الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عَرَف خُلُقَه أصحابُه وأعداؤُه على حدّ سواء، وتحدث به الركبان، ولم يجد الخصوم في خلقه مطعنا.
وقد وصف لنا الصحابي الجليل أنس بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عالما به حق العلم، فهو خادمه الذي لازمه عشر سنين، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس"(1).
وانظر إلى هذه الصورة الرائعة التي ينقلها أنس عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفًّا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا"(2).
وكما أثنى الله على الأخلاق الفاضلة وأهلها، حذر من الأخلاق الذميمة وأهلها، ففي محكم التنزيل {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم: 10 - 13].
ومما وصى به لقمان ابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
المبحث الثاني المجاهدة في إصلاح الأخلاق وتقويمها
ذهب بعض الباحثين والفلاسفة إلى أن الأخلاق غرائز في النفس الإنسانية لا تقبل تقويمًا ولا تعديلا، وقد استغل هذه المقالة من ثقلت عليهم مجاهدة نفوسهم،
(1) رواه مسلم: شرح النووي على مسلم: 15/ 48.
(2)
رواه مسلم: شرح النووي على مسلم: 15/ 51.
وذهبوا يبررون ما أقاموا عليه من ذميم الأخلاق بأنه ليس في وسعهم تغيير ما غرس فيهم من الأخلاق الذميمة، والصواب من القول أن من الأخلاق الكريمة ما يطبع عليه صاحبه، فهذا يحمد الله على ما آتاه الله من فضيلة، ومن الأخلاق الكريمة ما ينال بالاكتساب والمجاهدة، وقد وقع في حديث أشج عبد القيس عند أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة، قال: يا رسول الله، قديما كانا فيَّ أو حديثًا؟ قال: قديمًا، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما"(1)، قال ابن حجر العسقلاني معقبا على الحديث:"فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب"(2)، وقد نقل ابن حجر مقالة القرطبي في هذا الموضوع حيث يقول:"الخلق جبلة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودا، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى"(3).
والأدلة على أن الأخلاق قابلة للتعديل والتقويم كثيرة منها:
الأول: الرؤية والمشاهدة، فنحن نشاهد الجبان تحول بالمجاهدة والتدريب إلى شجاع، كما نرى الكذوب بالتربية والتعليم أصبح صادقًا، وكم رأينا من رجال ساءت أخلاقهم عندما خالطوا الأشرار، وكم من رجال حسنت أخلاقهم عندما هدوا إلى الإيمان والأعمال الصالحة وعاشروا عباد الله الصالحين.
الثاني: أننا نرى دائما حيوانات تغيرت طباعها، بالتدريب والتعليم، فقد حدث
(1) فتح الباري: 10/ 459.
(2)
فتح الباري: 10/ 459.
(3)
المصدر السابق
أن دُرِّب الهرُّ حتى عاش مع الفأر، والكلب مع الهر، ودربت القردة على أمور كثيرة عجيبة، فإذا أمكن تقويم طماع الحيوان، فالإنسان من باب أولى.
الثالث: جاءت جميع الشرائع داعية إلى مكارم الأخلاق ناهية عن ذميمها، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بِاللَّهِ} [النحل: 127].
وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
فلو كان تقويم الأخلاق وتهذيبها غير مستطاع فإن دعوة الشرائع إلى ذلك يكون عبثًا لا طائل تحته، وكل عاقل يعلم أن الله ما أمر إلا بالممكن المستطاع، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
الرابع: صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشرَّ يوقه"، رواه الخطيب عن أبي هريرة وسنده حسن، (1) ويمكن أن يستدل أيضًا بحديث أشج عبد القيس وقد سبق ذكره، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من ربّه الهداية لأحسن الأخلاق، فمن دعائه في استفتاح الصلاة:"واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئهما إلا أنت"(2)
(1) انظر تحقيق "تهذيب موعظة المؤمنين": 2/ 5.
(2)
رواه النسائي بإسناد صحيح (انظر صفة صلاة النبي: ص 74).