الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان فرح السلطان الناصر والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول المظافر المنتصر يتقدم موكبه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى واستقبل استقبال الفاتحين.
قال ابن حجر في "الدرر الكامنة"(4/261-265) : "كانت وقعة شقحب وكان للناصر فيها اليد البيضاء من الثبات، ووقع النصر للمسلمين".
يقول ابن عبد الهادي:
"قد أخبرني صاحب أمير، ذو دين متين، وصدق لهجة، معروف في الدولة، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء ونحن بمرج الصفر وقد تراءى الجمعان: يا فلان! أوقفني موقف الموت.
قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد. قال: فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره، وحرّك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال.
وأما أنا فخيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير، عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين في تلك الساعة.. وكان آخر النهار وإذا أنا بالشيخ وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار".
قال ابن عبد الهادي "وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت ويجوز الوصف"(1) .
فتح جزيرة قبرص
في عهد المماليك سنة 829 هـ:
مخرت سفن المسلمين عباب البحار للجهاد ونشر دين الله في كل منطقة يصلون
(1) انظر "معركة شقحب" للدكتور محمد لطفي الصباغ و"العقود الدرية" لابن عبد الهادي (ص 175-178) .
إليها، كما طوت خيلهم فلوات الأرض حتى وصلت أقصاها.
وكانت جزيرة قبرص، من المناطق التي فتحها المسلمون منذ عصر مبكر حيث وصلها معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه- سنة 28 هـ لتكون بعد ذلك خاضعة للمسلمين تدفع لهم الجزية كل عام، وظلت كذلك مدة من الزمن حتى إذا ضعف المسلمون بعد ذلك طمع فيهم الأعداء من نصارى أوروبا فغزوهم بجيوش جرارة متتابعة وسقطت بعض المناطق الإسلامية في أيديهم ومنها جزيرة قبرص.
والحقيقة أن هذه الجزيرة بموقعها الاستراتيجي شرق البحر الأبيض المتوسط ظلت طيلة الحروب الصليبية قاعدة ينطلق منها الصليبيون لمهاجمة العالم الإسلامي، وأصبح حكامها أكثر النصارى تعصباً للحروب الصليبية ورغبة في استمرارها، ولذا ظلوا يسعون لدى ملوك أوروبا ويطلبون منهم إرسال الحملات العسكرية لتحطم العالم الإسلامي.
وفي سنة 769 هـ قاد ملك قبرص حملة صليبية اتجهت نحو الإسكندرية وهاجمها في غفلة من حكامها واستطاع دخولها فأعمل السيفَ في رقاب المسلمين وقتل وأسر ونهب، وكانت مقتلة عظيمة لم يصب هذا الثغر بمثلها قبل ذلك، وعاد هذا الملك الصليبي الحاقد على الإسلام محملا بما نهب من المسلمين.
وظل حكام المماليك في مصر يتحينون الفرصة للأخذ بالثأر والقضاء على خطر هذه الجزيرة ومعاقبة حكامها.
وفي عهد السلطان المملوكي الأشرف برسباي (825-841 هـ) عقد هذا السلطان العزم على فتح هذه الجزيرة وأخذ يستعد لذلك بتجهيز المراكب وتجميع العساكر، وأرسل لها ثلاث حملات متتاليات في ثلاث سنوات ابتداءً من سنة 827 هـ وكلُّها في شهر رمضان.
كانت الحملتان الأوليان لغرض الاستكشاف، استطاع المسلمون من خلالهما التعرف على الجزيرة ومدى قوة حكامها، كما حققوا انتصارات عليهم وعادوا محملين بالغنائم والأسرى.
أما الحملة الثالثة: فكانت في شهر رمضان سنة 829 هـ وقادها أربعة من أمراء
المماليك انطلقت في عدد كبير من المراكب نحو الجزيرة، تحمل أعداداً عظيمة من المجاهدين، وقد تخلف عدد أكبر لم يجدوا ما يحملهم فحزنوا لذلك حزناً شديداً.
يقول المؤرخ المعاصر لذلك الفتح ابن تغري بردي: "وعظم ازدحام الناس على كُتّاب المماليك ليكتبوهم في جملة المجاهدين في المراكب المعينَّة، حتى أنه سافر في هذه الغزوة عددٌ من أعيان الفقهاء، ولما أن صار السلطان لا يُنعم لأحد بالتوجه بعد أن استكفت العساكر، سافر جماعة من غير إذن، وأعجبُ من هذا، أنه كان الرجل ينظر في وجه المسافر للجهاد يعرفه قبل أن يسأله لما بوجهه من السرور والبشر الظاهر بفرحه للسفر، وبعكس ذلك فيمن لم يعينَّ للجهاد، هذا مع كرة من تعين للسفر من المماليك السلطانية وغيرهم، وما أرى هذا إلا أنّ الله تعالى قد شرح صدرهم للجهاد وحببهم في الغزو وقتال العدو ليقضى الله أمراً كان مفعولاً، ولم أنظر ذلك في غزوة من الغزوات قبلها ولا بعدها".
وكان ليوم خروج المجاهدين نهار يجل عن الوصف، اجتمع الناس لوداعهم وابتهلوا إلى الله تعالى أن ينصرهم، ووصلت السفن الإسلامية جزيرة قبرص، ونزل المجاهدون يفتحون المدن والقرى كل ذلك في شهر رمضان المبارك، وحلت الهزائم بالنصارى واستنجدوا بملوك أوروبا فوصلت إليهم الإمدادات وتجمعت جيوشهم والتقى بها المسلمون في معركة حاسمة وكانت أعداد النصارى أضعاف عدد المسلمين، والمسلمون مع قلتهم ويسير عددهم في ثبات إلى أن نصر الله الإسلام وأُسر ملك قبرص المدعو "جانوس" وركب المسلمون أقفية النصارى يقتلون ويأسرون حتى أن قتلى النصارى يجلون عن الحصر. وتم فتح العاصمة وتوالت الانتصارات وكمل فتح الجزيرة. ثم أقام المجاهدون وأراحوا أبدانهم سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح وحمد الله على هذا الفتح العظيم الذي لم يقع مثله في الإسلام من يوم غزاهم معاوية بن أبي سفيان -رضى الله عنه-.
وعاد المسلمون إلى مصر يحملون الأسرى وعلى رأسهم ملك قبرص وفرح المسلمون بذلك فرحاً عظيما، وحينما علم بذلك السلطان المملوكي بكى من شدة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله سبحانه وتعالى، وانطلقت ألسن الشعراء تشيد بهذا الفتح العظيم يقول أحدهم: