الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونكاح همّ العبد وشاغله، أسرته وأذلته وصار عبداً لها، وبذلك يتحقق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش" وما أحسن ما قاله العلامة المناوي في كتابه "فيض القدير" موضحاً لهذه الحكمة: "إنما شرع الصوم كسراً لشهوات النفوس، وقطعاً لأسباب الاسترقاق والتعبد للأشياء، فإنهم لو داوموا على أغراضهم لاستعبدتهم الأشياء، وقطعتهم عن الله، والصوم يقطع أسباب التعبد لغيره، ويورث الحرية من الرق للمشتهيات، لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء لا تملكه، فإذا ملكته فقد قلب الحكمة، وصير الفاضل مفضولاً والأعلى أسفلاً، (أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) [الأعراف: 14] ، والهوى إله معبود، والصوم يورث قطع أسباب التعبد لعبده" انتهى (1) .
الفضيلة الواحد والعشرون
الصوم شكر للمنعم عالم الخفيات
قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما شكر عالم الخفيات: إذا صام عرف نعمة الله عليه في الشبع والريّ، فشكرها لذلك، فإن النعم لا تعرف مقدارها إلا بفقدها"(2) .
وقال القسطلاني وهو يتحدث عن مقاصد الصوم وفضائله: "تكثيره لشكر النعم، واعترافه بما سبق له من نعمة الشبع عند جوعه وعطشه فيجتهد في الشكر فإن الشيء إنما يعرف ما كان عليه بضده"(3) كما قيل:
ضدان لما استجمعا حَسُنا
…
والضد يُظهر حسنه الضِّدُّ
الفضيلة الثانية والعشرون
توفير الطاعات وتحريض على المثوبات
قال عز الدين بن عبد السلام: "وأما توفير الطاعات: فلأنه تذكر جوع أهل النار وظمأهم، فيحثه ذلك على تكثير الطاعات، لينجو بها من النار.
(1)"الصوم في ضوء الكتاب والسنة" للأشقر (ص 11-12) .
(2)
"فوائد الصوم"(ص 25) .
(3)
"مدارك المرام في مسالك الصيام"(ص 76) .
وأما الانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات: فلأن النفس إذا شبعت طمحت إلى المعاصي وتشوّفت إلى المخالفات، وإذا جاعت وظمئت تشوفت إلى المطعومات والمشروبات.
وطموح النفس إلى المناجات واشتغالها بها خير من تشوفها إلى المعاصي والزلات، ولذلك قدّم بعض السلف الصوم على سائر العبادات، فسُئل عن ذلك؟ فقال:"لأن يطلع الله على نفسي وهي تنازعني إلى الطعام والشراب أحب إلي من أن يطلع عليها وهي تنازعني إلى معصيته إذا شبعت"(1) .
قال القسطلاني في "فضائل الصوم":
"زجره عن الخواطر الذميمة: الموقعة في المآثم المقيمة، إذا الجوع يكبح النفس بلجام الجفوة للهفوة الموجبة للغلظة والقسوة، والشبع مما يقودها إلى الطماح والجماح، ويذودها عن السعي في قص ما زاد من جناح الجناح، ويوقعها في الجرأة والفظاظة والانكباب على ارتكاب المناهي.
والجوع يجسم مواد الفساد من هذه العلل ويقللها حتى يقتصر فكر الجائع على مأكول ومشروب يدفع به ما هو فيه؛ فتنصرف فكرته إلى المباح السالم من تعاطاه عن الأذى والإثم، فظهر أنه أولى من الشبع الذي يؤدي إلى المحرم أو المكروه، والله أعلم.
ثم قال: "حثه على فعل الطاعات وتحريضه على تحصيل المثوبات: لأن المعدة إذا خلت من الأغذية ضعف من الجسد ما هو فيه من القوى النفسانية وقويت منه الروحانية، فأشرق في القلب نور القدس، ولاح في الروح ضياء القدس، وخشعت الجوارح لفعل القربات، ولانت الجلود لإتيانها بالطاعات؛ فأقبلت على خدمة الله تعالى بقلب منيب، وأعرضت عن عصيانه ومخالفته.
التذكر لتعداد نعم الله في الدارين: إذ نعمته بلذاذة هذه العبادة عاجلاً بتذكر حال أهل النار آجلاً، ومآل أمرهم من الجوع والعطش كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله:
(1)"فوائد الصوم"(ص 25) .