذي أشرت إليه آنفاً والتجديد في التحذير من العقائد الضالة والفرق المنحرفة المعاصرة والقديمة وبيان مواضع ضلالهم وانحرافهم.
والتجديد في تفسير آيات الأحكام ببيان ما جد من الأحكام الشرعية والمعاملات المالية والاقتصادية والعسكرية
…
إلخ.
والتجديد في علاج القضايا الاجتماعية، فقد جد في هذا العصر من المشكلات الاجتماعية ما يحتاج إلى علاج وبيان.
والتجديد في التحذير من التفاسير المنحرفة والضالة ومجاهدة أصحابها وبيان ضلالهم وكشف زيفهم للناس.
كل هذا وسواه أكثر من معالم التجديد في التفسير الذي يطلبها أبناء القرن الجديد في التفسير وهذا يحمل علمائه أمانة القيام به فهم يوم القيامة مسؤولون وعلى أعمالهم محاسبون ومجزيون.
وأوصي أخيراً أولي الأمر وذوي العلم والجامعات الإسلامية وفيهم نفر من العلماء الصالحين أن يسعوا للقيام بتفسير يشترك فيه نخبة مختارة من العلماء البارزين في مختلف التخصصات الشرعية في العقيدة .. والفقه .. والتفسير .. والأدب .. والإصلاح الاجتماعي .. والعلوم التجريبية
…
إلخ.
يجتمع هؤلاء يتلون آيات الله فيما بينهم ويتناولونها بالتفسير والبيان، ثم تصاغ كلها بأسلوب ملائم يجمع فيه كل ما يحتاجه عصرنا من إصلاح عقائدي وفقهي واجتماعي وعلمي وأدبي يعنى فيه بما أسلفنا الإشارة إليه تفصيلاً
…
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليه ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين".