الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الأسس التي بنيت عليها الشريعة الإسلامية
قامت هذه الشريعة المباركة على أسس كثيرة، استقرأها العلماء من نصوص الكتاب والسنة، ونحن سنكتفي بثلاثة منها في هذا الكتاب:
أولًا: اليسر ورفع الحرج:
هذه الصفة بينة واضحة في جميع أحكام هذه الشريعة، وكونها ميسرة لا حرج فيها هو نتيجة منطقية لسعتها وكمالها، وقد نص الله على هذا المعلم في أكثر من موضع في كتابه الكريم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
وقد بلغ اليسر في الشريعة إلى درجة التخفيف من الواجبات عند وحود الحرج، والسماح بتناول القدر الضروري من المحرمات عند الحاجة، فالذي لا يستطيع استعمال الماء لعدم القدرة عليه أبيح له التيمم {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43].
والمريض والمسافر يباح لهما الفطر {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
وقال في حق الذي لا يجد قوتا حلالا:
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيهِ} [البقرة: 173].
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للمريض: "صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب"(1).
وكان من معالم اليسر في هذا الدين المبارك أن أباح الله لنا الطيبات، ولم يحرم علينا طعامًا ولا شرابًا إلا إذا كان خبيثًا، وإباحة الطيبات كلها هو مقتضى رفع الله تلك الآصار التي حملها الأمم من قبلنا، فقد وضع الله على الذين هادوا آصارًا وأغلالًا بسبب تمردهم على ربهم {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160 - 161].
لقد جاء النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله في الكتب السابقة وفي القرآن ليرفع عن البشرية الآصار والأغلال التي حملتها الأمم عبر القرون، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَال الَّتِي كَانَتْ عَلَيهِمْ} [الأعراف: 157].
(1) صحيح البخاري، كتاب تقصير الصلاة 19، وانظر فتح الباري: 2/ 587.
لفد كان الوحي وهو يتنزل يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بمنهج اليسر، ويقوم معوجَّ المسلمين في هذا الجانب، ويسددهم حين يكون الانحراف.
وقد فقه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج الذي أراده الله بهذه الأمّة، فقام على تحقيقه في نفسه وفي الآخرين، فكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يسوا كلها، كيف لا، وقد وعده الله بأن يكون كذلك، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8].
إن الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يعجب لذلك اليسر المدهش الذي كان يأخذ به نفسه في عبادته ودعوته وتعامله مع أصحابه وأعدائه، كان يصوم من الشهر حتى يقول القائل لا يفطر، ويفطر من الشهر حتى يقول القائل لا يصوم، وإذا وجد طعاما أكل، وإذا وجد شرابًا: عسلا أو غيره شرب، وإلا صبر، يدعى فيستجيب، ويسأل فيعطى، في كلمات قليلة يعالج أمراضًا نفسية استحكمت في النفوس، وفي بساطة وسهولة يقيم الحجّة على الخصوم، وبالطريقة نفسها كان يقود المجتمع المسلم، ويقود الجيوش.
وكان يرقب الرسول صلى الله عليه وسلم صحبه الكرام، فإذا رأى منهم ميلًا إلى التعسير ردهم إلى التيسير، وأرشدهم إلى الأخذ بالرفق، وقد وجههم توجيها عامّا إلى هذا انمهج المبارك، فقد ثبت عنه في صحيحي البخاري ومسلم قوله:"يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (1) "، "ودخل المسجد يوما، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت به، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد" رواه البخاري والنسائي (2)، وهكذا يرد الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه إلى اليسر، إذا أتعبها طول القيام في صلاة الليل، فلا حرج عليها أن تصلي قاعدة، ودخل يومًا على زوجه
(1) جامع الأصول: 1/ 309.
(2)
جامع الأصول: 1/ 311.