الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا العشرون من شعبان ولت
يا إخوتاه ليس من رغب إلى الله كمن رغب عن الله -ليس من بقي مع الله كمن بقي عن الله- ليس من عمره كله رمضان كمن عمره كله للجشاء والطعام فمن الناس قوم قبل رمضان يأخذون بحظ أنفسهم من الشهوات والأكل ويقولون هي أيام توديع للأكل والطعام.
وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات وهذا هو الخسران المبين، وأنشد لبعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولت
…
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
…
فإن الوقت ضاق على الصغار
ونرد عليه:
إذا العشرون من شعبان ولت
…
فواصل ذكر ليلك بالنهار
وقال آخر:
جاء شعبان منذراً بالصيام
…
فاسقياني راحا بماء الغمام
ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله: (وقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها) الآية وربما تكره كثير منهم بصيام رمضان حتى أن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة شعراً:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر
…
ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقدرة
…
على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر
فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.
وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام.
وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الليالي ليعود إلى المعصية وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون.
كما يقول قائلهم أحمد شوقي:
رمضان ولى هاتها يا ساقي
…
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة وقد رويت من وجوه وهو أنه كان مصرّاً على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً فحملها فألقاها في التنور فاحترقت وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه، فمن أراد الله به خيراً حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين، ومن أراد به شرّاً خلى بينه وبين نفسه فأتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين - فالحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم وكم جلبت من نقم وكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديّار، كم أخذت من العصاة بالثمار، كم محت لهم من آثار.
يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه
…
عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر
فكل نفس ستجزى بالذي كسبت
…
وليس للخلق من ديانهم وزر (1)
فيا من ذنوبه كثيرة لا تُعدّ، ووجه صحيفته بمخالفته قد اسودّ، كم ندعوك إلى الصيام وتأتي إلى الصدّ، أما الموت قد سعى نحوك وجدّ، أما عزم أن يلحق بالأب والجد، أما ترى منعما أترب الثرى منه الخد، فاحذر أن يأتي على العاصي فإنه إذا أتى أبى الرد.
(1)"لطائف المعارف" بتصرف (ص 153-154) .
ألم يأن تركي ما عليّ ولا ليَا
…
وعَزْمي على ما فيه إصلاح حاليا
وقد نال مني الدهر وابيض مفرقي
…
بكرّ الليالي والليالي كما هيا
أصوّتُ بالدنيا وليست تجيبني
…
أحاول أن أبقى وكيف بقائيا
وما تبرح الأيام تحذف مدتي
…
بعد حساب لا كعدّ حسابيا
أليس الليالي غاصباتي مهجتي
…
كما غصبت قبلي القرون الخواليا
وتسكنني لحداً لدى حفرة بها
…
يطول إلى أخرى الليالي ثُوائيا
فيا ليتني من بعد موتي ومبعثي
…
أكون ترابًا لا عليّ ولا ليَا
فاغتنموا إخواني زمنكم، وبادروا بالصحة سقمكم، واحفظوا أمانة التكليف لمن أمنكم، وكأنكم بالحميم وقد دفنكم، وبالعمل في القبر قد ارتهنكم (1) ؟
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام؟!
باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتها فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم.
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم يا أهل الدار الصلاة الصلاة، قالوا طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني إلى قوم لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني.
قيل لبشر إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقط فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقّاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها.
وقيل لأحد الصالحين أيهما أفضل رجب أو شعبان فقال: كن ربانيّاً ولا تكن شعبانيّاً.
قال بعض السلف: صم الدنيا، واجعل فطرك الموت، الدنيا كلها شهر
(1)"التبصرة"(2/266-267) .