الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رمضان شهر الشكر
رمضان شهر الشكر والحياء.. ولو سجدنا لله على إبر الشوك إلى يوم لقياه ما قدرنا حق عطاياه.. فكيف بنعم الله وفضله في رمضان شكر على الإسلام وكفى بها نعمة! أم شكر على نعمة البقاء وإدراك رمضان ونحن أحياء؟ أم شكر على غفران الذنوب؟ أم شكر على فتح أبواب الجنان؟ أم شكر على غلق أبواب النيران؟ أم شكر على تصفيد الشياطين؟ أم شكر على إجابة الدعاء؟ أم شكر على العتق من النيران؟ أم شكر على رفرفة الأرواح نحو الملأ؟ أم شكر على التحرير من ثقلة الأرض وحمأة الطين؟ أم شكر على التهجد والتراويح؟ أم شكر على الصدقات والتسبيح؟ أم شكر على مواساة الفقير؟ قال تعالى: (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) .
ولله در محمود الورّاق إذ يقول:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة
…
عليّ له في مثلها يجب الشكرُ
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله
…
وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
إذا مسّ بالسرّاء عمّ سرورها
…
وإنْ مسّ بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منّة
…
تضيق بها الأوهام والبر والبحر
الشكر لله درجات، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته، وتنتهي بالتجرد لشكره، والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن، وفي كل لفظة لسان وفي كل قطرة جنان.. مع كل خفقة ووجيب قلب.
ومن كلام شيخ الإسلام ابن القيم مفرقاً: "جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده)، وقال:(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) .
ومنزلة الشكر من أعلى المنازل، وهي فوق "الرضى" وزيادة، فالرضى مندرج
في الشكر بل يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل، وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى وهو نصف الإيمان.
* وقد قرن الله تعالى ذكره بذكره مع أنه قال: (ولذكر الله أكبر)، وكلاهما هو المراد بالخلق والأمر قال تعالى:(فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[البقرة: 152] .
* وقرن سبحانه الشكر بالإيمان فقال تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) الآية.
* وأخبر سبحانه أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنّته عليهم من بين عباده فقال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)[الأنعام: 53] .
* وقسّم العباد إلى شكور وكفور قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)[الإنسان: 3] .
* وقد أمر الله به، ونهى عن ضده وذمه، فقال تعالى:(إن الإنسان لربه لكنود)[العاديات: 6] .
يعد المصائب وينسى النعم.
يا أيها الظالم في فعلهِ
…
والظلم مردود على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى
…
تشكو المصيبات وتنسى النَّعَمْ
* وهو غاية الرب من عبده، وهو الغاية من خلقه وأمره، قال تعالى:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)[النحل: 78] .
* وقد أخبر سبحانه إنما يعبده من يشكره، فمن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال:(واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون) .
* وأول وصية وصى بها الإنسان بعد ما عقل عنه الشكر له وللوالدين: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصالُه في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير)[لقمان: 14] .
* وأخبر أن رضاه في شكره فقال تعالى: (وإن تشكروا يرضه لكم) .
* وأثنى على أهله ووصف به خواصّ عباده، وأثنى عليه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشكر نعمه فقال:(إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم)[النحل: 121] ، فختم صفات خليله بأنه شاكر، فجعل الشكر غاية خليله.
* وأمر عبده موسى أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر فقال تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين)[الأعراف: 144] .
* وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً)[الإسراء: 3] ، وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به فإنه أبوهم الثاني، فإن الله لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلاً إلا من ذريته كما قال تعالى:(وجعلنا ذريته هم الباقين)[الصافات: 77] .
* وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله: (وقليل من عبادي الشكور) .
* وقابل الله سبحانه بين الشكر والكفر فقال عن نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني كريم)[النمل: 40] .
* ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سبباً للمزيد من فضله (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [إبراهيم: 7] .
* وقد وقف سبحانه كثيراً من الجزاء على المشيئة كقوله: (فيكشف ما تدعون
إليه إن شاء) ، وقوله في الرزق:(يرزق من يشاء) ، وفي المغفرة (يغفر لمن يشاء) ، والتوبة (ويتوب الله على من يشاء)، وأطلق جزاء الشكر إطلاقاً حيث قال:(وسنجزي الشاكرين) ، (وسيجزي الله الشاكرين) .
* ولماّ عرف إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال:(ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) .
* واشتق الله للشاكرين اسماً من أسمائه، فإنه سبحانه هو الشكور، فأعطاهم من وصفه، وسمّاهم باسمه، وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلاً، وهو يوصّل الشاكر إلى مشكوره، بل يعيد الشاكر مشكوراً، قال تعالى:(إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً)[الإنسان: 22] .
* وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قام حتى تورّمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً".
وقال لمعاذ: "والله يا معاذ، إني لأحبك، فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"(1) .
* وقال صلى الله عليه وسلم: "ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الدنيا"(2) .
* والشكر مبني على خمسة قواعد:
(1)
خضوع الشاكر للمشكور وإضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له.
(2)
حبه له، قال سلمان: ذكر النعم يورث الحب.
(1) صحيح: رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان والحاكم في "المستدرك" وصححه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7969) .
(2)
صحيح: رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم في "المستدرك"، عن ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5355) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (2176) .
(3)
اعترافه بنعمته ومعرفته بها وقبولها.
(4)
ثناؤه عليه بها.
(5)
أن لا يستعملها فيما يكره.
ومن عدم واحدة منها: اختل من قواعد الشكر قاعدة.
أما معرفتها: فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها.
وقبولها: هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها، وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه، قال الجنيد:"الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة".
وهذا معنى قول حمدون -وما ألطفه-: "شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا".
* والثناء بها على المنعم: وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء.
* والتحدث بنعمته: ذكر النعمة والإخبار بها، والدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال تعالى:(وأما بنعمة ربك فحدث)[الضحى: 11] .
قال صلى الله عليه وسلم: "التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير"(1) .
ومن الرزية أن شكري صامت
…
عما فعلت وأن برّك ناطقُ
وأرى الصنيعة منك ثم أسرّها
…
إني إذاً لدى الكريم لسارقُ
نعم يا أخي: الشكر: عكوف القلوب على محبة المنعم، والجوارح على
طاعته، وجريان اللسان بذكره، والثناء عليه.
والشكر: قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة.
قال عمر بن عبد العزيز: قيّدوا نعم الله بشكر الله.
(1) حسن: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3014) ، و"السلسلة الصحيحة" رقم (667) .
* وشكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصة على قوت القلوب والتوحيد والإيمان.
نعم: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه، وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر.
والشكر معه المزيد فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
* والشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح:
فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
…
يدي ولساني والضمير المحجّبا
* والشكر أخص بالأفعال، والحمد أخص بالأقوال، فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله أو يشكر على نعمه.
وسبب الحمد أعمّ من سبب الشكر.
ومتعلق الشكر وما به الشكر أعمّ مما به الحمد، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح، ويحمد بالقلب واللسان.
وأي نعم الله تحصي في الدنيا أو في الآخرة.
عن عبد الله بن محصن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(1) . فما ظنك بنعمة ترك المعصية في هذا الشهر.
أصبحت بين نعمتين لا تدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرك بها أحد، ومودة قذفها في قلوب العباد لا يبلغها العمل.
(1) حسن: رواه البخاري في "الأدب المفرد"، والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6024) .
أخي: كم عدو حط ّمنك بالذم فرقاك، كم أعطش من شراب الأمانيّّ خلقاً وسقاك، كم أمات بعض من لم يبلغ رمضان وأبقاك.
لقد أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلّغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجّت المشام.
كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، ورجوعك إليه.
قال سليمان التيمي: إن الله سبحانه أنعم على عبده على قدره، وكلّفهم بالشكر على قدرهم.
قالت امرأة لابن أبي الحواري: أنا في بيتي قد شُغل قلبي، قلت: وما هو؟
قالت: أريد أن أعرف نعم الله عليّ في طرفة عين، أو أعرف تقصيري عن شكر النعمة عليّ في طرفة عين. قلت: تريدين ما لا تهتدي إليه عقولنا. وتنسّك رجل فقال: لا آكل الخبيص لا أقوم بشكره، فقال الحسن: هذا أحمق؟! وهل يقوم بشكر الماء البارد!!
* ومن دقيق نعم الله على العبد التي لا يكاد يفطن لها: أن يغلق عليه بابه فيرسل الله إليه من يطرق عليه الباب فيسأله شيئاً من القوت ليعرف نعمته عليه.
* وقال الثوري: ما أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها.
وقال أبو حازم: نعم الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطانى منها.
قال بكر بن عبد الله: ما قال عبد قط الحمد لله إلا وجبت عليه نعمة بقوله الحمد لله، فجزاء تلك النعمة أن يقول الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى فلا تنفد".
فسبحان "المنعم فما قام مخلوق بحقه، الموالي بفضله على جميع خلقه بشرائف المنائح على طول الزمان، أنشأ المخلوقات بحكمته وصنعها، وفرّق الأشياء بقدرته وجمعها، ودحا الأرض على الماء وأوسعها (والسماء رفعها ووضع الميزان) .
* سالت الجوامد لهيبته ولانت، وذلت الصعاب لسطوته وهانت، وإذا بطش
(انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) .
يعز ويذل، ويفقر ويغني، ويسعد ويُشقي، ويبقي ويُفني، ويشين ويزين، وينقض ويبني (كل يوم هو في شأن) .
قدّر التقدير فلا رادّ لحكمه، وعلم سر العبد وباطن عزمه (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) .
مدّ الأرض فأوسعها بقدرته، وأجرى فيها أنهارها بصنعته، وصبغ ألوان نباتها بحكمته فمن يقدر على صبغ تلك الألوان، ثبتها بالجبال الرواسي في نواحيها، وأرسل السحاب بمياه تحييها، وقضى بالفناء على ساكنيها (كل من عليها فان) .
من خدمه طامعاً في فضله نال، ومن لجأ إليه في رفع كربه زال، ومن عامله أربحه وقد قال:(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)(1) .
* فاتق الله أفلا تنافس الجن في حسن المقال.
قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: "لما قرأتها (يعني سورة الرحمن) على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد"(2) .
"فاللهم إنا نعوذ بك أن نبدل نعمتك كفراً، وأن نكفرها بعد أن عرفناها، وأن ننساها ولا نثني بها" كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
"إلهي من كرمك أنك تطاع ولا تعصى، ومن حلمك أنك تعصى وكأنك لا ترى، وأي زمن لم يعصك فيه سكان أرضك وأنت بالخير عوّاد".
ولله در الحسن: كان إن ابتدأ حديثه قال:
"الحمد لله ربنا لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبّت عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمتنا، وجمعت فرقتنا،
(1)"التبصرة"(2/70) .
(2)
صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) .
وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، سراً أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى، أفضل مما أخذ"(1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة"(2) .
* * *
(1) صحيح: رواه ابن ماجه عن أنس، ورواه ابن السني والخرائطي والضياء وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5563) .
(2)
حسن: رواه ابن السني، والخرائطي، والضياء عن أنس، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5562) .