الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
• قال أصحابنا كلهم: وهكذا الحكم إذا نذر صوم الدهر ثم لزمته كفارة بالصوم فيجب صوم الكفارة لأنها تجب بالشرع، وإن كانت بسبب من جهته فكانت آكد من النذر الذي يوجبه هو على نفسه، فعلى هذا يكون حكم الفدية عن صوم النذر ما سبق، هكذا صرح به ابن سريج. وقطع البغوي والرافعي بوجوب الفدية إذا صام عن الكفارة.
قال أصحابنا: ولو أفطر يوماً من الدهر لم يمكن قضاؤه، ولا تجب الفدية إن أفطر لعذر وإلا فتجب، قالوا: ولو نذرت امرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، فإن منعها فلا قضاء ولا فدية لأنها معذورة، وإن أذن لها أو مات لزمها الصوم، فإن أفطرت بلا عذر أثمت ولزمتها الفدية".
فائدة - حكم الإفطار في التطوع:
قال ابن رشد في "بداية المجتهد"(2/199) : "أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامداً، فأوجب مالك وأبو حنيفة القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء".
الوصال في الصوم
* عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا". قالوا: إنك تواصل.
قال: "لست كأحد منكم، إني أطعم وأسقى. أو إني أبيت أُطعم وأسقى"(1) رواه البخاري.
* وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
قالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست مثلكم، إني أُطعم وأسقى"(2) رواه البخاري.
* وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا، فأيكم إذا أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله. قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعِم يُطعمني وساقي يسقيني"(3) رواه البخاري.
(1) رواه البخاري والترمذي.
(2)
رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(3)
رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي سعيد، واللفظ للبخاري.
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: "إني لست كهيئتكم، إني يُطعمني ربي ويسقيني"(1) رواه البخاري.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله. قال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني". فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم. كالتّنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"(2) رواه البخاري.
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والوصال" مرتين. قيل: إنك تُواصل. قال: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون" رواه البخاري.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال يواصلون؟؟ إنكم لستم مثلي، أما والله لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم"(3) .
* وقال صلى الله عليه وسلم: "لا وصال في الصوم"(4) .
* وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والوصال، إنكم لستم في ذلك مثلى، أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكفلوا من العمل ما تطيقون"(5) .
* عن رجل من الصحابة قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والمواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه (6) .
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والوصال ثلاث مرات"(7) .
(1) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(2)
رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
(3)
رواه أحمد ومسلم عن أنس.
(4)
صحيح: رواه الطيالسي عن جابر، ورواه أحمد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7569) .
(5)
رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(6)
أخرجه أبو داود وقال الحافظ في "الفتح"(4/239) : إسناده صحيح.
(7)
أخرجه ابن أبي شيبة وقال الحافظ في "الفتح"(4/243) : إسناده صحيح.
الوصال: هو الترك في ليالي الصيام لما يفطر بالنهار بالقصد، ويدخل من أمسك جميع الليل أو بعضه.
وعند الشافعية: الوصال المنهي عنه أن يصوم يومين فصاعداً ولا يتناول في الليل شيئاً لا ماء ولا مأكولا، فإن أكل شيئاً يسيراً أو شرب فليس بوصال. وكذا إن أخّر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال، والجمهور قد أطلقوا في بيان حقيقة الوصال أنه صوم يومين فأكثر" (1) .
* قال ابن حجر في "الفتح"(4/240-242) : استدل بمجموع الأحاديث على أن الوصال من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن غيرَه ممنوع منه إلا ما وقع فيه الترخيص من الإذن فيه إلى السحر. ثم اخُتلف في المنع المذكور:
فقيل: على سبيل التحريم، وقيل: على سبيل الكراهة، وقيل: يحرم على من شق عليه ويُباح لمن لم يشق عليه.
وقد اختلف السلفُ في ذلك:
* فنقل التفصيل عن عبد الله بن الزبير، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً.
وذهب إليه من الصحابة أيضاً أخت أبي سعيد، ومن التابعين: عبد الرحمن بن أبي نعم وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن زيد التيمي، وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في "الحلية" وغيرهم رواه الطبري وغيره.
ومن حجَّتهم أنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه بعد النهي فلو كان النهي للتحريم لما أقرّهم على فعله، فعلم أن المراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها. وهذا مثل ما نهاهم عن قيام الليل خشية أن يفرض عليهم ولم ينكر على من بلغه أنه فعله ممن لم يشق عليه، ونظير ذلك صيام الدهر، فمن لم يشق عليه، ولم يقصد موافقة أهل الكتاب ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
(1)"المجموع" للنووي (6/400) .
* وذهب الأكثرون إلى تحريم الوصال، وعن الشافعية في ذلك وجهان: التحريم والكراهة. وقد نص الشافعي في "الأم" على أنه محظور.
* وصرح ابن حزم بتحريمه وصحّحه ابن العربي من المالكية.
* وذهب أحمد وإسحاق وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السحر لحديث أبي سعيد المذكور، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره إلا أنه في الحقيقة بمنزلة عشائه إلا أنه يؤخره، لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة فإذا أكلها السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة.
وانفصل أكثرُ الشافعية عن ذلك بأن الإمساك إلى السحر ليس وصالاً، بل الوصال أن يمسك في الليل جميعه كما يمسك النهار، وإنما أطلق على الإمساك إلى السحر وصالاً لمشابهته الوصال في الصورة، ويحتاج إلى ثبوت الدعوى بأن الوصال إنما هو حقيقة في إمساك جميع الليل، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من سحر إلى سحر. أخرجه أحمد وعبد الرزاق من حديث علي، والطبراني من حديث جابر.
* ويدل على أنه ليس بمحرم حديث أبي داود السابق، فإن الصحابي صرّح فيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم الوصال.
* ومن أدلة الجواز إقدامُ الصحابة على الوصال بعد النهي فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما أقدموا عليه.
* ويؤيد أنه ليس بمحرم أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم في حديث بشير بن الخصاصية سوّى في علة النهي بين الوصال وبين تأخير الفطر حيث قال في كل منهما: إنه فعل أهل الكتاب، ولم يقل أحد بتحريم تأخير الفطر سوى بعض من لا يعتدُّ به من أهل الظاهر.
* ومن حيث المعنى ما فيه من فطم النفس وشهواتها وقمعها عن ملذوذاتها فلهذا استمر على القول بجوازه مطلقاً أو مقيداً من تقدّم ذكره والله أعلم".
* قال النووي في "المجموع"(6/399-402) : حكم الوصال: مكروه بلا خلاف عندنا، وهل هي كراهة تحريم أم تنزيه؟ فيه الوجهان:(أصحهما) : عند أصحابنا
وهو ظاهر نص الشافعي كراهة تحريم، لأن الشافعي رضي الله عنه قال في المختصر: فرّق الله تعالى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خلقه في أمور أباحها له، وحظرها عليهم، وذكر منها الوصال.
وممن صرح بتصحيح تحريمه من أصحابنا صاحب "العدة" والرافعي وآخرون، وقطع به جماعة من أصحابنا منهم القاضي أبو الطيّب في كتابه "المجرد"، والخطابي في "المعالم"، وسليم الرازي في "الكفاية"، وإمام الحرمين في "النهاية"، والبغوي والروياني في "الحلية"، والشيخ نصر في كتابه "الكافي".
قال النووي: اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرّمناه أو كرهناه لأن النهي لا يعود إلى الصوم.
قال النووي: "مذهبنا أنه منهي عنه، وبه قال الجمهور. وقال العبدري: هو قول العلماء كافة إلا ابن الزبير، فإنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن المنذر: كان ابن الزبير وابن أبي نعم يواصل، وذكر الماوردي في "الحاوي" أن عبد الله بن الزبير واصل سبعة عشر يوماً ثم أفطر على سمن ولبن وصبر. قال: وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء، واللبن ألطف غذاء، والصبر يقوي الأعضاء.
* قال ابن مفلح في "الفروع"(3/116) : يُكره الوصال، وهو أن لا يفطر بين اليومين، لأن النهي رفق ورحمة، ولهذا واصل عليه السلام بهم وواصلوا بعده.
وقيل: يحرم، واختاره ابن البناء، وحكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة.
قال أحمد: لا يعجبني، وأومأ أحمد أيضاً إلى إباحته لمن يطيقه.
وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها لأن الأكل مظنة القوة، وكذا بمجرّد الشرب على ظاهر ما رواه المروذي عنه أنه كان إذا واصل شرب شربة ماء، خلافاً للشافعية.
* ولا يكره الوصال إلى السحر، نصّ عليه، وقاله إسحاق. لكن ترك الأولى، لتعجيل الفطر.
* وذكر القاضي عياض المالكي أن أكثر العلماء كرهه.
* قال ابن عبد البر في "التمهيد"(14/363) : "كره مالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وجماعة من أهل الفقه والآثار الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره".
* وعلى هذا: فصوم الوصال محرم عند الشافعي على أصح الأقوال، إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فمباح له، وهو من خصائصه.
* وقال الجمهور: لا يحرم الوصال، لأن النهي وقع رفقاً ورحمة، لكنه يكره عند أكثر العلماء.
أما الوصال إلى السحر فلا يكره عند أحمد وإسحاق. وقالت الشافعية: ليس بوصال.
* قال النووي في "المجموع"(6/402) : "الحكمة في النهي عن الوصال لئلّا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات أو يملها ويسأم منها لضعفه بالوصال، أو يتضرر بدنه، أو بعض حواسه وغير ذلك من أنواع الضرر".
"إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"(1) :
أكثر الروايات: "إني أبيت" ووردت روايات بقوله. "إني أظل عند ربي" كما في حديث أنس عند البخاري، وحديث عائشة عند الإسماعيلي، وحديث أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة.
واختلف في معنى قوله: "يطعمني ويسقيني":
* فقيل. هو على حقيقته وأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقبه ابن بطال ومن تبعه بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلاً، وبأن قوله:"يظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائماً.
وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" وعلى تقدير الثبوت فليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى له من حمل لفظ: "أظل" على المجاز ويراد به مطلق الوجه كما قال تعالى: (ظل وجهه مسودا) فالمراد به مطلق الوقت.
(1) بضم الياء وفتحها وفتحها أفصح وأشهر.
وعلى التنزل على الطعام حقيقة فلا يضر شيء من ذلك لأن ما يؤتى به الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجرى عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره صلى الله عليه وسلم في طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية حرام.
* وقال ابن المنير في الحاشية: "الذي يفطر شرعاً إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة".
* وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، والرواية الأصح:"أبيت" وأكله وشربه في الليل مما يؤتى به من الجنة لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك فمن أكل منهم أو شرب انقطع وصاله، وهو لا تنقطع بذلك مواصلته فطعامه وشرابه غير طعامهم وشرابهم صورة ومعنى.
وحاصله أنه يحمل ذلك على حالة استغراقه صلى الله عليه وسلم في أحواله الشريفة حتى لا يؤثر فيه حينئذٍ شيء من الأحوال البشرية.
* وقال الجمهور: قوله: "يطعمني ويسقيني" مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب من غير شبع ولا ري مع الجوع والظمأ، فيفيض عليه ما يسدّ مسد الطعام والشراب ويقوى على أنواع الطاعة من غير ضعف ولا كلال.
* ويحتمل أن يكون المراد: أنه يشغلني بالتفكر في عظمته والتملّي بمشاهدته والتغذي بمعارفه وقرة العين بمحبته والاستغراق في مناجاته والإقبال عليه عن الطعام والشراب.
* يقول شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية في "مدارج السالكين"(2/408) : "اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوع من الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله.
والثاني: غذاء روحاني، خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح، والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماوياً علويّاً، وبالغذاء المشترك كان أرضياً سفليّاً وقوامه بهذين الغذاءين. وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس، وغذاء يصل إليه منها".
ويقول رحمه الله في "زاد المعاد" في كلامه عن وصال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
…
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به
…
ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير أوعدها
…
روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً، ولهذا قال:"إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلاً، ولقال لأصحابه إذ قالوا له: إنك تواصل: لست أواصل، ولم يقل: لست كهيئتكم بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق" (1) .
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/88) : "وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم. ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائماً، فضلاً عن أن يكون مواصلاً، ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حساً، لكان الجواب أن يقول: وأنا لست أواصل أيضاً، فلما أقرهم على قولهم: "إنك تواصل" عُلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي".
(1)"زاد المعاد"(ص 155) .
* ذكر الحافظ ابن رجب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، وذكر منها:
"تأخيره للفطور إلى السحور: روى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: "ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطور إلى السحور" واسناده لا بأس به.
وزعم ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره وأنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء وقال: إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام ليكون أنشط له على العبادة أو إيثاراً بطعامه على نفسه أو لخوف وقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه أن من واصل ولم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غير أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز وإن أمسك تعبداً بالمواصلة، فإن كان إلى السحر وقوي عليه لم يكره وإلا كره".
وقال ابن رجب في قوله صلى الله عليه وسلم: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" رواه مسلم.
"والصحيح أنه أشار إلى ما كان الله يفتح عليه في صيامه وخلوته بربه لمناجاته وذكره من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب.
الذكر قوت قلوب العارفين يُغنيهم عن الطعام والشراب كما قيل: أنت ربِّي إذا ظمئت إلى الماء وقوتي إذا أردتُ الطعاما.
ويتأكد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، قال ذر بن حبيش: في ليلة سبع وعشرين. من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل".
لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة فأفٍ لمن باع لذة المناجاة بفضل لقمة:
يا من لحشا المحبّ بالشوق حشا
…
ذاك سرّ سراك في الدجا كيف فشا
هذا المولى إلى المماليك مشا
…
لا كان عيشاً أورث القلب غشا