الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث الثقافة الإسلامية بين الأصالة والانحراف
المبحث الأول أهم معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة
كلما انضبطت ثقافة الأمة الإسلامية بالاسلام كلما صعدت في مدارج الرقي، وقد تحقق هذا الكمال في عصر الصحابة والتابعين، ثمَّ دخل في ثقافة الأمة، ليس منها، وعند ذلك خالطها الدخن الذي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم به، وقد يشتد هذا الدخن حتى لا تكاد تظهر معه معالم الثقافة الإسلاية الأصيلة، وقد يخف نتيجة جهود الدعاة والمصلحين فتعود الأصالة إلى البروز.
والباحث في هذا الجانب لا بدَّ أن يعود إلى أمرين:
الأول: الإسلام، لأنه هو الذي شكل ثقافة الأمة، ووضع لها القواعد والضوابط.
والثاني: المجتمع الإسلامي، الذي تفاعل مع الإسلام وكوّن تلك الثقافة في واقع مشهود، بحيث أصبحت إطارًا تؤثر في حياة الأفراد وتوجهاتهم.
وسنحاول أن نبرز في هذا المبحث أهم معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة:
1 -
بناء العقل الإنساني بناء سويّا:
لقد كان العقل الإنساني نتيجة المبادئ الضالة والانحرافات العقائدية -
مشوها في بعض جوانبه، مظلمًا في جوانب أخرى، يفكر تفكيرًا معوجًا، ويحكم حكما مشربًا بالهوى، لقد ارتضى العقل الإنساني الخضوع للأشجار والأحجار، وعبد الشمس والقمر، والإنسان والحيوان، وسيطرت عليه الخرافة، فاعتقد أن الملائكة بنات الله، وظن أن أرواح الملائكة حَلت في النجوم، وقامت الحروب انتصارًا لعقيدة فاسدة يكذبها الواقع الصادق، فجاء الإسلام ليعيد ترتيب العقل الإنساني، ويكشف عنه الزيف والخرافة، ويفك عنه إساره، ثم يطلقه ليعرف ربّه من خلال آياته المسطورة والمنظورة، ثمَّ يأمره أن يفكر في نفسه وفي الكون بقصد البناء والإعمار.
2 -
وضوح الهدف والغاية:
أصدق ما يطلق على البشر الذين لم يهتدوا بهدي الله أنهم ضالون، والضال هو الضائع التائه الذي لا يعرف طريقه ووجهته، والبشر قبل إشراق نور النبوة كانوا كذلك، الأنعام أهدى سبيلًا منهم، لا يعرفون لماذا خلقوا، ولا يعلمون الوجهة التي ينبغي أن تتجه أعمالهم وأقوالهم إليها، فجاء الإسلام فعرفهم بالهدف والطريق الموصل إليه، وقال لهم أنتم مخلوقون لعبادة الله وحده، وهذا الدين أنزله الله إليكم ليدلكم كيف تعبدونه، وعرفهم بالجزاء الذي يستحقونه في حال استقامتهم، وفي حال اعوجاجهم.
وعندما وضح السبيل والغاية وتحركت الأمّة الإسلامية في المسار الصحيح صلح أمر الناس، وإنجابت عنهم الظلمات.
3 -
الإيمان الصادق العميق:
الذي ينظر في المجتمع الإسلامي يجد أن أفراده كانوا شديدي الصلة بالله،
وكان ارتقاء الفرد في مجتمعه محكوما بارتقافه بصلته بربّه، وإذا خبا هذا الاتصال فإن الفرد يضعف، وتبدو عليه علامات المرض، والإيمان الصادق معرفة قويّة قويمة بالله، وتوجه إليه بالقلوب والمشاعر توكلًا واعتمادًا وحبًا ورجاءً وخوفًا، وتوجه إليه بالعمل، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [سورة الأنعام: 162 - 163].
4 -
الانتماء لأمة الفكرة والعقيدة:
أصبح الانتماء في المجتمع الإسلامي للأمة الإسلامية، والأمّة في الإسلام هي الفئة التي ارتضت أن تجتمع على أساس من عقيدة الإسلام بغض النظر عن اختلاف أجناسها ولغاتها وألوانها وديارها.
وكانت العصبيات القبلية والجنسية ولا زالت تمزق الشعوب وترفع بينها لواء العداوة والبغضاء، وتقوم الحروب ليؤكد كل فريق أنه الأعز.
جاء الإسلام ليقول للناس: أصلكم واحد، وأبوكم واحد، وربكم واحد، ودينكم واحد، فالتفاضل بينكم بالتقوى، لا باللون أو الجنس.
وارتقى المسلمون في تصورهم للعلاقة التي تربط بين البشر إلى مستوى القمة، فالرابطة التي تجمعهم رابطة العقيدة، والأمة التي ينتسبون إليها هي أمّة الإسلام.
5 -
مجاهدة الباطل:
التقوى والفجور خطَّان يتعاوران النفس الإنسانية والمجتمعات الإنسانية، وقد مرنت المجتمعات الإسلامية بتوجيهات الإسلام على محاربة الباطل، فالإنسان
يحارب النفس الأمارة بالسوء، ووساوس الشيطان، وهو يأمر غيره بالعدل والحق، ويحارب الباطل الذي يتلبس به، والأمّة في مجموعها تدعو إلى الحق وتحارب الباطل الذي يطل بعنقه هنا وهناك، وتجرد الجيوش لمحاربة أهل الكفر والضلال.
وإذا نظرت إلى هذا المعلم من خلال المجتمع الإسلامي تجد الأمثلة لديك وفيرة، والنصوص الآمرة بذلك كثيرة، فلقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الحق، وبعد قيام المجتمع المسلم حارب الباطل الذي كان يخالط النفوس، وحارب المسلمون الكفار، وحارب الصحابة المرتدين، ووقف العلماء في وجه الحكام الظلمة، ووقف الإمام أحمد في وجه الزيغ العقائدي، وكانت العقوبات توقع على العصاة والمتمردين
…
6 -
السعي لاستعمار الأرض:
لم يكن المسلمون فئة من الكسالى القاعدين، بل كانوا دائمًا وأبدًا ذوي همّة عالية، يجوبون البلاد، يبحثون ويثمِّرون ويعمِّرون، استجابة لأمر الله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10].
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
وآثار المسلمين شاهدة في كل قطر نزلوه أنهم لم يكونوا مخربين، بل معمرين، هذه آثار حضارتهم في بلادنا، وتلك آثارهم في الهند والأندلس وتركيا وكثير من دول أوربا.
وهذا الاستعمار لا بدَّ له من العلم، فالعلم خارطة العمل، واستعمار الأرض لا يمكن أن يتحقق للجهلاء، فالأرض لا تخرج كنوزها، ولا تنقاد لمن يستعمرها
ما لم يكن معه المفتاح، ومفتاح ذلك العلم الذي يعرفنا بالسبيل الذي يسخر لنا فيه الكون.
7 -
تحقيق المبادئ في عالم الواقع:
إن الدول التي ترفع الشعارات الجملة كالحرية والعدل والمساواة والإخاء اليوم هي أشدُّ الدول انتهاكا لهذه المبادئ واعتبر بأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وما فعلته هذه الدول بأمّة الإسلام في عصرنا الحاضر، بل إن الذين يستظلون بظل هذه الدول من أبنائها ليعانون من الظلم والعبودية والتفرقة في الحقوق والواجبات، وما أمر المتشدقين بالشيوعية في روسيا بسر، فأفراد الحزب الشيوعي يملكون كل شيء، بينما الأمّة مغلوبة على أمرها، تعيش كالقطيع لا تملك من أمرها شيئًا.
لقد حقق المسلمون العدل في أرقى صوره، لقد كان القاضي المسلم يحاكم الخليفة، ويقضي عليه، وقد كان القاضي لا يفرق في قضائه بين حاكم ومحكوم، وكانت روح الإخاء هي التي تسيطر على أبناء المجتمع الإسلامي.
8 -
وضع الضوابط والتنظيمات والتشريعات:
الفرد المسلم والأمة المسلمة كلهم محكومون في تصرفاتهم وأعمالهم بالشريعة الإسلامية، ولذلك فإنهم يعلمون ما يأخذون وما يدعون، وكيف يتصرفون فيما بينهم، وكيف يعاملون خصومهم، وهذا يوحد مسارهم، ويضبط حركتهم، ويؤلف قلوبهم، ويعلي كلمتهم، وهذه الضوابط والتنظمات والتشريعات كلها
كاملة وافية، ولذلك جاءت صورة المجتمع المسلم في غاية الضبط والتنظيم والتماسك.
9 -
الصبغة الأخلاقية الطاهرة:
والأخلاق هي الضابط الأعظم في حياة الفرد وحياة الأمة، والمسلمون يحرصون على العمل بمقتضاها مهما كان الثمن باهظًا، لقد أوقف المشركون جماعة من المسلمين المستخفين في إسلامهم، كانوا ذاهبين إلى المدينة أثناء حصار المشركين للمدينة في موقعة الخندق، ولم يسمحوا لهم بالمرور إلا بعدما أخذوا عليهم العهود والمواثيق بأن لا يحاربوهم مع المسلمين، فلما أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم"(1)، ولم يأذن لهم بالمقاتلة معه، وعندما أخرج الذين كفروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة لم يسمح لنفسه بالاستيلاء على أمانات الكفار، بل أمر عليًّا بردها إلى أهلها، والقصة معروفة مشهورة.
ولقد تحدثت بأخلاق المسلمين الركبان في المشارق والمغارب، ولقد كانت هذه الأخلاق من أعظم ما حبب الكفار بدين الإسلام، فدخلت الأمم المغلوبة في دين الله أفواجًا، لمّا رأوا عدل المسلمين، وصدقهم ووفاءهم بالعهود، وما كان للمسلمين إلا أن يكونوا كذلك والإسلام يأمرهم بذلك {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
(1) رواه مسلم عن حذيفة: صحيح الجامع الصغير: 6/ 33.