المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفضيلة الثامنة عشرخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك - نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان - جـ ١

[سيد حسين العفاني]

فهرس الكتاب

- ‌بقلم فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري

- ‌بقلم فضيلة الشيخ: محمد صفوت نور الدين

- ‌بقلم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد المقصود العفيفي

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولمن معاني الصوم

- ‌أ- الإخلاص عنوان الصوم

- ‌(ب) التقوى حكمة الصوم العليا

- ‌(جـ) ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون

- ‌(د) الصوم وإعداد الأمة

- ‌(هـ) الصوم رياضة للنفس على ترك الشهوات

- ‌(و) الصوم والمراقبة

- ‌الباب الثانيفضائل الصوم

- ‌الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون

- ‌الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له

- ‌الفضيلة الثالثةإضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره

- ‌الفضيلة الرابعة: رفعة الدرجات

- ‌الفضيلة الخامسة: الصيام مناسب لصفة من صفات الحق

- ‌الفضيلة السادسةجميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام

- ‌الفضيلة السابعةالصوم كفارة للخطيئات

- ‌الفضيلة الثامنةتشريف الله والملائكة له بالصلاة عليه

- ‌الفضيلة التاسعةالصيام جنة من النار

- ‌الفضيلة العاشرةالصوم في الصيف يورث السقيا يوم العطش

- ‌الفضيلة الحادية عشرالصوم في الشتاء الغنيمة الباردة

- ‌الفضيلة الثانية عشرنداء الريان لعاشر الصوام

- ‌الفضيلة الثالثة عشرالصوم سبيل إلى الجنات

- ‌الفضيلة الرابعة عشرشفاعة الصيام يوم القيامة لصاحبه

- ‌الفضيلة الخامسة عشردعوة الصائم لا ترد

- ‌الفضيلة السادسة عشرالصيام شعار الأبرار

- ‌الفضيلة السابعة عشرللصائم فرحتان

- ‌الفضيلة الثامنة عشرخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

- ‌الفضيلة التاسعة عشرالصوم جُنَّة

- ‌الفضيلة العشرونقطع أسباب التعبد لغير الله

- ‌الفضيلة الواحد والعشرونالصوم شكر للمنعم عالم الخفيات

- ‌الفضيلة الثانية والعشرونتوفير الطاعات وتحريض على المثوبات

- ‌الفضيلة الثالثة والعشرونتكثير الصدقات، والإحسان إلى ذوي الحاجات

- ‌الفضيلة الرابعة والعشرونرقة القلب وصيانة الجوارح

- ‌الفضيلة الخامسة والعشرونالصيام فدية لبعض الأعمال

- ‌ثمرات الصيام

- ‌الباب الثالثصوم الجاهليةموضوع تحت قدمي

- ‌إياكم وبنيات الطريق

- ‌1- الجناحية من الرافضة وصومها:

- ‌2- الخطابية:

- ‌3- الكيسانية:

- ‌4- العجلية:

- ‌5- الحزمية:

- ‌6- الإسماعيلية (الباطنية) :

- ‌7- صوم القرامطة:

- ‌8- الصليحيون "الإسماعيلية الطيبية باليمن

- ‌9- صوم البهرة:

- ‌10- الإسماعيلية النزارية:

- ‌أ- الحشاشون:

- ‌11- صوم الإسماعيلية الأغاخانية:

- ‌12- النصيريون وصومهم:

- ‌13- صوم الدروز:

- ‌فلاسفة الصومية وغلاتها:

- ‌14- صوم ابن عربي:

- ‌15- صوم الحلاج:

- ‌16- صوم ابن الفارض: وسَنن النصارى:

- ‌17- صوم الرفاعية:

- ‌19- أبو العلاء المعري والصوم عن الحيوان "زهاد المبتدعة

- ‌صوم المارقين المرتدين:- البهائية -القاديانية

- ‌20- صوم البهائية:

- ‌21- صوم القاديانية:

- ‌22، 23- صوم النصارى واليهود:

- ‌الباب الرابعفصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

- ‌الباب الخامسسادات الصائمين

- ‌(1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌(2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌(3) صوم أبي طلحة الأنصاري

- ‌(4) صوم عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر

- ‌(6) صوم أبي الدرداء حكيم الأمة وسيد القراء

- ‌(7) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص

- ‌(8) صوم عبد الله بن عمر

- ‌(9) صوم أبي أمامة الباهلي

- ‌(10) صوم عبد الله بن الزبير

- ‌(11) صوم عبد الله بن رواحة

- ‌(12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي

- ‌(13) صوم أبي مسلم الخولاني

- ‌(14) صوم عامر بن عبد قيس

- ‌(15) صوم الأسود بن يزيد النخعي

- ‌(16) صوم مسروق بن عبد الرحمن

- ‌(17) صوم العلاء بن زياد

- ‌(18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين

- ‌(19) صوم أبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش

- ‌(20) صوم عروة بن الزبير

- ‌(21) صوم سليمان بن يسار

- ‌(22) صوم عطاء بن يسار

- ‌(23) صوم إبراهيم النخعي

- ‌(24) صوم الحسن البصري

- ‌(25) صوم ابن سيرين

- ‌(26) صوم عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي

- ‌(27) صوم عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكومي

- ‌(28) صوم عراك بن مالك الغفاري

- ‌(29) صوم منصور بن المعتمر

- ‌(30) صيام سليمان بن طرخان

- ‌(31) صوم الزهري

- ‌(32) صوم ابن جريج

- ‌(33) صوم عبد الله بن عون

- ‌(34) صوم داود بن أبي هند

- ‌(35) صوم ابن أبي ذئب

- ‌(36) صوم شعبة الخير أبي بسطام

- ‌(37) صوم غندر

- ‌(38) صوم معروف الكرخي

- ‌(39) صوم أحمد بن حرب

- ‌(40) صوم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة

- ‌(41) صوم إبراهيم بن هانئ النيسابوري

- ‌(42) صوم أحمد بن سليمان أبو بكر النجاد

- ‌(43) صوم بقي بن مخلد

- ‌(44) صوم المنبجي

- ‌(45) صوم ابن زياد النيسابوري

- ‌(46) صوم القطان

- ‌(47) صوم ابن بطة

- ‌(48) صوم ابن جميع

- ‌(49) صوم السكن ابن جميع

- ‌(50) صوم الصوري

- ‌(51) صوم الدوني

- ‌(52) صوم العماد المقدسي

- ‌(53) صوم ثابت البناني

- ‌(55) صوم وكيع بن الجراح

- ‌(56) صوم أبي بكر بن عيّاش

- ‌(57) صوم جعفر بن الحسن الدرزيجاني

- ‌(58) صوم رحلة العابدة

- ‌(59) صوم ميمونة بنت الأقرع

- ‌(60) صوم أبي حنيفة

- ‌(61) صوم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة

- ‌(62) صوم الملك العادل نور الدين محمود زنكي

- ‌(63) صوم الشيخ الورع علي العياش:

- ‌(64) صوم السيدة المكرمة الصالحة نفيسة ابنة الحسن بن زيد

- ‌الباب السادسبين يدي رمضان

- ‌إذا العشرون من شعبان ولت

- ‌التهنئة بقدوم رمضان

- ‌الباب السابعفضائل رمضان

- ‌رمضان شهر نزول القرآنوالكتب السماوية

- ‌سجع

- ‌رمضان شهر التراويح والتهجد

- ‌رمضان شهر تكفير الذنوب

- ‌التائبون العابدون "سجع

- ‌رمضان شهر الجود والإحسان

- ‌رمضان شهر فتح أبواب الجنان

- ‌رمضان شهر غلق أبواب النيران

- ‌رمضان شهر الصبر والتربية

- ‌رمضان شهر الشكر

- ‌رمضان شهر الدعاء المستجاب

- ‌رمضان شهر مضاعفة الأجر

- ‌رمضان شهر تصفيد الشياطين

- ‌رمضان غنم للمؤمن ونقمة للفاجر

- ‌رمضان شهر تربية المجتمع

- ‌رمضان شهر ليلة القدر

- ‌الباب الثامنرمضان شهر الجهاد والفتوحات

- ‌ السنة الثالثة من الهجرة:

- ‌ هدم الأصنام:

- ‌فتح النوبة ومعاهدة القبط

- ‌سنة 67 هـ زالت دولة المختار الثقفي:

- ‌وقفة على أبواب مدريد

- ‌فتوح المسلمين في فرنسا

- ‌سنة 222 هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي

- ‌سنة 223 هـ فتح عمورية على يد المعتصم:

- ‌سنة 559 هـ وقعة حارم:

- ‌فتح أنطاكية

- ‌فتح أرمينيا الصغرى

- ‌فتح جزيرة قبرص

- ‌فتح البوسنة والهرسك

- ‌جهاد المسلمين في الحبشة

- ‌الباب التاسعحدث في رمضان

- ‌5 هـ حديث الإفك:

- ‌9 هـ قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب العاشرأسرار الصوم وشروطه الباطنة

- ‌الباب الحادي عشرالموضوع والضعيف في الصوم

- ‌الباب الثاني عشرالصوم على أربعين وجهًا

- ‌الباب الثالث عشرالصوم المندوب والمنهي عنه

- ‌ الصوم المندوب

- ‌صيام شهر الله المحرم

- ‌صوم شعبان

- ‌حكم التطوع بالصيام بعد انتصاف شعبان:

- ‌ليلة النصف من شعبان:

- ‌صيام ستة أيام من شوال

- ‌صوم الأشهر الحرم

- ‌صوم رجب

- ‌النوع الثانى: صوم الأيام

- ‌1- صوم عشر ذي الحجة

- ‌2- صوم يوم عرفة

- ‌3- صوم يوم عاشوراء

- ‌4- صوم أيام البيض

- ‌5- صيام الاثنين والخميس

- ‌7- صيام يوم السبت والأحد مخالفة للمشركين

- ‌الصوم المبهم المقيد بزمن

- ‌(1) صوم يوم وإفطار يوم

- ‌(2) صوم يوم وإفطار يومين

- ‌(3) صوم عشرة أيام من الشهر

- ‌(4-7) صوم إحدى عشرة أو تسعا أو سبعا أو خمسة أيام من الشهر

- ‌(8) صيام أربعة أيام من الشهر

- ‌(9) صوم ثلاثة أيام من الشهر كيفية ذلك

- ‌(10) صوم يومين من الشهر

- ‌(11) صوم يوم من الشهر

- ‌الأيام المنهي عن صيامها

- ‌(1 و2) يوم الفطر، والأضحى

- ‌(ب) الأيام المنهي عن صيامها والمختلف فيها

- ‌1- أيام التشريق

- ‌سرّ حسن:

- ‌2- صوم يوم الجمعة

- ‌3- بعد النصف من شعبان

- ‌4- صوم السبت

- ‌5- يوم الشك

- ‌النهي عن صوم المرأة تطوعاً إلا بإذن زوجها وهو حاضر:

- ‌إفراد يوم النيروز بصوم

- ‌صيام الدهر

- ‌الوصال في الصوم

- ‌هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع

الفصل: ‌الفضيلة الثامنة عشرخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

إن يوماً جامعاً شملى بهم

ذاك عيدي ليس لي عيد سواه (1)

‌الفضيلة الثامنة عشر

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، والصيام لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(2) .

فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى الله فرح بصومه"(3) .

قال أبو حاتم: شعار المؤمنين في القيامة التحجيل بوضوئهم في الدنيا فرقاً بينهم وبين سائر الأمم، وشعارهم في القيامة بصومهم طِيبُ خلوفهم أطيب من ريح المسك ليعرفوا بين ذلك الجمع بذلك العمل، نسأل الله بركة ذلك اليوم.

خلوف الصائم قد يكون أطيب من ريح المسك في الدنيا:

عن أبي هريرة (رضى الله عنه) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، يقول الله إلا الصوم، فهو لي وأنا أجزي به، يدع الطعام من أجلي، والشراب من أجلي، وشهوته من أجلي، وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم حين يخلف من الطعام أطيب عند الله من ريح المسك"(4) .

(1)"لطائف المعارف"(176-179) .

(2)

رواه ابن حبان واللفظ له وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه مسلم والنسائي.

(3)

إسناده صحيح: رواه ابن حبان واللفظ له، وابن خزيمة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي.

(4)

إسناده صحيح على شرط الشيخين: رواه ابن حبان في "صحيحه" واللفظ له، وابن أبي شيبة وأحمد ومسلم، وابن ماجة.

ص: 53

وفي الحديث في فضل هذه الأمة في رمضان: "وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك"(1) .

إن للطاعات يوم القيامة ريحاً تفوح، فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك.

وهل هو في الدنيا أم في يوم القيامة؟

قال ابن حجر: "هذه المسألة إحدى المسائر التي تنازع فيها ابن عبد السلام، وابن الصلاح، فذهب ابن عبد السلام إلى أن ذلك في الآخرة كما في دم الشهيد واستدل بالرواية التي فيها "يوم القيامة"، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدل بما تقدم وأن جمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك.

ويؤخذ من قوله "أطيب من ريح المسك" أن الخلوف أعظم من دم الشهيد لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصوم أفضل من الشهادة لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك النظر إلى أصل كل منهما فإن أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه، فكان ما أصله طاهر أطيب ريحاً (2) .

يا هذا تأمل العبارة..

"فَضّل ما ينكره الناس من الصيام على أطيب ما يستلذ من جنسه"(3) .

ليقاس عليه ما فوقه من آثار الصوم ونتائجه إن كان هذا حال الخلوف فكيف بأثر الإخلاص في الصوم.

قال الحافظ ابن رجب "خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته، كما أن دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثغب دماً لونه لون الدم وريحه ريح المسك، وبهذا استدل من كره السواك للصائم أوْ لمْ يستحبه

(1) إسناده مقارب رواه البيهقي في "شعب الإيمان" من حديث جابر وقال المنذري إسناده مقارب، انظر "الفتح"(4/128) .

(2)

"فتح الباري"(4/128) .

(3)

"مرقاة المفاتيح"(4/222-223) .

ص: 54

من العلماء وأول من علمناه استدل بذلك عطاء بن أبي رباح، وروي عن أبي هريرة أنه استدل به لكن من وجه لا يثبت وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء وإنما كرهه من كرهه في آخر نهار الصوم لأنه وقت خلو المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل يدخل وقت الكراهة بصلاة العصر؟ أو بزوال الشمس؟ أو بفعل صلاة الظهر في أول وقتها؟ على ثلاثة أقوال: والثالث هو المنصوص عند أحمد.

وفي طيب ريح خلوف الصائم عند الله عز وجل معنيان:

أحدهما: أن الصيام لماّ كان سراً بين العبد وبين ربه في الدنيا أظهره الله في الآخرة علانية للخلق ليشتهر بذلك أهل الصيام ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صيامهم في الدنيا.

قال مكحول: يُروّح على أهل الجنة برائحة فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحاً منذ دخلنا الجنة أطيب من هذا الريح فيقال: هذه رائحة أفواه الصوام.

وقد تفح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة.

وهو نوعان:

أحدهما: ما يُدرك بالحواس الظاهرة، كان عبد الله بن غالب -الحداني- من العباد المجتهدين في الصلاة والصيام فلما دُفِن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك فرؤي في المنام فسُئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.

والنوع الثانيْ: ما تستنشقه الأرواح والقلوب فيوجب ذلك للصائمين المخلصين المودة والمحبة في قلوب المؤمنين.

لماّ كان أمر المخلصين بصيامهم لمولاهم سرّاً بينه وبينهم أظهر الله سرّهم لعباده فصار علانية فصار هذا التجلي والإظهار جزاء لذلك الصون والإسرار، في الحديث "ما أسرّ أحد سريرة إلَّا ألبسه الله رداءها علانية".

قال يوسف بن أسباط: أوحى الله إلى نبي من الأنبياء قل لقومك يخفون لي أعمالهم وعلي إظهارها لهم.

ص: 55

تذلل أرباب الهوى في الهوى عزّ

وفقرهُم نحو الحبيب هو الكنزُ

وسترهُم فيه السرائر شهرة

وغير تلاف النفس فيه هو العجز

والمعنى الثاني: أن من عبد الله وأطاعه وطلب رضاه في الدنيا بعمل فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا فإن تلك الآثار غير مكروهة عند الله بل هي محبوبة له وطيبة عنده لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته فإخباره بذلك للعاملين في الدنيا فيه تطيب لقلوبهم لئلا يكره منهم ما وجد في الدنيا.

كل شيء ناقص في عرف الناس في الدنيا حتى إذا انتسب إلى طاعة الله ورضاه فهو الكامل في الحقيقة، خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك، عُري المحرمين لزيارة ييته أجمل من لباس الحلل.... نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح.... انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر.... ذل الخائفين من سطوته هو العز.... تهتك المحبين في محبته أحسن من الستر.... بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة.... جوع الصائمين لأجله هو الشبع.... عطشهم في طلب مرضاته هو الري.... نصب المجتهدين في خدمته هو الراحة.

ذل الفتى في الحب مكرمةٌ

وخضوعه لحبيبه شرف (1)

قال المناوي (4/250) : "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" فإذا كان هذا بتغير ريح فمه فما ظنك بصلاته وقراءته وسائر عباداته.

قال ابن جماعة: "وفيه أن خلوف فم الصائم أفضل من دم الجريح في سبيل الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشهيد إن ريحه ريح المسك، وقال في خلوف الصائم أنه أطيب منه، ووجهه أن الجريح يظهر أمره للناس فربما دخله رياء، والصائم لا يعلم بصومه إلا الله، فلعدم دخول الرياء فيه صار أرفع".

* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهنّ، فكأنه أبطأ بهنّ، فأوحى الله إلى عيسى: إما أن يبلغهن، أو تبلغهن فأتاه

(1)"لطائف المعارف"(ص 179-182) .

ص: 56

عيسى فقال له: إنك أُمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال له: يا روُح الله إني أخشى أن سبقتني أن أُعذب أو يُخسف بي، فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن:

وأولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإنّ مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم أسكنه داراً، فقال له: اعمل وارفع إليِّ، فجعل العبد يعمل ويرفع إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً.

وأمركم بالصلاة، وإذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز وجل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت.

وأمركم بالصيام، ومثل ذلك كمثل رجل معه صُرّة مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وأمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فكّ نفسه.

وأمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله.

وأنا آمركم بخمس أمرني الله بهنّ: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجعِ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثاء جهنم، وإن صام وزعم أنه مسلم، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (1) .

(1) صحيح: رواه أحمد في مسنده، والبخاري في "التاريخ"، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم في "المستدرك" عن الحارث بن الحارث الأشعري، وصححه الحاكم والترمذي وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (1724) ، ورواه أيضاً الآجري، والطيالسي.

ص: 57