الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رمضان شهر الصبر والتربية
والصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند لا يهزم، وحصن حصين لا يهدم، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفر محل الرأس من الجسد.
* وقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب، أنه يوفيهم أجرهم بغير حساب.
* وأخبرهم أنه معهم بهدايته ونصره العزيز وفتحه المبين، فقال تعالى:(واصبروا إن الله مع الصابرين)[الأنفال: 46] ، فظفر الصابرون بهذه المعية بخير الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة.
* وجعل سبحانه الإمامة في الدين منوطة بالصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله اهتدى المهتدون:(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)[السجدة: 24] .
* وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً باليمين، فقال تعالى:(ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)[النحل: 126] .
* وأخبر أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط فقال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط)[آل عمران: 120] .
* وأخبر عن نبيه يوسف الصديق أن صبره وتقواه وصّلاه إلى محل العز والتمكين فقال: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين)[يوسف: 90] .
* وعلّق الفلاح بالصبر والتقوى، فعقل ذلك منه المؤمنون، فقال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)[آل عمران: 200] .
* وأخبر عن محبته لأهله وفي ذلك أعظم ترغيب للراغبين فقال تعالى: (والله يحب الصابرين)[آل عمران: 146] .
* ولقد بشر الصابرين بثلاث كل منها خير مما عليه أهل الدنيا يتحاسدون فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)[البقرة: 155، 156] .
* وأوصى عباده بالاستعانة بالصبر والصلاة على نوائب الدنيا والدين فقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)[البقرة: 45] .
* وجعل الفوز بالجنة لا يحظى به إلا الصابرون فقال تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون)[المؤمنون: 111] .
* وأخبر أن الرغبة في ثوابه والإعراض عن الدنيا وزينتها لا ينالها إلا أولو الصبر المؤمنون فقال تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون)[القصص: 80] .
* وأخبر أن دفع السيئة بالتي هي أحسن تجعل المسيء كأنه ولي حميم، وأن هذه الخصلة لا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
* وأخبر سبحانه خبراً مؤكداً بالقسم: (إن الإنسان في خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)[العصر: 2، 3] .
* وقسّم خلقه قسمين أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة، وخص أهل الميمنة أهل التواصي بالصبر والمرحمة.
* وخص بالانتفاع بآياته أهل الصبر وأهل الشكر تمييزا لهم بهذا الحظ الموفور.
فقال في أربع من آياته: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) .
* وعلق المغفرة والأجر بالعمل الصالح والصبر، وذلك على من يسّره يسير فقال:(إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) .
* وأخبر أن الصبر والمغفرة من العزائم التي تجارة أربابها لا تبور، فقال:(ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور)[الشورى: 43] .
* وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والحكمة، وأخبر أن صبره إنما هو لربه وبذلك جميع المصائب تهون.
فقال: (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)[الطور: 48] .
وقال: (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون)[النحل: 127] .
والصبر آخية (1) المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه الذي لا اعتماد له إلا عليها.
قال صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها"(2) .
* وقال صلى الله عليه وسلم: "ما رزق عبد خيراً له ولا أوسع من الصبر"(3) .
* قال عمر بن الخطاب: "أفضل عيش أدركناه بالصبر".
وقال عليّ بن أبي طالب: الصبر مطية لا تكبو، وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة لا يعطه الله إلا لعبد كريم عنده، وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبده نعمة فانتزعها منه فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عَوّضه خيرا مما انتزعه" (4) .
واعلم يا أخي وأنت في شهر الصبر "أنّ من تعلق بصفة من صفات الرب تعالى أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه، والرب تعالى هو الصبور، بل لا أحد أصبر على أذى سمعه منه، وهو صبر من أعظم مصبور عليه، فإن مقابلة أعظم العظماء وملك الملوك وأكرم الأكرمين بغاية القبح وأعظم الفجور، ونسبته إلى كل ما لا يليق به، والقدح في كماله وأسمائه والإلحاد في آياته، وتكذيب رسله عليهم السلام، ومقابلتهم بالشتم والأذى، وتحريق أوليائه وقتلهم وإهانتهم لا يصبر عليه إلا الصبور
(1) العروة التي تشد إليها الدابة.
(2)
رواه أحمد في "مسنده"، ومسلم، والترمذي عن أبي مالك الأشعري.
(3)
صحيح: رواه الحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي هريرة وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (5626) .
(4)
"عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن قيم الجوزية (ص 90-91) .
الذي لا أحد أصبر منه، ولا نسبة لصبر جميع الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى صبره سبحانه. والله يحب أسماءه وصفاته، ويحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها في العبد، فهو صبور يحب الصابرين.
وإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف، ورمضان شهر الصوم، والصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: الصبر على ألم الجوع والعطش، والصبر على المعاصي، والصبر على الطاعات.
أما الصبر عن المعاصي: فما أحوجنا في رمضان إلى كظم الغيظ عمن أساء إلينا قال صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ويزوجه منها ما شاء"(1)
وفي الصحيح: "ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة".
ورحم الله من قال:
والصبر بالأرواح يعرف فضله
…
صبر الملوك وليس بالأجسام (2)
فاصبر صبر الكرام، فالكريم يصبر عن معصية الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان، فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وشهواتهم، وأقل الناس صبراً عن معصية ربهم، فيصبر على البذل في طاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء.
ويصبر على تحمل المشاق لهوى نفسه في مرضاة عدوه، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة ربه.
ويصبر على ما يقال في عرضه في المعصية، ولا يصبر على ما يقال في عرضه إذا أوذي في الله.
(1) حسن: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن معاذ بن أنس، ورواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الصغير"، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (6522) .
(2)
"الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب الأصفهاني.
ويبذل عرضه في هوى نفسه ومراده، ولا يصبر على التبذل لله في مرضاته وطاعته.
فهو أصبر شيء على التبذل في طاعة الشيطان ومراد النفس، واعجز شيء عن الصبر على ذلك في الله، وهذا أعظم اللؤم، ولا يكون صاحبه كريما عند الله، ولا يقوم مع أهل الكرم إذا نودي بهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ليعلم أهل الجمع من أولى بالكرم اليوم أين المتقون.
فليصبر الإنسان عن معصية الله في هذا الشهر، ولا يبيع حظه مع الله بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة. ويعينه على صبره عن شهواته مشهد قهره لشيطانه والظفر به، ومشهد العوض وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك الحرام، ومشهد البلاء والعافية، فإن البلاء ليس إلا الذنوب، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
يصبر العبد عن المعصية في رمضان حذرا من الوقوع في الحرام، وإبقاء لنور وبهجة الإيمان.
يصبر عن معصيته إيمانا بالوعيد وحبا لله وحياءً من مولاه.
يصبر على فتنة النفس، والشهوة وجاذبيته للأرض، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، أو في الدعة والاطمئنان، وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه، مع المعوقات والمثبطات في أعمال النفس وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة وفي تصورات أهل الزمان.
لابد من الصبر:
الصبر على فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا. والصبر على فتنة إقبال الدنيا على المبطلين تصاغ لهم الأمجاد الكاذبة، والصبر على الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقاً في تيار الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد.
* ويصبر في رمضان على طاعة الله والدعوة إليه وهو أعلى أنواع الصبر والصبر على الطاعة والدعوة أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى المتاع والإغراء، فهي أمانة كريمة، ومن ثَمَّ تحتاج إلى طراز خاص يصبر ويصبر.
والنفس بالصبر تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع ويشتد غورها ويصلب، فإذا طال الأمد، وأبطأ نصر الله، لا يثبت إلا من يؤتمن على تلك الأمانة الكبرى، أمانة السماء في الأرض، وأمانة الله في ضمير المؤمن. إن الصابرين ليتسلمون الأمانة وهي عزيزة على نفوسهم بما أدوا لها من غالي الثمن، وبما صبروا لها من الصبر على المحن.
والذي يصبر على الأذى والحرمان يشعر ولا شك بقيمة الأمانة التي بذل فيها ما بذل فلا يسلمها رخيصة بعد كل هذه التضحيات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها (2) ، فيلبسها، ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء"(3) .
* لا بد من صبر على طاعة الله والاستقامة على دربه وبذل النفس في مرضاة الله. وهنا لابد من نصح للحركة الإسلامية بعدم العجلة، والحماس الفائر، ولنا في قصة بني إسرائيل العبر: (ألم تر إلى الملاء من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي
(1) صحيح: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" عن فاطمة بنت اليمان، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (996) .
(2)
يقطعها.
(3)
صحيح: رواه ابن ماجه، وأبو يعلي في "مسنده"، والحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي سعيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (995) .
لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) [البقرة: 246] إلى نهاية الآيات.
(فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده..) الآية [البقرة: 249] .
"فالتفلت من الطاعة والنكوص عن التكليف سمة كل حركة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير.
ومِنْ ثَمَّ ينبغي للقادة أن يكونوا منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر، فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل" (1) .
لابد للقادة أن يربو الجيل على الصمود للرغبات والشهوات، والصمود على الحرمان والمتاعب، والصبر على قيام الليل في رمضان باب هذا، وصيام النهار والذكر أعلى درجات الطاعة.
إنه لابد من الصبر:
الصبر على طول الطريق الشائك، الصبر على قلة الناصر، الصبر على عناد القلب ومضاضة الإعراض عن طريق الله، والتواء النفوس الصبر على انتفاش الباطل، أن ترى الشر نافشاً والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق.
يا إخوتاه:
الصبر نبل غاية، وطهارة قصد، ونظافة طريق.
لابد من صبر على الطاعة والتربية ينفض عنا الكسل والخمول، ويستجيش ما في شباب الأمة من مكنونات مذخورة للدور النبيل الذي يمليه رمضان شهر الصبر وشهر الفتوحات.
(1)"الظلال" لسيد قطب.
(وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)[الأعراف: 128-129] .
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين والأولى، واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير.
على الناس ألا يتبرموا من طول الطريق فالعاقبة للصابرين طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الداعين إلى رب العالمين قلق على المصير، ولا يخايل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين.
لابد للدعاة أن يصبروا على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات بالصبر على الطاعة.
وانظر إلى مناجاة موسى لربه وإعداده لنفسه بالصوم كي تصفو الروح وتشف وتستضيء وتتقوى العزيمة على مواجهة حمل الأمانة والدعوة.
قال تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة
…
) الآية [الأعراف: 142] .
قال ابن كثير "فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة، قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله أن تكمل العشرة أربعين".
صيام ومناجاة
…
ختمها بعشر ذي الحجة..
وهكذا.. فالتمرن بالصبر على الطاعة يؤهل النفوس للأدوار العظيمة.
يا إخوتاه ويا حملة الدعوة
…
هذه أيامكم.. أيام الصبر في رمضان ومنها العظة ولابد من الصبر.
لقد كان أول توجيه للأمة الوسط الشهيدة على الناس ذات الشخصية الخاصة والكيان الخاص هو الاستعانة بالصبر والصلاة على تكاليف هذا الدور العظيم.
قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)[البقرة: 45] .
قال ابن جرير في "تفسيره"(1/259) : "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع: الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا".
يتكرر ذكر الصبر -منه الصوم- في القرآن كثيراً، ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات، والذي يتطلب أن تبقي النفس مشدودة الأعصاب، مجندة القوى، يقظة للمداخل والمخارج.. ولابد من الصبر في هذا كله.
لابد من الصبر على الطاعات، والصبر على عناد المشاقين لله، وفضح أساليبهم وأهدافهم، الصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعد الشُقَّة.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"(1) .
لابد من تربية للنفوس بالبلاء وبالجوع، لابد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف، فالتكاليف هنا هي الثمن النفيس الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الأخرين.
(1) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها، وصبرهم على بلائها، عندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها، مندفعين إليها.
ولابد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد، والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش من العيون، والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله.. الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام وهي شتى، ويخلو القلب إلى الله وحده لا يجد سنداً إلا سنده، وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات وتتفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مدّ البصر
…
لا حول إلا حول الله، ولا ملجأ إلّا إليه.
قال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيية قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)[البقرة: 155-157] .
إنا لله.. كلنا.. كل ما فينا.. كل كياننا وذاتيتنا.. لله. وإليه المرجع والمآب في كل أمر، وفي كل مصير.. التسليم.. التسليم المطلق..
هؤلاء هم الصابرون.. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل.. وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) .
"صلوات من ربهم ورفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه وهو مقام كريم.. ورحمة.. وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون.. وكل أمر من هذه هائل عظيم".
إن الله يضع الصبر في كفة.. ويضع في الكفة الأخرى أمراً واحداً.. صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.. إنه لا يعدهم هنا نصراً.. ولا يعدهم هنا تمكيناً، ولا يعدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئاً إلا صلوات الله ورحمته وشهادته
لقد كان الله يعد هذه الجماعة لأمر أكبر من ذواتها، وأكبر من حياتها، فكان من ثَم يجردها من كل غاية، ومن كل هدف، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية، حتى الرغبة في انتصار العقيدة - كان يجردها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته.. كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف، وهذه هي الغاية.. وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها.. فأما ما يكتبه الله لهم بعد ذلك من النصر والتمكين فهو لدعوة الله التي يحملونها.
إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء.. أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور.
"هذه هي التربيه التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين"(1) .
* * *
(1) نقل بتصرف من "الظلال".