الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع خصائص الثقافة الإسلامية
الثقافة الإسلامية ثقافة فريدة متميزة بين الثقافات، ذلك أن ثقافات الأمم هي نتيجة لأفكارها ومعتقداتها وعاداتها، فالثقافة وإن شكلت إطارًا يحيط بكل أفراد المجتمع بحيث يوجه قلوبهم ووجوههم وجهة معينة، إلا أنها نتاج المجتمع نفسه.
أما الثقافة الإسلامية فإن أصولها العقائدية والأخلاقية والعملية وحى الهي رباني، فالإسلام هو الذي أنشأ عقائد الأمّة الإسلامية وتصورها وأخلاقها وقيمها، وهو الذي حدد مسارها، وبين منهجها، ووضع لها قانونها، وأقام لها الضوابط التي تعصم الفكر من الانحراف، وهيمن الإسلام على الدراسات الإنسانية، وقوم الفنون التي تمارسها الأمّة: خلاصة القول أن الإسلام هو الذي صنع الأمّة، فالفرق بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى ليس به خفاء.
والثقافة الإسلامية بين الثقافات الإنسانية نسيج وحدها، فهي كالزيتونة التي وصفها الله في كتابه {زَيتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] والسرّ الكامن وراء ذلك أن الذي بنى أصول هذه الثقافة، وحدد مسار فروعها هو الإسلام، والإسلام منهج إلهي رباني فريد.
وسنتناول بعض خصائص الإسلام الذي قامت عليه الثقافة الإسلامية
1 -
صبغة إلهية ربانية:
سبق أن بينا أن الثقافة هي أسلوب الحياة السائد في مجتمع من المجتمعات،
وأصدق ما يوصف به نمط الحياة الذي تحياه الأمّة الإسلامية - أنّه صبغة إلهية، فأنماط الحياة عند غير المسلمين تحددها العادات والتقاليد والنظريات والمناهج التي يضعها مفكروها وعباقرتها، وتتفرد الأمّة الإسلامية دون غيرها بنمط إلهي، أصدق ما يقال فيه إنه صبغة إلهية، كما قال تعالى:{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138].
فالله أنزل لنا دينا بين لنا فيه الحال التي ينبغي أن نكرن عليها في أحوالنا الظاهرة والباطنة، كما وضَّح لنا الغاية التي ينبغي أن نهدف إليها من وراء الحياة، لقد أوضح لنا ديننا الأسلوب الذي تنهجه الأمَّة الإسلامية في حياتها، وقد سماه القرآن الكريم الصراط المستقيم، وشرع لنا أن ندعوه أن يهدينا إليه في كل ركعة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
وهذا الطريق مخالف لطريق اليهود والنصارى والمشركين في القديم والحديث {غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].
ولم يتوف الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اتضح الطريق والمنهج الذي تسير عليه الأمّة الإسلامية في حياتها، {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
وقد سمى القرآن هذا الطريق أيضًا سبيل المؤمنين، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فسبيل المؤمنين كانت واضحة بينة، وهي التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم واقتدى به أصحابه فيها عملا بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].
وقد سار على ذلك النهج التابعون وأتباعهم، ومن شذَّ عن هذا السبيل عدَّ فاسقًا أو كافرًا بحسب المعصية التي يرتكبها، وهذا السبيل الإلهي الرباني سبيل ثابت،
فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"(1)، والخلق الصفة الثابتة الراسخة، وإذا تفكر المسلم في شأنه وحاله وجد أنه يعرف سبيله وطريقه: في عقيدته، وإرادته، وأعماله القلبية: من الخوف، والرجاء والرغبة، والرهبة، والحب والبغض، كما يعرف ما يأخذ وما يدع من أعمال، وما يقوم به من عبادات تجاه ربه، بل يعلم سبيله في كثير مما يدخل في العادات من طعام ولباس ونكاح ومسكن واجتماع وافتراق
…
الخ.
وقد بلغ من دقة هذا السبيل الذي أعيناه أسلوب حياة الأمّة أن المسلم عندما يتنقل في ديار الإسلام لا يشعر بالغربة مهما نأت به الديار، ذلك أن سبيل المؤمنين في عقائدهم وتصوراتهم وأفكارهم وعباداتهم وأعمالهم سبيل واحد.
وفي ظلال هذه الصبغة الإلهية التي تحيط بالأمّة الإسلامية تتربى الأجيال، فتتشرب الأسلوب الذي تحيا به الأمّة، فيتربى الناشئة على الإسلام وتعاليمه وآدابه وأخلاقه.
2 -
اتساع آفاقها:
الثقافات الإنسانية ثقافات ضيقة، يعيش أفرادها في إطار ضيق من الحياة الدنيا، أمّا الثقافة الإسلامية فآفاقها رحبة واسعة، وقد عبر عن هذا المعنى موفد المسلمين إلى قائد جيش الفرس، حيث قال له مبينا الهدف الذي خرجوا من أجله:"الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"(2).
(1) رواه مسلم.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير: 7/ 39، وموفد المسلمين هو ربعي بن عامر.
فالبشر في المجتمعات الجاهلية تحكمهم قوانين البشر، وعادات البشر، وأعراف البشر، وتسرى فيهم العقائد الضالة المحرفة، وكل ذلك يشكل ضيقا في الأفق، ويحجر على الفكر، ويجعل العباد يعيشون في دائرة ضيقة تقيد أعمالهم، ويؤيد الأمر آصارًا وأغلالًا أن العباد يحصرون أنفسهم في ظلال المناهج الجاهلية في دائرة الحياة الدنيا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
وهذه الدائرة الضيقة، وذلك الضلال عن الآخرة يحوَّل الحياة إلى شقاء وأي شقاء، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
انظر كيف حصر الشيوعيون أنفسهم في نظرية ضالة لا تؤمن بخالق الكون، وتؤمن بأزلية المادة، وهي نظرية فاسدة، وانظر كيف أقاموا الحياة على ما سموه يصراع الطبقات، وكيف جعلوا الإنسان محكومًا للمادة، تسيره وتوجهه، ولا يملك لنفسه شيئًا، ومثل هذا يجعل المبدأ يضيق ضيقا لا يزيد عمّا كان يعيشه العابد للوتن، والساجد للصنم، والزاعم أن عيسى ابن الله تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، والثقافة الغربية كبقية الثقافات المعرضة عن هدي السماء قتلت أشواق الروح، وقطعت الصلة بين النفس وخالقها، فجفت فيها ينابيع المودة والمحبة والطمأنينة، وتحول الإنسان في عالم الغرب إلى آلة كبقية الآلات التي تعمل بغير شعور وإحساس.
3 -
عالمية الثقافة:
تقوم الثقافات البشرية على اعتبارات وأسس محكومة بالنظرة القومية والعنصرية، يقول رينان الفرنسي: "جنس واحد يلد السادة والأبطال هو
الجنس الأوربي، فإذا ما نزلت بهذا الجنس إلى مستوى الحظائر التي يعمل فيها الزنوج والصينيون فإنه يثور، فكل ثائر عندنا هو بطل لم يتح له ما خلق له، هو إنسان ينشد حياة البطولة، فإذا هو مكلف بأعمال لا تتفق وخصائص جنسه، إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح أو كائن لم يخلق لحياتنا" (1).
وصنف هتلر البشر فجعل أمته في المرتبة الأولى، وجعل العرب في المرتبة الرابعة عشرة، ولم يبق وراءهم إلا اليهود والكلاب، وكان شعاره: ألمانيا فوق الجميع، ولا يزال داء العنصرية يسري في الأمم الغربية، فالأسود هناك ممقوت مكروه، يضرب ويهان، ويحرم من حقه في التعليم والوظائف، ولا عجب إذا رأيت لافتة كتب عليها: ممنوع دخول السود والكلاب، ولذلك فإن الزنوج هناك يثورون بين فترة وأخرى ويقتلون ويدمرون، وينتسب بعض الناس إلى رقعة من الأرض يسمونها الوطن، بها يعتزون وإليها ينتسبون.
أما الثقافة الإسلامية فليست ثقافة العرب ولا الفرس ولا البربر، وليست ثقافة الرجل الأبيض ولا الأسود، إنها ثقافة البشر كلهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم، لم توضع لجنس ولا لون ولا بيئة معينة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
إن الإسلام يقرر أن انقسام البشر إلى شعوب وقبائل إنما هو للتعارف، لا للتناحر والتقاتل والتفاضل، أما مقياس التفاضل في الإسلام فهو التقوى: الإيمان والعمل الصالح.
(1) الثقافة الإسلامية لعبد الكريم عثمان: ص 16.
وفي ظل هذا المقياس الذي وضع للناس كافة يرتقي الناس جميعًا، ويتنافسون في ميدان العمل الصالح، لا فرق بين أبي بكر العربي، وبين سلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وتدخل الشعوب في الإسلام، فلا تشعر بغضاضة في نفوسها، ذلك أن الناس في ظل الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وقد جاءت تعاليم الإسلام للإنسان كإنسان بغض النظر عن جنسه ولونه وموطنه، فالعناصر الثقافية الإسلامية: التربوية، والنفسية، والروحية، والأخلاقية - جاءت أحكامها وفق الطيعة الذاتية للإنسان مجردة عن إطار الزمان والمكان، ذلك أن الإنسان كإنسان ثابت لا يتغير، ولا يتبدل في روحه وعواطفه وأشواقه وضروراته وغرائزه، والجانب المتغير في الإنسان هو الجانب العملي، أو الجانب الذي يتعامل فيه الإنسان مع الكون.
إن هذا الدين يسع البشرية كلها، لأنه من عند الله، منزل إلى الناس كلهم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28].
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
أمَّا الثقافات البشرية فكل أمّة تستمد ثقافتها من مألوفها وذوقها وموارثيها الأدبية وظروفها الجغرافية، وضروراتها الإقليمية، وحاجاتها الاجتماعية، فكيف يمكن أن ئكون ثقافة أمّة من هذه الأمم ثقافة للعالم كله، وهذا يدلنا على بطلان ما ينادي به الغرب من عالمية الثقافة الغربية.
وغاية الإسلام إيجاد الإنسان الصالح، أما المبادئ الأرضية فغايتها تكوين المواطن الصالح، الإسلام يجعل كل إنسان هدفًا لمنهجه، بينما المبادئ الأرضية تتجه إلى فئة معينة من الناس دون سواهم.
4 -
الشمول والكمال:
يتصف الدين الإسلامي الذي تقوم عليه ثقافتنا بالشمول والكمال، ويتبدى هذا الشمول في أمور كثيرة نكتفي منها بثلاثة:
الأول: العقيدة التي تعطى المسلم تصورًا كاملًا عن الإنسان والكون والحياة، كما تعطي تفسيرًا للقضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني، ولا تزال تشغله، فالإنسان كان ولا يزال يتساءل عن أصله ونشأته، ومصيره ونهايته، ومنشئه وعلاقته بخالقه ومنشئه، ودوره في هذا الوجود، والعوالم الخافية المستورة وراء هذا الكون المشهود، وعلاقته بتلك العوالم، والعقيدة تجيب عن ذلك كله.
الثاني: إحاطة الشريعة بالإنسان، فهي من جانب تصاحب الإنسان طفلًا وشابًا وشيخًا، بل إنها تعنى به قبل ميلاده، وبعد وفاته، فهناك أحكام الجنين، وأحكام تتعلق بالموتى، من غسل وتكفين وصلاة وقسمة ميراث، ونحو ذلك، وتعني أيضًا بجوانب حياته كلها، في زواجه وطلاقه، وطعامه وشرابه، وعسره ويسره، وأفراحه وأتراحه
…
ومن جانب ثالث تعنى بروحه وجسده وعقله.
وكما عنيت الشريعة بالفرد عنيت بالمجتمع في كل المجالات التي تهمه. الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
الثالث: الشريعة قانون شامل يضم كل القوانين التي سماها البشر بأسماء مختلفة، كالقانون الدستوري، والقانون المدني، والقانون الإداري، والقانون المالي، والقانون الجنائي، والقانون الدولي.
5 -
التوازن:
إن الموازنة بين الحقوق والواجبات، والموازنة بين الحقوق بعضها مع بعض،
والواجبات بعضها مع بعض، والموازنة بين مطالب الروح والجسد أمر عسير ليس بالسهل، فالإنسان يغرق بطبعه في الميل إلى أحد الجانبين، وهذا الميل يسبب فسادًا للفرد والمجتمع.
وقد جاء الإسلام بتشريعه حافظًا هذا التوازن، فأمر الإنسان بعبادة ربه، ولكنه أمره أن يصرف شيئًا من اهتمامه لنفسه وأولاده ومجتمعه، وجعل ذلك نمطًا من التعبد.
وأمره أن يصرف همه للدار الآخرة ونهاه عن أن ينسى نصيبه من الدنيا، ونهاه عن تحريم الطيبات التي أباحها الله لعباده، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الانقطاع للتعبد، وترك الجهاد والزواج.
ووازن بين مطالب الروح والجسد، كل ذلك وفق توازن عجيب يبرز خصائص الإنسان، ويقيم الحياة على نحو فريد.
6 -
الإيجابية الفاعلة:
إحدى السمات البارزة في ثقافة الأمّة الإِيجابية الفاعلة، فالإسلام يأمر أتباعه بالسعي في الأرض وإعمارها، وفي مجال الحياة الاجتماعية لا يتوقف عند النهي عن الإفساد في الأرض بالقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر وتخريب الحضارة والعمران، ولكنه يأمر بالإصلاح والتعمير، وتستطيع أن ترى هذا المبدأ من خلال أمر الإسلام بالمعروف ونهيه عن المنكر {كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ونراه من خلال الأمر بالتعاون على البر والتقوى والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
إن الثقافة الغربية تقول: لا تؤذ عيرك، لا تؤذ جارك، لا ترم الأذى في الطريق، ولكن الإسلام يقول ذلك ويضيف إليه أحسن إلى غيرك، أحسن إلى جارك، أمط الأذى عن الطريق، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
وفي الحديث "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"(1).
7 -
الواقعية:
ليس المراد بالواقعية الرضا بالحال التي عليها الإنسان في حال سموه، وفي حال انحداره، كما هو حال الأدب الهابط الذي يصف الواقع المريض الذي يعيشه كثير من البشر، ولكن المراد بالواقعية أنها تضع التشريعات للإنسان من حيث هو إنسان، فالإنسان فيه القوة والضعف، يعلو أحيانًا ويهبط أحيانًا، وهو بحاجة إلى الشريعة التي ترقى به إلى مدارج الكمال، وتثني على استقامته إذا استقام، وتبصره بخطئه حين يخطئ، وتفتح له باب التوبة إذا عصى، وتشرع له الرخص التي يأخذ بها حين الضعف والمرض وعدم القدرة على العمل، والشريعة الإسلامية هي التي تفعل ذلك كله، أحلت الطيبات وحرمت الخبائث، وأحلت للمضطر تناول ما حرم عليه من الطعام، وأوجبت الوضوء للصلاة، وأباحت التيمم حين فقد الماء أو حين عدم القدرة على استعماله، وألزمت بالصلوات في أوقاتها بأعدادها المقررة، ورخصت بالجمع والقصر في السفر، وشرعت الفطر للمسافر في رمضان.
(1) متفق عليه.
وكثير من المذاهب تفترض في الإنسان المضي في الحياة على استقامة، وحين يعجز البشر عن المضي وفق التشريعات المثالية يفقدون الثقة بتلك التشريعات أو يفقدون الثقة بأنفسهم.
وجانب آخر هو أن الشريعة لا تكلف البشر فوق ما يطيقون، بعكس الشرائع التي ترهق الناس بالتكاليف التي تسبب لهم العنت والإرهاق، فتصبح بذلك آصارًا وأغلالًا.
8 -
الحركة حول محور واحد:
لم تزل المذاهب البشرية المختلفة تتنازع النفس البشرية، فالمنهج الذي يسير عليه البشر البعيدون عن الوحي السماوي خليط من الأفكار والمبادئ والعقائد والتصورات، وهذه قد تتضارب فيما بينها، وتلك طبيعة المبادئ الأرضية {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فالمجتمع الواحد البعيد عن هدي السماء كالمجتمع الغربي اليوم - قد توجد فيه المثل التي تطالب بالأخذ بالفضيلة، وهي بقايا الدين النصراني المحرف، ولكن المذهب المادي النفعي القائم على الكفر بالله واليوم الآخر يناديه كي يغرق في الشهوات، ويعيش لدنياه فحسب، ودين الإنسان في الغرب يناديه كي يؤمن بالمسيح إلهًا وربا، فهو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وعقله يرفض هذا المنطق.
وهذا الاختلاف والتضارب في المناهج يمزق النفس الإنسانية، ويجلب لها الصراع الذي ينتج الهموم والحيرة القلق.
أمّا في الإسلام فإنَّ حياة المسلم تدور حول محور واحد ثابت، فهو يؤمن بالله
ربًا واحدًا لا شريك له، فلا تعدد في الأرباب ولا تعدد في الآلهة، ومن الله يستمد تصعوره ومعرفته لربه، ومعرفته للكون من حوله، ولما وراء الكون المشهود، كما يستمد منه القيم والأحكام التي يقوّم بها الأشياء، فلا تضارب ولا تعارض، ولا تصادم، لأنه يأخذ كل ذلك من الله تبارك وتعالى، ودين الله وِحْدة متكاملة تتوافق ولا تتعارض، وبذلك تتحقق طمأنينة القلب، وانشراح النفس، وهدوء البال، فلا عقد نفسية، ولا صراع داخلي، ولا قلق، ولا هموم.