الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ينصركم، وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر. فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مَهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة.
قال محمد بن إسحاق: وحمل المنذر بن حسان بن ضرار الضبي على مهران قائد الفرس فطعنه واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يفصلونهم فصلاً، وسبق المثنى بن حارثه إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون. فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن بعد إلى الليل فيقال: أنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف ولله الحمد والمنة وغنم المسلمون مالاً جزيلاً وطعاماً كثيراً، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضاً، وذلت لهذه الموقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة فغنموا شيئاً عظيماً لا يمكن حصره.
قال الأعور العبدي:
هاجت لأعورَ دارُ الحي أحزانا
…
واستبدلت بعد عبد القيس حسانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
…
إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا
إذا كان سار المثنى بالخيول لهم
…
فقتل الزحف من فرس وجيلانا
سما لمهران والجيش الذي معه
…
حتى أبادهم مثنى ووحدانا (1)
فتح النوبة ومعاهدة القبط
سنة 31 هـ:
"سينقلنا الحديث إلى منطقة من مناطق المسلمين لنتعرف على بداية دخول الإسلام لها بعد معركة من معارك المسلمين العظيمة تمخضت عن عهد كان له عظيم الأثر في انتشار الإسلام في تلك البقاع.
أما المنطقة فهي بلاد النوبة الواقعة جنوب مصر، وأما قائد هذه المعركة فهو الصحابي الجليل عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
(1)"البداية والنهاية"(7/29-30) .
بدأت علاقة المسلمين بهذه المنطقة بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص -رضى الله عنه-، فقد أرسل حملة إلى بلاد النوبة بقيادة عقبة بن نافع الفهري رحمه الله فدخل تلك البلاد، ولقي المسلمون قتالاً شديداً، حيث كان النوبيون يُجيدون الرمي بالسهام فرشقوهم بالنبل حتى جرح عامتهم، فانصرف المسلمون وقد فقئت حدق الكثير منهم من جراء النبل ولذا سموهم "رماة الحدق"، وتمخض عن هذه الحملة عقد صلح بينهم وبين المسلمين تقررت من جرائه الهدنة.
وظلَّ الوضع على ذلك حتى تولى ولاية مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضى الله عنه-، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر وأفسدوا فيه، فخرج عبد الله بن أبي سرح بجيش تعداده عشرون ألفا وتوغل في بلادهم جنوبا ووصل عاصمتهم دنقلة فحاصرها حصارا شديدا ورماها بالمنجنيق وضيق على أهلها حتى اضطروا للتسليم، وطلب ملكهم "قليدور" الصلح، وخرج إلى عبد الله ابن أبي سرح، وأبدى ضعفا ومسكنة وتواضعاً فتلقاه عبد الله وقرر الصلح معه وعقدت بين الجانبين معاهدة فريدة من نوعها، كان لها عظيم الأثر على عملية انتشارالإسلام في شرق القارة الإفريقية، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة احدى وثلاثين هجرية.
وجاء في هذه المعاهدة:
"عهدٌ من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم التوبة ولجميع أهل مملكته: عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من أرض أسوان إلى حد أرض علوة أن عبد الله جعل لهم أماناً وهدنة:
إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نحاربكم، ولا نَنْصُبَ لكم حرباً، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم".
ثم يعدد العهد الشرائط تلك ومنها:
- عليكم حفظ من نزل بلادكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم.
- وعليكم رد من لجأ إليكم من مسلم محارب للمسلمين وأن تخرجوه من بلادكم.
- وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه
مصليا، ولا تعرضوا لمسلم قصده وجاور فيه إلى أن ينصرف عنكم، وعليكم كنْسه وإسراجه وتكرمته.
- وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم.
علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به
…
الله الشاهد بيننا وبينكم. وكتب عمر بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين هجرية.
هذا هو عقد الصلح الذي تم بين المسلمين وبين النوبة، وإذا نحن تمعنَّا في بنوده وجدناها عوامل مهمة لنشر الإسلام في تلك البلاد.
ولربما كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أدرك صعوبة فتح تلك المناطق لوعورة تضاريسها ولشدة أهلها في القتال، فأراد أن يوفر بهذه المعاهدة مناخاً مناسباً لانتشار الإسلام بصورة سلمية.
ولقد حصل هذا فعلاً فظلت المعاهدة أساسا للعلاقات بين المسلمين وبين النوبة حتى انتشر الإسلام فيها، وأصبحت بذلك جزءاً من العالم الإسلامي.
ولنعد إلى بنود المعاهدة لنرى أثرَها في ذلك.
كان من أول الشروط التي اشترطها عبد الله -رضى الله عنه- حفظ من دخل النوبة من المسلمين وهو بهذا يضمن سلامة الدعاة المسلمين، وكذلك التجار، فيدخلون إلى تلك المناطق، ويقومون بدعوة أهلها إلى الإسلام دون عوائق.
حيث إنهم تحت حماية الدولة الإسلامية، ولو كانوا خارج حدودها في بلاد النوبة.
واستفاد الدعاة من هذا الشرط، وتوغّلوا في تلك البلاد حتى وصلوا الحبشة وأواسط السودان الحالية، واستطاعوا تحويل أهلها إلى الإسلام.
ومن الشروط كذلك: حفظ المسجد الذي بني خارج عاصمة النوبة "دنقلة" بل واشترط عليهم كنسه وإسراجه وتكرمته وعدم منع المسلمين من الصلاة أو الإقامة فيه.
وهكذا ضمنت هذه المعاهدة بقاء مركزٍ للدعوة الإسلامية في تلك البلاد النصرانية، ذلك أن المسجد هو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول عمل يقوم به الدعاة هو بناء المساجد ومن ثم تبدأ الدعوة منها، ولا زال المسجد يقوم بدور كبير في القارة الأفريقية حتى الآن، بمعنى أنه يؤدي وظيفته الحقيقية. وقد ظلَّ مسجد "دنقلة" الذي بناه المسلمون منذ سنة إحدى وثلاثين هجرية فترة زمنية طويلة يؤدي رسالته في الدعوة الإسلامية، ويؤمه الدعاة من مختلف أقطار العالم الإسلامي فيستقرون فيه أو حوله ويدعون الناس إلى الإسلام مما كان له عظيم الأثر في تحطم الوجود النصراني والقضاء عليه.
وفي الشرط الأخير من شروط المعاهدة تعهد النوبيون بدفع ثلاثمائة وستين رأساً من الرقيق إلى والي المسلمين، ولقد كانت النوبة منذ القدم تشتهر بتصدير هؤلاء الرقيق فرأى قائد المسلمين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أن يستأثر بهؤلاء الرقيق للدولة الإسلامية، فإذا سُلِّموا للمسلمين أصبحوا مماليك دولة لا رقيق: أفراد، وينتج عن ذلك عدد من النتائج:
فهؤلاء يتحولون إلى الإسلام وينقذون من الكفر والضْلال لأنهم في الأصل إما من النصارى أو الوثنيين، ولذلك فقد قال أحدهم لتاجر أوروبي لقيه في مصر: إننا في الحقيقة لا نأتي من الحرية للرق، بل إننا نأتي من الرق الحقيقي والعبودية للبشر لنصبح أحراراً بالإسلام، وقد كان لهؤلاء بعد إسلامهم شأن في الدولة الإسلامية فكان منهم الجند والوزراء بل والولاة أحيانا، وبعض هؤلاء يؤثر العودة إلى موطنه بعد إسلامه فيعود إليها داعياً للإسلام، وهكذا فلم يمض القرن الثامن الهجري حتى أصبحت بلاد النوبة كلها بلاداً إسلامية وأهلها قد اعتنقوا الإسلام، وذلك بطريقة سلمية جراء تأثير بنود هذه المعاهدة، وفي هذا ما يدحض تلك الفرية التي طالما ردَّدها الغربيون وتلامذتهم وهي أن الإسلام لا ينتشر إلا بالقوة والسيف.
رضي الله عن عبد الله بن أبي سرح الذي مهد الطريق لنشر الإسلام في تلك البقاع" (1) .
(1)"من معارك المسلمين في رمضان" للدكتور عبد العزيز بن راشد العبيدي (ص 39-42) - مكتبة العبيكان وانظر "فتوح البلدان" للبلاذري (ص 331) ، و"الخطط" للمقريزي (1/200) ، و"فتوح مصر" لابن عبد الحكم (ص 188) .