الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي الكتاب
الحمد لله واهب النعم، رافع النقم، العزيز الوهاب، الذي لا يَعِزُّ من عصاه، ولا يضل من اتبع هداه، الذي جعل الرفعة والكرامة لمن سلك سبيله، والتزم شريعته، واقتدى برسوله المصطفى المختار، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، الذي جاءنا بالهدى والنور، فما زال بالبشرية حتى أقامها على المحجة البيضاء، وخلصها من سبل الغواية، وطرق الضلالة، وأوصلها إلى الشاطئ الآمن، والرياض الفيحاء، وعلى آله وصحبه الأخيار الأبرار الذين رضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، وجاهدوا في الله حق جهاده، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فالدين الإسلامي المنزل من عند الله منهج حياة كامل واف، وهذا الدين يمثل الأصالة في حياة الأمة المسلمة، بل في حياة البشرية جميعًا، والانحراف عن هذا المنهج ونبذه يعدُّ جمودًا وتأخرًا ورجعية، وقد خسر العالم كثيرًا عندما انحط المسلمون حملة هذا الدين، خسر العَالم الروح الدافقة، والنور الهادي، والقيم والموازين، وقد حاول الغرب جاهدًا أن يذيب المسلمين في بوتقة ثقافته وحضارته، وأن يبعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم، وأن يبث فيهم عقائده وأفكاره ونظرياته، وأن يحول قبلتهم إلى لندن وباريس وواشنطن وموسكو، وأن يرفع من شأن الذين تأثروا بفكره ومبادئه، حتى يكونوا رجال الفكر والأدب،
وعلماء الاقتصاد والسياسة، والمنظِّرون والمفكرون، وصبغ مناهج التعليم عندنا بالنظرة المادية، وسلب من مناهجنا ومحعبنا محتواها الإسلامي، وجاء بالمسرح والتلفاز والسيما وصبغها بالصبغة المعادية للإسلام، فأقام في ديارنا صروحًا تهزأ بالإسلام، وتسخر منه، وتغرضه بصورة منفرة، وجاء بأقوام سلمهم قيادنا" جعلوا كل همهم فصل الدين عن الحياة، وتطبيق القوانين التي تضاد الإسلام وتنابذه العداء، لقد اهتزت ثقافتنا الإسلامية بعنف ورياح الغرب العاتية تحاول أن تجتث أصولها، وتعرضت الشخصية الإسلامية للمسخ والذوبان بسبب الموثرات الهائلة التي صبت عليها من الغرب صبًا، ولقد صدق المفكر المسلم روجيه جارودي الذي اعتنق الإسلام بعد عمر طويل من الضياع عندما قال: "إن الحضارة الغربية ارتكبت أعظم جرم عرفه التاريخ بحق ثقافات العالم وشعوبه، لتبني لنفسها حضارة سلطوية شرسة تتجه اتجاهًا كارثيًا مخيفًا ربما يؤدي في النهاية إلى الدمار".
ولقد شاهدنا في فترة من هذا القرن ردة عنيفة عن الإسلام، وقد هالت تلك الردة المفكر المسلم أبا الحسن الندوي فإذا به يصرخ من أعماق قلبه: ردة ولا أبا بكر لها، لقد وُجِدَ لتلك الردة التي حاولت أن تجتث الإسلام في عصره الأول رجال في طليعتهم الصديق، ولكنها لم تجد في وقتنا حاكمًا من حكام المسلمين يواجه تلك الردة.
وضرب المسلمون في بيداء الفكر الإنساني، فجاؤوا بأفكار الشرق والغرب، وأصبح العالم الإسلامي بحرًا لجيًّا هادرًا يموج بالأفكار والنظريات. وانقسم عالمنا الإسلامي إلى فرق وأحزاب ودول وتكتلات فيها كل شيء إلا الإسلام، ونُبذ دعاة الإسلام نبذ النواة، وأقيمت لدعاة الإسلام في ديار الإسلام أعراس حمر
قطعت فيها رؤوسهم، وانتهكت حرماتهم، وصودرت أموالهم، وألصقت بهم كل تهم الخيانة والفساد، وتكشّف ليل الأمة الإسلامية عن بلاء رهيب ضاعت فيه المقدسات، وأقيمت فيه لأعداء الإسلام في مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم دولة، وصال أعداؤنا وجالوا في ديارنا وقهروا دولنا وجيوشنا وأذاقونا البلاء أشكالًا وألوانًا، وأفاقت الأمة على واقع مرير، ونظرت إلى الزعامات والرئاسات والنظريات والفلسفات التي كانت تمنيها بالعزة والكرامة والحياة الطيبة
…
، فإذا بذلك كله سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ووجد الله عنده، وبلغت المأساة قمتها عندما أثارها الصليبيون واليهود في لبنان فتنة راح ضحيتها رجالنا ونساؤنا وأطفالنا ونحن ساكتون سكوت الموت، وأثارها الشيوعيون علينا حربًا شعواء في أفغانستان، وما أخبار ما يفعله الصليبيون في الحبشة والفلبين بسر.
لقد أفاقت الأمة الإسلامية وخيول الصليبيين واليهود والشيوعيين تدق معاقل الإسلام في شرقه وغربه، وتلفتت إلى الدول المتمدنة والمتحضرة التي أقامت هيئة الأمم ومجلس الأمن تطلب نصرًا، وتريد عدلًا، وتطمع في الخلاص، فكان حالها كحال المستجير من الرمضاء بالنار.
لقد اقتنع كثير من المسلمين اليوم أن الإسلام هو الملاذ الوحيد لهذه الأمة التي اجتمع عليها أعداؤها وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم، والأكلة بالقصعة، فعادت الأصوات ترتفع من هنا وهناك معلنة التوبة عن ماض شائن، وأفكار عفنة، وعمالة منتنة، عادت الوجهة إلى الإسلام وكعبة الإسلام ورب الإسلام، وأسلمت الجموع قيادها لربها، ورضيت به إلها وبدينه منهجًا، وبرسوله مرشدًا وموجهًا، وأخذت الأصوات تتعالى هنا وهناك، مطالبة برفع راية الجهاد، وتحكيم شرع الله، والالتزام بأخلاق الإسلام، ومنابذة الكفرة العداء، ومن جملة
ذلك العودة إلى العلوم الصافية الأصيلة، وإصلاح الفاسد من مناهج التعليم، ونبذ الدخن الذي خالط العلوم والكتب والمناهج.
لقد طالب رجال الفكر بأسلمة مناهج التعليم، وجعل الإسلام محور المناهج والدراسات، وعَرْض الإسلام لأبناء الإسلام عرضًا غضًا طريًّا، وطالب الأخيار بأن يزود الطلبة في الجامعات بقسط من الثقافة الإسلامية يمثل الحدَّ الأدنى من المعرفة التي ينبغي أن يحيط بها كل طالب. وقد وجدنا الطلبة في جميع الجامعات يقبلون على دراسة الثقافة الإسلامية إقبالًا منقطع النظير، وألفت في الثقافة مؤلفات كثيرة بين مطول ومختصر، ويأتي هذا الكتاب في الثقافة الإسلامية ليضم إلى الجهود التي سبقت في هذا المجال، ولم يأت هذا الكتاب من فراغ، فهو حصيلة لمطالعات كثيرة، ودراسات متواصلة في علوم مختلفة، انتهت إلى هذه الخلاصة في مجال الثقافة الإسلامية، وقد قمت بتدريس الثقافة في المعاهد التابعة لوزارة التربية وفي جامعة الكويت عده سنوات، وكانت مباحث هذا الكتاب محور المحاضرات والدروس.
وهذا الكتاب يقع في مقدمة وسبعة أبواب، وقد حاولت أن أضع في المقدمة تصورًا وافيًا للثقافة الإسلامية، فقد حددَّت مفهومها وأصولها وموضوعها وأهم معالمها ومراجعها وبينت خصائصها، وألقيت الضوء على الثقافة الغربية التي تزاحم الثقافة الإسلامية في ديار الإسلام، ورصدت الانحراف الذي طرأ على الثقافة الإسلامية الأصيلة.
وختمت هذه المقدمة ببيان عناوين الدين الإسلامي ومراتبة وعلومه، والعلوم الرئيسة التي تدور في فلك الشريعة الإسلامية ثلاثة، هي العقيدة والأخلاق والفقه، وقد تعرضت لبيان كل علم من هذه العلوم وأعطيت فكرة واضحة عنه
وعرضت لأهم مباحثه، وحددت أهم المراجع التي يرجع إليها في كل علم من هذه العلوم.
ففي الباب الأول الخاص بالعقيدة بينت أهمية العقيدة، كما أوضحت المناهج التي سلكها العلماء من قبل في إثبات العقائد، وأشدت بالمنهج القرآني النبوي، وحذرت من المنهج الذي يزاحمه ويعارضه وهو المنهج الفلسفي الكلامي، وبينت أمورا في غاية الأهمية في باب العقائد، ثم تناولت كل أصل من أصول الاعتقاد بشيء من التفصيل، وركزت على الأصل الأول، وهو العقيدة في الله، لأنه أصل الأصول، والركيزة التي يقوم عليها الإيمان والإسلام، وتعرضت تعرضًا سريعًا لنفي بعض الشبه التي يوردها الملحدون، بعد أن ذكرت براهين وجود الله، وفي ختام هذا الباب تحدثت عن أثر الإيمان في الأفراد والجماعات.
وعقدت الباب الثاني للآداب الشرعية ومكارم الأخلاق، فعرفت كلًّا منهما، وعرضت لجملة من الآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية.
وعرفت في الباب الثالث الفقه الإسلامي، وألقيت نظرة عجلى على أقسام موضوعاته، وفرقت بينه وبين الشريعة الإسلامية، وألمحت إلى مساره عبر القرون، ثم تحدثت عن الأسس التي قامت عليها الشريعة الإسلامية، وختمت بحثي في هذا الموضوع بتعريف موجز لكل أصل من الأصول التي قام عليها الفقه الإسلامي.
والأبواب الأربعة التالية عرضت فيها لعلوم انفصلت عن الفقه الإسلامي ولا غنى للمسلم عن أخذ فكرة وافية عنها.
ففي الباب الرابع عرضت للأسرة في الإسلام مبينًا أهميها ومنهج الإسلام في تكوين الأسرة معرجًا على نظام الطلاق في الإسلام رادًّا للشبهات التي أثيرت حول
تعدد الزوجات، وعقدت فصلًا طويلًا لبيان وضع المرأة في التشريع الإسلامي، كاشفًا اللثام عن أدعياء التقدم الذين يزعمون مناصرة المرأة وواقع الأمر أنهم يدمرونها ويدمرون الأسرة، وبينت كثيرًا من الشبهات التي أثارها المستغربون في دعواهم أن الإسلام ظلم المرأة.
وفي الباب الخامس تعرضت لنظام العقوبات في الإسلام، وبينت أنواع الجرائم والعقوبة التي أوقعتها الشريعة على كل منها، ورددت بعض الشبهات التي تثار حول العقوبات في الإسلام، وأعطيت صورة عجلي لوضع الجريمة في العالم الغربي، تبين الدمار الذي تنحدر إليه تلك المجتمعات عاجلًا أم آجلًا.
وفي الباب السادس، تعرضت للنظام الاقتصادي الإسلامي، مبينًا أهم المبادئ التي يقوم عليها هذا النظام، معرفًا بالمجالات الإقتصادية الإسلامية، وفي ثلاثة فصول عرضت عرضا سريعًا، لأنواع الملكية والربا والمصارف الإسلامية.
وفي الباب السابع والأخير عرضت للنظام السياسي الإسلامي، وقد افتتحته بالتدليل على وجود هذا النظام في الإسلام، مبينا أن الذين نفوا ذلك مغرضون، ثم تحدثت في فصلين متتاليين عن مميزات الدولة الإسلامية ووظيفها، وفي الفصل الرابع تحدثت عن رئيس الدولة الإسلامية: ألقابه والشروط الواجب توافرها فيه، وطريقة اختياره، وحقه على الرعية، وحق الرعية في الدولة الإسلامية، وختمت هذا الباب كما ختمت كل باب قبله يذكر بعض المؤلفات في النظام السياسي.
وأحب أن أقرر في خاتمة هذا التمهيد أن هذا الكتاب جاء ليعطي فكرة عن الإسلام وعن العلوم الدائرة في فلكه، ولم يأت ليبلغ الغاية في كل علم من العلوم التي تعرضت لها فيه، لأن هذا ليس شأن الثقافة، بل شأن الدراسات المتخصصة، وأحب أن أصرح أيضًا بأنني لم أبلغ الغاية في بحثي، فالكمال لله
وحده، ولكنني بذلت في ذلك جهدًا ليس بالقليل، وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت، وأسأله تعالى إن كان هذا الكتاب صالحًا نافعًا - أن يهيئ انتشاره في بقاع الأرض لينتفع به عباد الله الذين يريدون معرفة دين الله، وأن يسخر الصالحين من القائمين على شأن التعليم في بقاع الأرض لتسهيل الانتفاع به في مجال الثقافة الإسلامية في المعاهد والجامعات، وأسأل الله تعالى أن ينفعني به ويثيبني عليه، ويجعله حجة لي لا علي في يوم لقياه، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
د. عمر سليمان الأشقر
كلية الشريعة - جامعة الكويت