الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر
أسرار الصوم وشروطه الباطنة
"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"
جزء من حديث صحيح
"اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص".
* أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
* وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
* وأما صوم خصوص الخصوص: "فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله بالكلية. فهو إقبال بكل الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه"(1) .
يقول العلامة ابن رجب: "الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله، فيحفظ الرأس وما حَوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا، فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته"(2) .
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم
…
صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم
…
صون القلوب عن الأغيار والحجب
العارفون لا يسليهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يرويهم دون مشاهدته نهر، هممهم أجل من ذلك.
كبرت همة عبد
…
طمعت في أن تراك
من يصم عن مفطرات
…
فصيامي عن سواك
* من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عمّا سوى الله فعيده يوم لقائه (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) [العنكبوت:5] .
وقد صمت عن لذات دهري كلها
…
ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
يا معشر التائبين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء
(1)"إحياء علوم الدين"(1/277) .
(2)
"لطائف المعارف"(ص 168-169) .
قد اقترب.
إن يوماً جامعاً شملي بهم
…
ذاك عيدي ليس لي عيد سواه
صوم الصالحين:
كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره، وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل.
قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن
…
) [النور: 30-31] .
أدب نفسي واستعلاء على الرغبة وطهر للمشاعر، وارتفاع وعلو عن عدم الارتكاس إلى الدرك الحيواني الهابط، وإغلاق للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية وثمرته حفظ الفرج.
عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: اصرف بصرك (1) .
يا أخي: كان عيسى عليه السلام يقول: النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة.
أخي: من أطلق طرفه كان كثيراً أسفه.
فحذار أخي من فضول النظر فضلاً عن النظر إلى الشيطان المرئي المسمى بالتلفاز ويكفي ما فيه من فتن المارقات العاصيات ونظراتهن الجائعة الجاهرة المتلصصة الهاتفة المثيرة التي تثير كوامن الفتنة في صدور الرجال. نظرات خائنة وتكشّف وعري وتنزي كما تتنزى البهيمة، وتهتف للذكور حينما كانت هتاف الحيوان بالحيوان.
(1) رواه مسلم: وهو من أفراده.
لواحظنا تجني ولا علم عندها
…
وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف
…
تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه
…
أذِنّ على أحشائه بالفواقر
ولله در من يقول:
وأنا الذي اجتلب النية طرفه
…
فمن المطالب والقتيل القاتل
وانظر يا أخي إلى أخبار من مضى، قال أبو الأديان: كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق فمر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه فقال: يا بني لتجدنّ غبها ولو بعد حين. فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه فأصبحت وقد نسيت القرآن كله (1) .
"عن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له على الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلماتٍ أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن -معاذ الله- أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم -معاشر العباد- على مثال القوارير أدنى شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك: إن جوارحي كلها مشغولة بك فالله الله في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها
(1)"التبصرة"(1/161) .
ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري؟ وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة، فإني مشغول عنك بقوله تعالى:(وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)[غافر: 18-19] فأين المهرب من هذه الآية؟!.
ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاءً شديداً وقالت: أسأل لك الله الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امتن عليّ بموعظة أحملها عنك وأوصيني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قوله تعالى:(وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار)[الأنعام: 60] قال: فأطرقت وبكت بكاءً شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مم بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك؟ فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها، وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى، فأنا استحي منه أن استرد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى" (1) .
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى قدارِهم، وعِدْهمُ قرب الرحيل إلى ديارهم (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) [النور: 30] .
الثاني: حفظ اللسان: عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والجفاء والمراء والسب وبذاءة اللسان
(1)"إحياء علوم الدين"(3/114-115) .
واللعن والسخرية والاستهزاء وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان.
فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخي العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت"(1) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائقُ بمثلهما"(2) .
وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
وليتدبر الإنسان قول الله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)[ق 18] .
قال الحسن: يا ابن آدم قد بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر وأقل.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة"(3) .
وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث وليعلم العبد أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.
(1) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(2)
حسن: رواه ابن أبي الدنيا، والبزار، والطبراني في "الأوسط"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن أنس، وأبو الشيخ عن أبي ذر وأبي الدرداء وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (4048) .
(3)
رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن بلال بن الحارث وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1619) .
وليعلم العبد أن "الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة".
فأما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.
* وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران.
فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجاً يخفي دركه فيكون الإنسان به مخاطراً" (1) .
وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: "من صمت نجا" صلى الله على من أوتي جواهر الحكم وجوامع الكلم، ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواصُ العلماءِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم"(2) .
وقال صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنة من النار، فمن أصبح صائماً فلا يجهل يومئذ، وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه، وليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(3) .
وعند البخاري من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب (4) ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم...." الحديث.
قال الحافظ في "الفتح"(4/126) :
(فلا يرفث) بالضم والكسر ويجوز في ماضيه التثليث: والمراد بالرفث هنا: وهو
(1) رواه أحمد والترمذي عن ابن عمرو وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6367) .
(2)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة.
(3)
صحيح: رواه النسائي عن عائشة وصححه السيوطي والألباني في "صحيح الجامع" رقم (3878) .
(4)
للأكثر بالصاد، ولبعضهم بالسين وهو بمعناه: والصخب: الخصام والصياح.
بفتح الراء والفاء: الكلام الفاحش، "وهو يطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقاً"(1) ، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها.
(ولا يجهل) أي لا يفعل شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك.
ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه "فلا يرفث ولا يجادل" قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم".
قال المناوي: "لا يفعل خلاف الصواب من قول أو فعل، فهو أعم مما قبله، أو لا يعمل بخلاف ما يقتضيه العلم"(2) .
(وإن امرؤ قاتله أو شاتمه)(3) :
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(4/126) :
"اتفقت الروايات كلها على أنه يقول: "إني صائم" فمنهم من ذكرها مرتين، ومنهم من اقتصر على واحدة، وقد استشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصاً المقاتلة، والجواب عن ذلك بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها، أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله "قاتله" شاتمه لأن القتل يطلق على اللعن واللعن من جملة السب -ويؤيده ما ذكرت من الألفاظ المختلفة فإن حاصلها يرجع إلى الشتم- فالمراد من الحديث: أن لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله "إني صائم".
واختلف في المراد بقولها "فليقل إني صائم" هل يخاطب بها الذي يكلمه بذلك أو
(1) من قول أبي زرعة.
(2)
"فيض القدير"(4/424) .
(3)
في رواية صالح "فإن سابه أحد أو قاتله" وعند سعيد بن منصور "فإن سابه أحداً أو ماراه" ولابن خزيمة من حديث أبي هريرة "فإن سابك أحد فقل إني صائم" وإن كنت قائماً فاجلس" وللنسائي من حديث عائشة "وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه".
يقولها في نفسه؟ وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجّح النووي الأول في "الأذكار"، وقال في "شرح المهذب" كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى ولو كان جمعهما لكان حسناً، ولهذا التردد أتى البخاري في ترجمته بالاستفهام فقال:"باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ "، وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع. وأما الفرض فيقوله بلسانه قطعاً.
وأما تكرير قوله "إني صائم" فليتأكد الانزجار منه أو ممن يخاطبه بذلك، ثم قال ابن حجر:"المراد بالمفاعلة -قاتله- إرادة غير الصائم ذلك من الصائم، وقد تطلق المفاعلة على التهيؤ لها ولو وقع الفعل من واحد، وقد تقع المفاعلة بفعل الواحد كما يقال لواحد عالج الأمر وعافاه الله".
قال المناوي: "فليقل بلسانه إني صائم عن مكافأتك أو عن فعل ما لا يرضاه من أصومُ له بحيث يسمعه الصائم وجمعه بين اللسان والجنان أولى فيذكر نفسه بإحضاره صيامه بقلبه ليكف نفسه وينطق بلسانه لينكف عنه خصمه".
قال ابن القيم: "أرشد إلى تعديل قوي الشهوة والغضب وأن على الصائم أن يحتمىَ من إفسادهما لصومه فهذه تفسد صومه وهذه تحبط أجره"(1) .
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(2) .
وعند ابن ماجه قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور، والجهل، والعمل به، فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه"(3) .
والضمير "به" في الأول يعود على قول الزور، وفي الثاني يعود على الجهل.
والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السفه، والعمل به: أي بمقتضاه.
(1)" فيض القدير" للمناوي (1/424) .
(2)
رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي. قال ابن حجر "زاد في نسخة الصغاني" في الصوم.
(3)
صحيح: صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (1370) ، و"صحيح أبي داود"(2045) .
وفي حديث أنس عند الطبراني في "الأوسط""من لم يدع الخنا والكذب".
قال ابن حجر: ورجاله ثقات.
"فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
"قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه".
وقال ابن الكمال: هذا وما أشبهه يتفرع على الكناية أي ليس له اعتبار عند الله.
وقال الزين العراقي: أي ليس مطلوب له. وقال ابن حجر: "معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر بن عبد البر إلى شيء من ذلك. قال ابن المنير في الحاشية: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن ردّ عليه شيئاً طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد ردّ الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه.
قال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه.
وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر المقبول، فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم. واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. والرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقاً، والصوم مأمور به مطلقاً، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما: زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني: البحث على سلامة الصوم عنها وأن سلامته منها صفة كمال فيه، فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة منها، قال: فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعلّ القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر
بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، فيكون اجتناب المفطرات واجباً، واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات والله أعلم" (1) .
قال المناوي: "قال الطيبي فيه دليل على أن الكذب والزور أصل الفواحش ومعدن النواهي بل هو قرين الشرك قال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) [الحج: 30] ، وقد علم أن الشرك مضاد الإخلاص وللصوم مزيد اختصاص بالإخلاص فيرتفع بما يضاده"(2) .
الغيبة والصيام:
قال ابن حجر: "الغيبة تضر بالصيام، وقد حكي عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. وأفرط ابن حزم فقال: يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلاً أو قولاً، لعموم قوله "فلا يرفث ولا يجهل"، وقوله: "من لم يدع
…
"، والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع"(3) .
قال أبو العالية: "الصائم في عبادة وإن كان راقداً على فراشه ما لم يغتب"(4)
فكانت حفصة تقول: "يا حبذا عبادة وأنا نائمة على فراشي"(5) .
قال العلامة ابن رجب: وفي حديث آخر "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال الحافظ أبو موسى المديني على شرط مسلم. قال بعض السلف:"أهون الصيام ترك الشراب والطعام".
وقال جابر: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء".
(1)"فتح الباري"(4/140/141) .
(2)
"فيض القدير"(6/224) .
(3)
"فتح الباري"(4/125-126) .
(4)
رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد" وهو صحيح موقوف عل أبي العالية.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، ونقل ذلك ابن رجب في "لطائف المعارف"(ص 165) .
إن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل. وإن كان صومه مجزئاً عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به هذا هو أصل قول جمهور العلماء، ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب. على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب إلى أنّ من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات" (1) .
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(2) .
* وقال صلى الله عليه وسلم: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"(3) .
قال الغزالي: "قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة، أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام".
قال المناوي: "أما الفرض فيسقط والذمة تبرأ بعمل الجوارح فلا يعاقب عقاب ترك العبادة بل يعاتب أشد عتاب حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب"(4) .
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه:
لأن كل ما حُرّم قوله حُرِّم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع
(1)"لطائف المعارف"(ص 163، 164) .
(2)
صحيح: رواه ابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أيضاً النسائي، وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(رقم 3488) .
(3)
صحيح: رواه الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وأحمد والحاكم والبيهقي في سننه عن أبي هريرة، قال المناوي:"قال الحافظ العراقي إسناده حسن، وقال تلميذه الهيثمي: رجاله موثقون" وصححه السيوطي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (3490) .
(4)
"فيض القدير"(4/16) .
وآكل السحت، فقال تعالى:(سماعون للكذب أكالون للسحت)[المائدة: 42]، وقال عز وجل:(لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت)[المائدة: 63] .
ولله در الشاعر:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون
…
وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما
…
فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام:
كف اليد والرِجل عن المكاره، وكفّ البطن عن الشهوات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يهدم قصراً ويبني مصراً، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار: لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتليء جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال، وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر.
ورقة القلب وصفاؤه إِنما تكون بترك الشبع.
قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
- عند أكل الصالحين تنزل الرحمة.
- حق للمرء أن يتناول الطعام تناول مضطر عالم بقذارة مآله، "وأن يرى إدخاله في نفسه كدخول المستراح، ويتحقق أن نسبة الإنسان إلى الثمار والفواكه نسبة الجعل إلى الروث، فلو نطق الشجر لقال لك أنت تأكل فضالتي، كما يأكل الجعل فضالتك،
والخنزير إذا استطاب لفاظة الإنسان فما هو إلا كاستطابتنا لفاظة الشجر" (1) .
- حسب ابن آدم لقيمات وذلك دون عشر لقيمات لأن جمع القلة بالألف والتاء لما دون العشرة.
ومن أكل كثيراً نام كثيراً فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجّد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
يقول الحسن: "حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يا لكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك".
ومن أخلى معدته من الطعام فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته من غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله.
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء (2) :
إذ ليس يدري أيُقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين؟ وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.
فقد رُوي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: "إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته" أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدّ عليه باب الضحك.
وعن الأحنف بن قيس: "أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه. فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم".
فالمقصود من الصوم: قمع الشهوات والارتفاع إلى أعلى عليين. والالتحاق بأفق
(1)"الذريعة إلى مكارم الشريعة"(ص 311) .
(2)
هذه الشروط الستة ذكرها الغزالي في "الإحياء"(1/275-280) .
الملائكة، والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بهم يقرب من مولاه كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، فإذا علمت هذا فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخرى طول النهار.
قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين.
ولذلك قال بعض العلماء: كم من صائم مفطر، ومفطر صائم ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كفّ عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام وإطلاق الجوارح كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات وترك الغسل فصلاته مردودة عليه. وجمع بين هذه المعاني وبين الواجبات الظاهرة في الصوم فقد جمع الأصل والفضل وهو الكمال.
الصوم على أربعة أنواع.
قال الحافظ ابن حجر: "نقل بن العربي عن بعض الزهاد أن الصوم على أربعة أنواع:
1-
صيام العوام: وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع.
2-
وصيام خواص العوام: وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل.
3-
وصيام الخواص: وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته.
4-
وصيام خواص الخواص: وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة، وهذا مقام عالٍ" (1) ا. هـ.
قال ابن الجوزي: "الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع"(2) .
وقال: "وما من جارحة في بدن الإنسان إلا ويلزمها الصوم في رمضان وغير رمضان، فصوم اللسان ترك الكلام إلا في ذكر الله تعالى، وصوم السمع ترك الإصغاء
(1)"فتح الباري"(4/131-133) .
(2)
"بستان الواعظين"(ص 316، 317) .
إلى الباطل وإلى ما لا يحلّ سماعه، وصيام العينين ترك النظر والغض عن محارم الله" (1) .
ذم أعرابي قوماً فقال: يصومون عن المعروف، ويفطرون على الفواحش.
* وفي "رسالة الحقوق" لعلي زين العابدين:
"حق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك، وفرجك وبطنك، ليسترك به من النار، وهكذا جاء في الحديث "الصوم جنة من النار".
فإن سكنت أطرافك في حجبتها ورجوت أن تكون محجوباً، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة، والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمن أن تخرق الحجاب، وتخرج منه، ولا قوة إلا بالله. فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك" (2) .
* "عن طليق بن قيس، قال، قال أبو ذر: "إذا صمت فتحفّظْ ما استطعت، فكان طليق إذا كان يوم صومه دخل ولم يخرج إلا للصلاة" (3) .
قالوا: "صوم القدمين كفهما عن البطش والسعي إلى ما يكتب عليهما وزره ويبقى قبلهما تباعته وإثمه".
الشهور كأولاد يعقوب:
"قيل الشهور الاثنى عشر كمثل أولاد يعقوب عليه وعليهم السلام. وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علّام الغيوب.
نكتة حسنة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: إن كان في يوسف من الحلم والعفو ما غمر جفاهم حين قال (لا تثريب عليكم اليوم)[يوسف: 92] ، فذلك شهر رمضان فيه من الرأفة والبركات والنعمة والخيرات، والعتق من النار، والغفران من الملك القهار، ما يغلب جميع الشهور.
(1)"بستان الواعظين"(ص 300، 301) .
(2)
"عليّ زين العابدين"(ص 107) .
(3)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/3)، باب: ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
جاء أخوة يوسف معتمدين عليه في سد الخلل، وإزاحة العلل بعد أن كانوا خطايا زلل، فأحسن لهم الإنزال، وأصلح لهم الأحوال، وبلّغهم غاية الآمال، وأطعمهم في الجوع، وأذن لهم في الرجوع، وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها، فَسَدّ الواحد خلل أحد عشر، كذلك رمضان واحد والشهور أحد عشر، وفي أعمالنا خلل وأي خلل، ويرجو العبد أن يتلافى شهر رمضان ما فرّط فيه في سائر الشهور.
كان ليعقوب أحد عشر ولداً ذكوراً بين يديه حاضرين، ينظر إليهم، ويراهم ويطّلع على أحوالهم وما يبدو من فعالهم، ولم يرتد بصره بشيء من ثيابهم، وارتد بقميص يوسف بصيراً، وصار بصره منيراً، فكذلك المذنب إذا شمّ روائح رمضان، وجلس فيه مع المذكرين وقرأ القرآن، وصحبهم بشرط الإسلام والإيمان، وترك الغيبة والبهتان، يصير إن شاء الله مغفوراً له بعد ما كان عاصياً، وقريباً بعد ما كان قاصياً، ينظر بقلبه بعد العمى، ويسعد بقربه بعد الشقا، ويقابل بالرحمة بعد السخط.
فالله الله اغتنموا هذه الفضيلة، في هذه الأيام القليلة، تعقبكم النعمة الجزيلة، والدرجة الجليلة والراحة الطويلة، والحالة الرضية، والجنة السرية والعيشة الرضية، لا تنال إلا بالوقار لهذا الشهر، ومن لا يوقره كان مصيره إلى النار" (1) .
الصوم لم يعبد به غير الله؟
* قال الحافظ ابن حجر في معنى "الصيام لي" وذكر من معانيه:
"سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك، واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب وإنما يعتقدون أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل، لأنهم طائفتان، إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام واستمر منهم من استمر على كفره، والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم"(2) .
(1)"بستان الواعظين" بتصرف (ص 317-319) .
(2)
"فتح الباري"(4/130-131) .