الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظرات جديدة في علوم الحديث
المؤلف/ المشرف:
حمزة بن عبدالله المليباري
المحقق/ المترجم:
بدون
الناشر:
دار ابن حزم - بيروت ̈الأولى
سنة الطبع:
1416هـ
تصنيف رئيس:
علوم حديث
تصنيف فرعي:
دراسات حديثية
الخاتمة
نستخلص من البحث أهم النقاط العلمية، وهي أن علوم الحديث قد تناولتها مجموعتان كبيرتان، تتميز كل منهما عن الأخرى بالمناهج والمفاهيم والأعراف العلمية. إحداهما تمثل الجانب العملي التطبيقي، والثانية الجانب النظري.
أما المجموعة التي عالجت علوم الحديث عملياً فهم المعنيون بـ "المتقدمين"، وهم نقاد الحديث، وعنهم انبثقت معظم المصادر الحديثية التي تعطي لنا صورة واضحة لمحتوى علوم الحديث المتداولة بينهم، وفي طليعتها الصحيحان: صحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم.
وميزة هذه المجموعة أنها لا تتلقى الأحاديث والآثار ولا تتداولها إلا عن طريق الرواية الشفهية المباشرة، ولهذا يدعى عصرها "عصر الرواية"، ويمتد من القرن الأول الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري تقريباً.
وأما المجموعة الثانية فتناولت هذا العمل نظرياً باستخراج المصطلحات ووضع التعاريف، وتنظير القواعد اعتماداً على ممارسات المتقدمين في مجال النقد، وهم المعنيون بالمتأخرين، والأمر الذي يميزهم عن المجموعة الأولى ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات في نقل الأحاديث والآثار، مكان الرواية الفردية المباشرة، إضافة إلى ظهور المبادئ المنطقية وتغلغل آثارها في كافة العلوم الشرعية، لا سيما في التعاريف والحدود.
ومن خلال التأني في تتبع المظاهر العلمية التي كانت تسود هاتين المرحلتين، وبعد إجراء المقارنة بين الجانب التطبيقي لمحتوى علوم الحديث المركز عليه في عصر المتقدمين، وبين الجانب النظري عند المتأخرين تبين لنا خلاف جوهري، وتباين منهجي بينهم في كثير من المصطلحات الحديثية، والقضايا النقدية، يجب على المشتغل بالحديث وعلومه التفطن إليه، كي يتحاشى الآثار السلبية المترتبة عن الخلط بينهم، وهي كثيرة، وإن كافة المعضلات العلمية التي تثير الاضطراب في ضبط مبادئ علوم الحديث ومصطلحاته هي من نتائج هذا الخلط.
ومن أخطرها ما راج بين الكثيرين من "أن نقدة الحديث إنما عنوا عناية فائقة بنقد الأسانيد والرواة، وأما المتون فليس من شأنهم النظر فيها، لكونهم قليلي الفقه"، مما دفع ببعضهم إلى تبني محاكمة الأحاديث إلى القرآن والعقل كمنهج علمي، بديلاً عن منهج المحدثين، إضافة إلى مفاهيم خاطئة، ومناهج مختلطة ترسخت في دراسة الكثيرين من أهل الحديث المعاصرين، وكل هذا وقع في غياب الجوانب العملية التطبيقية في المرحلة الأولى، وفي ظل الاتكال على الجانب النظري عند المتأخرين.
إن المظاهر العلمية التي تميز عصر الرواية تقطع بأن علوم الحديث تضم جانبين: الجانب الأول ما يتعلق بمعرفة الصحيح والسقيم، والجانب الثاني: ما يتصل بفقه الحديث وفهم معناه. لهذا قال علي بن المديني: "التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم".
وقال الإمام أحمد: "إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم والناسخ والمنسوخ من الحديث لا يسمى عالماً". وهو الذي يؤكد عليه جميع الكتب الحديثية التي ظهرت في عصر النقاد، كالجوامع والسنن التي روعي في ترتيبها النسق الفقهي، وفي مقدمتها "الجامع الصحيح" للإمام البخاري، وقد ركزنا على هذا الجانب، وأفضنا فيه.
والذي أود إبرازه هنا هو الناحية النقدية التي تشكل أهم جوانب علوم الحديث، والسبيل الوحيد للتعرف عليها هو دراسة صحيح الإمام البخاري، وصحيح الإمام مسلم دراسة تحليلية معمقة، باعتبار أن كليهما ميدان تطبيقي لذلك، وفضلاً عن دراسة الصحيحين يجدر بالباحث المدقق أن يقارن "بالتاريخ الكبير" للإمام البخاري، و "كتاب العلل الكبير" للإمام الترمذي الذي جمع فيه نصوص شيخه البخاري، وكتاب "التمييز" للإمام مسلم، وسائر كتب العلل التي تحتوي على القدر الأكبر من الروايات المعلولة، والتي تعتبر من بقية المرويات التي اصطفى منها الإمامان تلك الأحاديث الصحيحة على أسس علمية متينة، بحيث تبرز الدراسة ما أودع كل منهما في تضاعيف الصحيحين من الفوائد الإسنادية، والنقدية، وتبلور المنهج العلمي المتبع لديهما في معرفة الصحيح والسقيم، وكشف أوهام الرواة، وحتى أغلاط الأئمة الأجلاء، وافتراءات المغرضين وحيلهم وانتحالاتهم.
بعد دراسة تحليلية في كتب العلل، وكتب الضعفاء، والصحاح، والسنن وغيرها من المصادر الحديثية التي وضعت في ضوء قواعد التصحيح والتعليل، أو الجرح والتعديل، في المرحلة الأولى، وبعد التتبع العلمي لها عن كثب، استطعنا ـ بفضل الله تعالىـ أن نستخلص طبيعة مسلكهم في نقد الأحاديث كما يلي:
يصحح الإمام البخاري وغيره من النقدة أصناف الأحاديث متى تأكدوا، وتحققوا من صدق كل راو من رواتها في سلسلة الإسناد، وإصابته في عزوها لمن فوقه كما سمعها منه، سواء رواها الثقات أو الضعفاء غير المتهمين، كما يردونها عند شعورهم القوي بخطأ أحدهم ووهمه، سواء كان ثقة أم ضعيفاً، أو قد كذب وافترى. وهناك أمور كثيرة تعتبر أساساً في تحري صدق الراوي فيما حدث به، وإتقانه له، أو خطئه ووهمه فيه، أو كذبه ووضعه له.
وأما بخصوص تحري الصدق والإتقان فكأن يروي الراوي حديثاً يوافق المعروف عن شيخه، أو عمن فوقه، أو عن الصحابي، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يوافق ما كان عليه عمل الصحابة، فإن موافقته للواقع دليل على صدقه وحفظه وضبطه، وحين تصبح الموافقة سمة بارزة له فإن نقاد الحديث يصفونه بما يدل عليها بدقة، ويصنفونه في زمرة الثقات.
فمعرفة حال الراوي ومستوى ضبطه وإتقانه متوقفة إذن على تقييم أحاديثه ورواياته، والأول تابع للثاني، وبالتالي لا يمكن أن تصبح صفته وحاله منطلقاً رئيسياً للحكم على حديثه في منهج المتقدمين، ومن هنا نلفيهم يصححون الأحاديث من مرويات الضعفاء متى أصابوا فيها ويحتجون بها، وصحيح الإمام البخاري وصحيح الإمام مسلم يؤيدان ذلك، وقد جمع الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري أسماء الضعفاء والمتكلم فيهم الذين أخرج لهم الإمام البخاري ما صح من أحاديثهم.
فهذه الحقيقة العلمية الملموسة في نقدهم تفند ما راج بين الكثيرين من أن المحدثين صححوا الأحاديث بالنظر في سلسلة الإسناد دون المتن، حيث إن علم الرجال ثمرة لجهود المتقدمين في نقد المرويات.
أما معرفة خطئه ووهمه، أو كذبه وافترائه، فكأن يروي حديثاً يخالف الثابت عن شيخه، أو عمن فوقه، أو عن الصحابي، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يخالف الواقع المعمول به لدى الصحابة، أو أن ينفرد في حديثه بشيء ليس له أصل عند شيخه، أو عند من فوقه، أو عند الصحابي، أو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يؤيده عمل الصحابة والتابعين.
فإن هذا النوع من المخالفة والتفرد دليل قاطع على خطأ الراوي ووهمه أو كذبه ووضعه، لأنه من كذب وافترى فمصيره أن يخالف الواقع، أو أن ينفرد بما لا أصل له، وكذا الأمر إذا أخطأ ووهم، وبقدر وقوع المخالفة والتفرد، ونوعية كل منهما يقع تصنيف الرواة، إما في الضعفاء أو المتروكين، أو الكذابين.
وجدير بالذكر إن المخالفة والتفرد على الصور المذكورة هما المقصودان في مفاهيم الشاذ والمنكر، وليس كل أنواع المخالفة والتفرد داخلة فيها، فإن منها ما هو ناتج عن كثرة الضبط والإتقان، وهذا النوع من المخالفة والتفرد لا يكون شاذاً ولا منكراً ولا مردوداً، بل يكون صحيحاً مقبولاً، وإن كان ظاهر القول الذي يربط الشذوذ بهما يوهم الإطلاق فيها فإن الأمثلة التي ساقوها وقرائن أخرى تؤكد ذلك الذي ذكرناه.
في ظل هذه الحقائق العلمية الملموسة فإن الحكم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، قبولاً ورداً، لم يقع من المحدثين النقاد بالاعتماد على صفة الراوي، بغض النظر عن المتون والأمور المحيطة بها، وإنما يقع ذلك بناء على معرفة موافقة راويه للواقع، أو مخالفته له، أو تفرده بما لا أصل له، حتى ولو كان الراوي إماماً جليلاً.
وإن كانت الركيزة الأولى الأساسية للحكم على الحديث هي معرفة موافقة راويه للواقع أو مخالفته له أو تفرده بما لا أصل له، فإن الناقد ينبغي أن تتوفر فيه من الأمور ما يؤهله لمعرفتها، من أهمها الفقه وحفظ الأحاديث وضبطها واستيعاب طرقها ومعرفة رواتها، وإلا فإنه لا يعرف الواقع، ولهذا فإن النقاد كانوا يهتمون بشقي علوم الحديث، وهما: الجانب الفقهي وجميع ملابساته والجانب النقدي وسائر ما يتصل به، كما سبق تفصيله.
ويلاحظ مما ذكرنا: أن ما يتجه إليه اهتمام الناقد في نقده بداية هو ما ذكره الراوي عن شيخه: هل حدث شيخه بهذا السند هذا الحديث؟ أو حدث بسند آخر؟ أو حدث بهذا السند متناً آخر؟ أو لم يحدث به أصلاً؟.
والنقد الذي يرتكز أساساً على هذه المحاور لا يتم في حالة ما إذا فصل الإسناد عن المتن، وغض النظر عنه، إذ الإسناد لا يتحقق له وجود إلا باعتبار متنه، وبالتالي لا يستحق أي حكم، إلا إذا صار النظر شكلياً، كأن يدرس تراجم رواه الإسناد، وإمكانية اللقاء بينهم، دون ربطه بالواقع الجزئي الذي بصدده هذا الإسناد، فعندئذ يصبح الحكم الذي صدر عن الباحث حكماً عاماً لا علاقة بما وقع، وهذه دراسة المعاصرين خاصة والمتأخرين عامة إلا المحققين.
وإذا صدر عن الناقد حكم بأن الإسناد صحيح فمعناه أن كل راوٍ من السند صادق ومصيب في قوله، وعزوه لمن فوقه، وبذلك يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، ولا يصح القول أبداً إن السند صحيح والمتن ضعيف، أو موضوع، لأن الخلل الوارد في المتن إنما هو من جهة أحد رواته، فيصبح تصحيح الإسناد حكماً مناقضاً للواقع الذي يقضي بوجود خاطئ أو كاذب في ذلك الإسناد، وإلا فإن الخطب جلل لما يلزم منه نسبة الخطأ أو الكذب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما شاع لدى المتأخرين من ذلك الإطلاق فإنه لا يعدو كون الرواة ثقات فقط، لا أكثر ولا أقل.
وصفوة القول فإن نقد المحدثين في المرحلة الأولى نقد علمي متكامل بجميع عناصره، لا يفصل الإسناد عن المتن، حيث يقوم أساساً على المعرفة الحديثية والفقهية، ومن ثم أصبحت علوم الحديث تحوي هذين الجانبين دون فكاك.
إضافة إلى قضايا أخرى تطرقنا إليها نظراً لأهميتها البالغة، مثل مسألة تدوين السنة، ومحاكمة الأحاديث إلى القرآن بغرض معرفة صحتها وكذبها، وضرورة التفريق بين الغريب الشاذ وخبر الآحاد، وسر إهمال النقد لبيان الوضع في الأحاديث بياناً مفصلاً، في حين أنهم نشطوا في كشف عللها، وعناية المحدثين النقاد بنقد المتون، ورد الشبهات حولها، وغيرها من الأمور التي وجدناها بحاجة إلى إبراز الواقع فيها.
كتبت لك ـ يا أخي العزيز ـ هذا البحث، بفضل من الله سبحانه وتعالى، ولا أريد به إلا أن أرسم لك منهج المحدثين النقاد، الذي تسعى إليه من وراء دراسة مصطلح الحديث، وأن أحملك على أن تحذو حذوهم في نقد الأحاديث. والله الموفق.
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً. والحمد لله رب العالمين.
ـ تم بعون الله ولله الحمد والشكرـ