الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن
رمضان شهر الجهاد والفتوحات
شهر الجهاد والفتوحات
رمضان شهر الجهاد وشهر التجارة الرابحة ذروة سنام الإسلام قال تعالى:
(يآ أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين)[الصف: 10- 13] .
من ذا الذي لا يشتاق أن يدله الله على هذه التجارة
…
ألا يشرق القلب عند سماع هذه الآيات في فضل الجهاد.
(يغفر لكم ذنوبكم..) وهذه وحدها تكفي فمن ذا الذي يضمن أن يغفر له ذنبه ثم يتطلع بعدها إلى شيء؟ أو يدخر في سبيلها شيئاً. ولكن فضل الله ليس له حدود ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن.. وإنها لأربح تجارة أن يجاهد المؤمن في حياته القصيرة ثم يعوض عنها تلك الجنات وهذه الساكن في نعيم مقيم.
إن المؤمن الذي يدرك هذا ويعيش بقلبه هذا التصور ويطلع على آفاقه وآماده ثم ينظر إلى الحياة بغيرة في حدودها الضيقة الصغيرة وفي مستوياتها الهابطة الواطية وفي اهتماماتها الهذيلة الزهيدة هذا القلب لا يطيق أن يعيش لحظة بغير أن يحدث نفسه به ويكفي ما سكن في القلب من رضى وارتياح.
(يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) وهذا وضع كريم يرفعنا الله إليه وهل أرفع من مكان أن يكون العبد نصيراً للرب؟ إن هذه الصفة عمل من التكريم ما هو أكبر من الجنة والنعيم.
وقال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)[آل عمران: 142] .
وقال تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)[التوبة: 24] .
وقال تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)[التوبة: 41] .
وقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)[الحج: 78] .
انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة واختاركم لها من بين عباده إنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء.
وقال تعالى: (لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً) .
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"(1) .
إن الجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة وإنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة وإلا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"، ومن ثَم لابد منه في كل صورة ولابد أن يبدأ في عالم الضمير ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والشهود لابد من بذل الأموال والأنفس.
وتلك حياة رفيعة نظيفة كريمة حرة طليقة بدلا من الحياة الذليلة الضعيفة لذة التجرد لله وهذه لذة علوية لا تعدلها لذائذ في الأرض لذة الرجاء في رضوان الله ولذة الاستعلاء على
(1) رواه البخاري ومسلم.
الضعف والهبوط والخلاص من ثقلة اللحم والدم والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء.
إن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال.
(التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) .
وقال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)[التوبة: 111] .
بيعة الله لا ييقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله سبحانه، باع المؤمن نفسه وماله مقابل الجنة وهو ثمن لا تعدله السلعة ولكن فضل الله ومَنَّه لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا
…
كلا
…
إنها صفقة مشتراه لشاريها أن يتصرف بها وفق ما يفرض ووفق ما يحدد. ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
ما الذي فات المؤمن الذي يسلم نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ فالجنة الكسب كل الكسب.
قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم"(1)(يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثقالتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل)[التوبة: 38] .
إنها ثقلة الأرض ومطامع الأرض وتصورات الأرض ثقلة الخوف على الحياة والخوف على المال والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع، ثقلة الدعة والراحة.
ثقلة اللحم والدم والتراب والجسم المترف الثقيل وهم مع هذا يقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء.
(1) صحيح: رواه الطبراني في "الأوسط" عن أبي أمامة، وأحمد والحاكم والضياء عن عبادة وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه لها جهاد الأعداء.
وواقع الأمة المسلمة الآن وهتك أعراضها وسلب أغلى مقدساتها وذبح أطفالها وهدم الثوابت من دينها، جزاء من جنس عملها، جزاء ما تركت من ذروة سنام دينها.
والعيش بعيداً عن الجهاد عيش تافه رخيص مفزع وهكذا تخاف الأمة من ظلها وتفرق من صداها تؤدي ضريبة الذل كاملة تؤديها من نفسها ومن قدرها ومن سمعتها ومن اطمئنانها ومن دينها بعد أن باعها عملاء اليهود في كل واد.
ما العجب: قد كبت المآذن غيلة
…
واغتيل تحت قبابنا الترتيلُ
وإذا عيون الشمس تطبق جفنها
…
حول الصباح أينفع القنديل؟
مالعجب؟ قد باع الرجال سيوفهم
…
وتعثرت بالهاربين خيول
واستبدلوا طبلاً بصوت مكبر
…
فإذا الجهاد ربابة وطبول
تحت الكراسي في البلاد جماجم
…
وعل الكراسي في البلاد مغول
وإذا الزنادقة استقام لأمرهم
…
حكم فغانية الكهوف بتول
للجاهلية في البلاد عقيدة
…
وبني قريضة محفل وقبيل
زمر إذا مرت على بستاننا
…
شاصت عروق النخل وهي حمول
يدرون أن الوحل فوق جباهم
…
ينمو وأن أمامهم ضِلِّيلُ (1)
وتحول الصقر الإسلامي إلى طائر الحجل في وداعته وكما قال إقبال: "عَلَّموا الليث حجلة الظبي وأمحوا عنه قصة الأسد". الإسلام يا إخوتاه دين لا يتعارض مع الواقع ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها فقد تذهب الأيام بداهية وتأتي بداهية أفظع منه والحماس وحده لا يكفي وهذا قول الإمام المجاهد ابن تيمية من حنكته الأيام والتجارب يقول: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من
(1) من قصيدة ثكلتك دجلة يا فرات بتصرف للشاعر يحيى السماوي المجلة العربية العدد (209) .
الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية (فقاتلوا أئمة الكفر) الذين يطعنون في الدين وبآية (فقاتلوا الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) " (1) .
وأمام الواقع البائس النكد الذي يواجه أمة سقطت إلى الوحل وضاع منها كل شيء يقول الشيخ سيد قطب: "فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام فهم اللحظة ومؤقت غير مكلفين بتحقيقها ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطعون معها تنفيذها".
ويبقى دائماً وأبداً في كل وقت جهاد الحجة قال تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً) .
قال ابن القيم: "ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به..) أي بالقرآن (جهاداً كبيراً) فهذه السورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد الحجة"(2) .
وأمام الدعاة المجاهدين بالحجة ألوف من تلاميذ الاستشراق وصبيان العلمانية
والدعاة إلى القومية والماسونية وأصحاب الدعوة إلى الإنسانية وإلى زمالة الأديان والدعوة إلى السلام العالمي البارد تلاميذ اليهود والصليبية العالمية الذين يدبجون الشبه ويجدون من علماء السوء من يطلق بضاعته المسمومة، فإن للقرآن من القوة والسلطان والتأثير العميق ما يهز القلوب ويزلزل الأرواح ولا يثبت لحجته مجادل أو ممحال.
يصيبهم الزعر من صمود الدعاة أمامهم يقارعونه بحجج القرآن الناصعة وإن لم يكن هذا جهاد فأي شيء يكون؟!
رمضان شهر الجهاد والفتوحات: امتنَّ الله عز وجل على الأمة في هذا الشهر بأحلى انتصارتها وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هذا الشهر رمز للعطاء والبذل.
(1)"الصارم المسول" لابن تيمية (ص 221) .
(2)
"زاد المعاد"(2/58) .
* ففي السنة الأولى من الهجرة وفي رمضان كوّن المسلمون أول سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب ثم سرية عبيدة بن الحارث وذلك لبث الرعب في قلوب الأعداء.
غزوة بدر الكبرى (غزوة الفرقان) :
* وفى السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى:
وبيئر بدر إذ يكفّ مطيهم
…
جبريل تحت لوائنا ومحمد
مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل قصة انتصار الحق على أعدائه المدجّجين بالسلاح المزودين بكل زاد، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله الثابتة المستعلية بيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها لقد انتصرت على نفسها فقلبت بيقينها ميزان الظاهر.
تمضي غزوة بدر مثلاً في التاريخ تقرر دستور النصر والهزيمة إلا أنها كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال فى كل زمان وفي كل مكان فهي آية من آيات الله ما دامت السماوات والأرض.
(ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون)[آل عمران: 123] .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً يريدون أبي سفيان والغنيمة فأرادها الله ملحمة فجمعهم الله بعدوهم على غير ميعاد وخرجت قريش بقدها وقديدها تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ألف رجل بعدتهم وعتادهم بطراً ورئاء الناس يقول فاجرهم: لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، واستفتح اللعين أبو جهل "اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف". وفي رواية "اللهم أضل الفريقين وأقطعهما للرحم فأحنه الغداة".
وفي يوم بدر يتجلى ثبات الرجال:
يقول المقداد بن عمرو: "يا رسول الله امضي لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".
ويقول صديق الأنصار سعد بن معاذ: "امضي يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل
واحد وما نكره أن تلق بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك فسر على بركة الله فَسُرّ رسول الله بقول سعد وقال: "سيروا وأبشروا فإن الله قد ودعني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".
إنها قصة الاسغاثة والتجرد لله.
"استقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً" فما زال يستغيث الله ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) [الأنفال: 9] ، وقال تعالى:(إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)[الأنفال: 12] .
إنه يوم قتال جبريل والملائكة مع الصادقين.
عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه -وكان أبوه من أهل بدر- قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "من أفضل المسلمين -أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"(1) . وقتل صناديد قريش وقطع دابر الكافرين، وخضدت شوكتهم، وعلت راية الإسلام وكلمة الله بمقدار اتصال القلوب بالله لا تقف لها قوة وكان هذا عن تجربة واقعية لا مجرد تصور واعتقاد قلبي، لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله وخلاصة هذه الموقعة ما قالته قريش نفسها قبلها.
"لما بعث خفاف بن أيماء بن رخضة الغفاري -أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري إلى قريش- حين مروا به، ابناً له بجزائر أهداها لهم، وقال لهم: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا، قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم! قد قضيت الذي عليك.
فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم. ولئن كنا إنما نقاتل الله -كما يزعم محمد- فما لأحدٍ بالله من طاقة.
(1) رواه البخاري.