الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم، وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبداً وأسر الملك السعيد بن عبد العزيز بن العادل وكان يقاتل مع كتبغا فأمر المظفر بضرب عنقه.
واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحاً شديداً، وأيّد الله الإسلام وأهله تأييداً وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة (*) ، وهمت طائفة بنهب اليهود فقيل لهم إنهم لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخاً رافضياً، كان خبيث الطوية مصانعاً للتتارعلى أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف الكنجي، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين (فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام: 45] .
"رحم الله قطز فقد كان بطلاً كثير الخير ناصحاً للإسلام وأهله"(1) .
فتح أنطاكية
سنة 666 هـ:
وهذه معركة من معارك المسلمين ضد الصليبيين أما الزمان فهو رمضان من سنة ستٍ وستين وستمائة، وأما المكان فهو الشام وبالتحديد مدينة أنطاكية، وأما القائد فهو السلطان المسلم والقائد المظفر قاهر المغول والصليبيين الظاهرُ بيبرس رحمه الله.
(*)"ثبت بأدلة قاطعة أن تحرك المغول للسيطرة على بلاد المسلمين كان بتحريض من الصليبيين وكانت هناك اتصالات بين البابا أنوسنت الرابع قبل سنة 656 هـ وبين ملوك المغول سنة 642 هـ، وبعد ذلك بثلاث سنوات أوفد لويس التاسع الناسك رجلاً آخر. وعندما دخل المغول دمشق قبل موقعة عين جالوت جعل النصارى يشربون الخمر علناً في رمضان ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصليب ويجبرون المسلمين على القيام احتراماً وإجلالاً لهم" انظر "معركة شقحب للدكتور محمد لطفي الصباغ"(ص 11-15) .
(1)
"البداية والنهاية"(13/233-234) ، (13/238-240) .
تولى هذا القائد المسلم الحكم في دولة المماليك بُعَيد معركة "عين جالوت"، وأبدى من الأعمال والإصلاحات ما جعل المؤرخين يعدونه بحق مؤسس الدولة المملوكية في مصر والشام والحجاز.
والواقع أن الظاهر بيبرس قاد أمة الإسلام وحقق الله النصر لها على يديه على عدوين قويين تحالفا من أجل القضاء على هذه الأمة ودينها، وهما المغول الوثنيون في الشرق، والصليبيون النصارى في الغرب. فالمغول في الشرق أقاموا لهم دولة في فارس والعراق، وأصبحوا يتحينون الفرص للثأر من المسلمين الذين سحقوهم في معركة "عين جالوت"، كما تحدثنا عن ذلك، فيما مضى.
أما النصارى فعلى الرغم من الهزائم التي أنزلها بهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فلا زالت الإمدادات تصلهم تباعاً من الدول الأوربية فتتقوى بها إماراتهم الثلاث في قلب العالم الإسلامي.
وهكذا وجد سلطان المسلمين آنذاك أنه محصور بين هاتين القوتين، ومع ذلك لم يضعف ولم يستسلم، ولكنه عزم على الجهاد، هيأ درلته وشعبه لهذا الأمر العظيم، واتخذ الأسباب المعينة على هزيمة الأعداء، ووضع لنفسه منهجاً وأسلوباً عسكرياً فريداً، قوامه الصرامة في التعامل مع الأعداء، ووضع الخطط الحربية المناسبة، والسرية التامة في كل تحركاته ووجهاته حتى مع جنده وقادته، وحقق بتوفيق الله انتصارات حاسمة على المغول وعلى الصليبيين، فتهاوت أمامه المدن والقلاع وطهرها من رجس الصليبيين، وفي رمضان سنة ستٍ وستين وستمائة كان الموعد مع أنطاكية.
وأنطاكية عاصمة الإمارة الصليبية التي تحمل اسمها، وهي واحدة من ثلاث إمارات صليبية ظلت باقية في العالم الإسلامي إلى ذلك الوقت، حيث أزالها المماليك بعد ذلك.
سار السلطان بيبرس بجيشه نحو أنطاكية مارّاً بمدن الشام، حيث أمرَ بإبطال الخمور والمنكرات، وأمر ببناء مسجد في حمص، وهكذا كان معظم قادة المسلمين يقدمون الأعمال الصالحة قبل جهادهم، ويطهرون بلادهم من المعاصي والمنكرات لعلمهم أن ذلك هو الطريق إلى النصر المظفر بإذن الله.
وما خُذِلَ المسلمون وما هُزموا إلا بما قدمته أيديهم، ولذا كانت وصية خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لقادتهم هي اجتناب المعاصي والبعد عن الآثام لأنها سبب الهزائم.
وصلت الجيوش الإسلامية إلى أنطاكية، وأحاطت بها من كل جانب، وكان ذلك في يوم جمعة من أيام رمضان المبارك، فكان ذلك شرف زماني عظيم تُرَجَّى فيه إجابة الدعوات، وأرسل المسلمون للنصارى يطلبون منهم الاستسلام حفظاً لأرواحهم، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وفي يوم السبت زحفت العساكر الإسلامية وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً فتسوّر المسلمون الأسوار من جهة الجبل، ونزلوا المدينة فهرب أهلها إلى القلعة، وتسلم المسلمون المدينة، فقتلوا من قاتلهم، وأسروا الباقي، وكان في هذه المدينة مائة ألفٍ من الصليبيين من المحاربين.
وأما القلعة فقد اجتمع فيها ثمانية آلاف من المقاتلة الأشدّاء، غير أن المسلمين ضيَّقوا عليهم فطلبوا التسليم في يوم الأحد، على أن لا يقتلوا فاستجاب لهم المسلمون وصعد السلطان الظاهر بيبرس -رحمه الله تعالى- وتسلَّم القلعة وعفا عن كل من فيها.
وكُتِبَت كتب البشائر لأنحاء العالم الإسلامي بهذا النصر العظيم، والفتح الكبير وسقطت بذلك إمارة أنطاكية الصليبية، فكان ذلك إيذاناً بزوال الإمارات الصليبية كلها، وكان ملك أنطاكية خارجها فسلم لأجل ذلك، وأرسل له السلطان بيبرس كتاباً يخبره بهذا الفتح ويصف له الوقعة ويدعوه إلى الاستسلام وهذه مقتطفات منه:
"وفتحناها بالسيف من يوم السبت من رمضان، وقتلنا كل من اخترته لحفظها، والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها، فلو رأيت خيالتك وهم صراعى تحت أرجل الخيل، وديارك والنهابة فيها تصول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وإماءك فكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو شاهدت النيران وهي في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق لكنت تقول: (يا ليتني كنت ترابا) [النبأ: 40] ، واستنزلنا أصحابك من الصياصي، وأخذناهم بالنَّواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبق شيء يطلق عليه اسم العصيان، إلا النهر فلو استطاع لما تسمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندماً"(1) .
(1)"من معارك المسلمين في رمضان"(ص 72-74) .