المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التهنئة بقدوم رمضان - نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان - جـ ١

[سيد حسين العفاني]

فهرس الكتاب

- ‌بقلم فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري

- ‌بقلم فضيلة الشيخ: محمد صفوت نور الدين

- ‌بقلم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن عبد المقصود العفيفي

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأولمن معاني الصوم

- ‌أ- الإخلاص عنوان الصوم

- ‌(ب) التقوى حكمة الصوم العليا

- ‌(جـ) ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون

- ‌(د) الصوم وإعداد الأمة

- ‌(هـ) الصوم رياضة للنفس على ترك الشهوات

- ‌(و) الصوم والمراقبة

- ‌الباب الثانيفضائل الصوم

- ‌الفضيلة الأولى: الصائمون هم السائحون

- ‌الفضيلة الثانية: الصوم لا مثل له

- ‌الفضيلة الثالثةإضافته لله تعالى تشريفاً لقدره وتعريفاً بعظيم فخره

- ‌الفضيلة الرابعة: رفعة الدرجات

- ‌الفضيلة الخامسة: الصيام مناسب لصفة من صفات الحق

- ‌الفضيلة السادسةجميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام

- ‌الفضيلة السابعةالصوم كفارة للخطيئات

- ‌الفضيلة الثامنةتشريف الله والملائكة له بالصلاة عليه

- ‌الفضيلة التاسعةالصيام جنة من النار

- ‌الفضيلة العاشرةالصوم في الصيف يورث السقيا يوم العطش

- ‌الفضيلة الحادية عشرالصوم في الشتاء الغنيمة الباردة

- ‌الفضيلة الثانية عشرنداء الريان لعاشر الصوام

- ‌الفضيلة الثالثة عشرالصوم سبيل إلى الجنات

- ‌الفضيلة الرابعة عشرشفاعة الصيام يوم القيامة لصاحبه

- ‌الفضيلة الخامسة عشردعوة الصائم لا ترد

- ‌الفضيلة السادسة عشرالصيام شعار الأبرار

- ‌الفضيلة السابعة عشرللصائم فرحتان

- ‌الفضيلة الثامنة عشرخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك

- ‌الفضيلة التاسعة عشرالصوم جُنَّة

- ‌الفضيلة العشرونقطع أسباب التعبد لغير الله

- ‌الفضيلة الواحد والعشرونالصوم شكر للمنعم عالم الخفيات

- ‌الفضيلة الثانية والعشرونتوفير الطاعات وتحريض على المثوبات

- ‌الفضيلة الثالثة والعشرونتكثير الصدقات، والإحسان إلى ذوي الحاجات

- ‌الفضيلة الرابعة والعشرونرقة القلب وصيانة الجوارح

- ‌الفضيلة الخامسة والعشرونالصيام فدية لبعض الأعمال

- ‌ثمرات الصيام

- ‌الباب الثالثصوم الجاهليةموضوع تحت قدمي

- ‌إياكم وبنيات الطريق

- ‌1- الجناحية من الرافضة وصومها:

- ‌2- الخطابية:

- ‌3- الكيسانية:

- ‌4- العجلية:

- ‌5- الحزمية:

- ‌6- الإسماعيلية (الباطنية) :

- ‌7- صوم القرامطة:

- ‌8- الصليحيون "الإسماعيلية الطيبية باليمن

- ‌9- صوم البهرة:

- ‌10- الإسماعيلية النزارية:

- ‌أ- الحشاشون:

- ‌11- صوم الإسماعيلية الأغاخانية:

- ‌12- النصيريون وصومهم:

- ‌13- صوم الدروز:

- ‌فلاسفة الصومية وغلاتها:

- ‌14- صوم ابن عربي:

- ‌15- صوم الحلاج:

- ‌16- صوم ابن الفارض: وسَنن النصارى:

- ‌17- صوم الرفاعية:

- ‌19- أبو العلاء المعري والصوم عن الحيوان "زهاد المبتدعة

- ‌صوم المارقين المرتدين:- البهائية -القاديانية

- ‌20- صوم البهائية:

- ‌21- صوم القاديانية:

- ‌22، 23- صوم النصارى واليهود:

- ‌الباب الرابعفصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

- ‌الباب الخامسسادات الصائمين

- ‌(1) صوم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌(2) صوم ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌(3) صوم أبي طلحة الأنصاري

- ‌(4) صوم عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(5) صوم أم المؤمنين حفصة بنت عمر

- ‌(6) صوم أبي الدرداء حكيم الأمة وسيد القراء

- ‌(7) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص

- ‌(8) صوم عبد الله بن عمر

- ‌(9) صوم أبي أمامة الباهلي

- ‌(10) صوم عبد الله بن الزبير

- ‌(11) صوم عبد الله بن رواحة

- ‌(12) صوم الصحابي الجليل حمزة بن عمرو الأسلمي

- ‌(13) صوم أبي مسلم الخولاني

- ‌(14) صوم عامر بن عبد قيس

- ‌(15) صوم الأسود بن يزيد النخعي

- ‌(16) صوم مسروق بن عبد الرحمن

- ‌(17) صوم العلاء بن زياد

- ‌(18) صوم سعيد بن المسيب سيد التابعين

- ‌(19) صوم أبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش

- ‌(20) صوم عروة بن الزبير

- ‌(21) صوم سليمان بن يسار

- ‌(22) صوم عطاء بن يسار

- ‌(23) صوم إبراهيم النخعي

- ‌(24) صوم الحسن البصري

- ‌(25) صوم ابن سيرين

- ‌(26) صوم عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي

- ‌(27) صوم عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي الكومي

- ‌(28) صوم عراك بن مالك الغفاري

- ‌(29) صوم منصور بن المعتمر

- ‌(30) صيام سليمان بن طرخان

- ‌(31) صوم الزهري

- ‌(32) صوم ابن جريج

- ‌(33) صوم عبد الله بن عون

- ‌(34) صوم داود بن أبي هند

- ‌(35) صوم ابن أبي ذئب

- ‌(36) صوم شعبة الخير أبي بسطام

- ‌(37) صوم غندر

- ‌(38) صوم معروف الكرخي

- ‌(39) صوم أحمد بن حرب

- ‌(40) صوم أحمد بن حنبل إمام أهل السنة

- ‌(41) صوم إبراهيم بن هانئ النيسابوري

- ‌(42) صوم أحمد بن سليمان أبو بكر النجاد

- ‌(43) صوم بقي بن مخلد

- ‌(44) صوم المنبجي

- ‌(45) صوم ابن زياد النيسابوري

- ‌(46) صوم القطان

- ‌(47) صوم ابن بطة

- ‌(48) صوم ابن جميع

- ‌(49) صوم السكن ابن جميع

- ‌(50) صوم الصوري

- ‌(51) صوم الدوني

- ‌(52) صوم العماد المقدسي

- ‌(53) صوم ثابت البناني

- ‌(55) صوم وكيع بن الجراح

- ‌(56) صوم أبي بكر بن عيّاش

- ‌(57) صوم جعفر بن الحسن الدرزيجاني

- ‌(58) صوم رحلة العابدة

- ‌(59) صوم ميمونة بنت الأقرع

- ‌(60) صوم أبي حنيفة

- ‌(61) صوم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة

- ‌(62) صوم الملك العادل نور الدين محمود زنكي

- ‌(63) صوم الشيخ الورع علي العياش:

- ‌(64) صوم السيدة المكرمة الصالحة نفيسة ابنة الحسن بن زيد

- ‌الباب السادسبين يدي رمضان

- ‌إذا العشرون من شعبان ولت

- ‌التهنئة بقدوم رمضان

- ‌الباب السابعفضائل رمضان

- ‌رمضان شهر نزول القرآنوالكتب السماوية

- ‌سجع

- ‌رمضان شهر التراويح والتهجد

- ‌رمضان شهر تكفير الذنوب

- ‌التائبون العابدون "سجع

- ‌رمضان شهر الجود والإحسان

- ‌رمضان شهر فتح أبواب الجنان

- ‌رمضان شهر غلق أبواب النيران

- ‌رمضان شهر الصبر والتربية

- ‌رمضان شهر الشكر

- ‌رمضان شهر الدعاء المستجاب

- ‌رمضان شهر مضاعفة الأجر

- ‌رمضان شهر تصفيد الشياطين

- ‌رمضان غنم للمؤمن ونقمة للفاجر

- ‌رمضان شهر تربية المجتمع

- ‌رمضان شهر ليلة القدر

- ‌الباب الثامنرمضان شهر الجهاد والفتوحات

- ‌ السنة الثالثة من الهجرة:

- ‌ هدم الأصنام:

- ‌فتح النوبة ومعاهدة القبط

- ‌سنة 67 هـ زالت دولة المختار الثقفي:

- ‌وقفة على أبواب مدريد

- ‌فتوح المسلمين في فرنسا

- ‌سنة 222 هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي

- ‌سنة 223 هـ فتح عمورية على يد المعتصم:

- ‌سنة 559 هـ وقعة حارم:

- ‌فتح أنطاكية

- ‌فتح أرمينيا الصغرى

- ‌فتح جزيرة قبرص

- ‌فتح البوسنة والهرسك

- ‌جهاد المسلمين في الحبشة

- ‌الباب التاسعحدث في رمضان

- ‌5 هـ حديث الإفك:

- ‌9 هـ قدوم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الباب العاشرأسرار الصوم وشروطه الباطنة

- ‌الباب الحادي عشرالموضوع والضعيف في الصوم

- ‌الباب الثاني عشرالصوم على أربعين وجهًا

- ‌الباب الثالث عشرالصوم المندوب والمنهي عنه

- ‌ الصوم المندوب

- ‌صيام شهر الله المحرم

- ‌صوم شعبان

- ‌حكم التطوع بالصيام بعد انتصاف شعبان:

- ‌ليلة النصف من شعبان:

- ‌صيام ستة أيام من شوال

- ‌صوم الأشهر الحرم

- ‌صوم رجب

- ‌النوع الثانى: صوم الأيام

- ‌1- صوم عشر ذي الحجة

- ‌2- صوم يوم عرفة

- ‌3- صوم يوم عاشوراء

- ‌4- صوم أيام البيض

- ‌5- صيام الاثنين والخميس

- ‌7- صيام يوم السبت والأحد مخالفة للمشركين

- ‌الصوم المبهم المقيد بزمن

- ‌(1) صوم يوم وإفطار يوم

- ‌(2) صوم يوم وإفطار يومين

- ‌(3) صوم عشرة أيام من الشهر

- ‌(4-7) صوم إحدى عشرة أو تسعا أو سبعا أو خمسة أيام من الشهر

- ‌(8) صيام أربعة أيام من الشهر

- ‌(9) صوم ثلاثة أيام من الشهر كيفية ذلك

- ‌(10) صوم يومين من الشهر

- ‌(11) صوم يوم من الشهر

- ‌الأيام المنهي عن صيامها

- ‌(1 و2) يوم الفطر، والأضحى

- ‌(ب) الأيام المنهي عن صيامها والمختلف فيها

- ‌1- أيام التشريق

- ‌سرّ حسن:

- ‌2- صوم يوم الجمعة

- ‌3- بعد النصف من شعبان

- ‌4- صوم السبت

- ‌5- يوم الشك

- ‌النهي عن صوم المرأة تطوعاً إلا بإذن زوجها وهو حاضر:

- ‌إفراد يوم النيروز بصوم

- ‌صيام الدهر

- ‌الوصال في الصوم

- ‌هديه صلى الله عليه وسلم في صيام التطوع

الفصل: ‌التهنئة بقدوم رمضان

رمضان، المتقون يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.

وقد صمت عن لذّاتِ دهري كلها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجّل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته. شاهد ذلك قوله:(أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)[الأحقاف: 20](1) .

‌التهنئة بقدوم رمضان

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما أخرجه الإمام أحمد، والنسائي فعن أبي قلابة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" (2) .

قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان.

من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!

قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم.

وقال يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا".

(1)"لطائف المعارف"(ص 154-155) .

(2)

إسناده صحيح: "رواه النسائي والبيهقي، كلاهما عن أبي قلابة، انظر "مسند أحمد" (7148، 9493، 8979) تحقيق شاكر، عن أبي هريرة، قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على مسند أحمد (7148) ، إسناده صحيح، وفى "التهذيب" يقال أنه لم يسمع من أبي هريرة ولم أجد ما يؤيد هذا، وأبو قلابة -عبد الله بن زيد- لم يعرف بتدليس والمعاصرة كافية في الحكم بوصل الإسناد.

ص: 164

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه.

عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "كان رجلان من بلى من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة" (1) .

عن أبي سلمة، عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بَليِّ قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا: فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي.

قال طلحة: فرأيت في المنام: بينا أنا عند باب الجنة، إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: أرجع فإنك لم يأن لك بعد.

فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث: فقال: من أيِّ ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى: قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" (2) .

من رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.

أتى رمضان مزرعة العباد

لتطهير القلوب من الفساد

(1) إسناده صحيح انظر مسند أحمد بتحقيق شاكر حديث رقم (8380، 8381)(16/170-171) .

(2)

صحيح رواه ابن ماجة في "سننه" كتاب الرؤيا باب تعبير الرؤيا" وصححه الألباني، انظر "صحيح سنن ابن

ماجة حديث رقم (3171 ج 2/345-346) .

ص: 165

فأد حقوقه قولاً وفعلاً

وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها

تأوّه نادماً يوم الحصاد

وقال الشاعر:

إذا رمضان أتى مقبلاً

فأقبل بالخير يستقبل

لعلك تخطئه قابلاً

وتأتي بعذر فلا يقبل

كم ممن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومؤمل غداً لا يدركه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب

حتى عصى ربه في شهر شعبان

فاحمل على جسد ترجوه النجاة له

فسوف تضرم أجساد بنيران

كم كنت تعرف ممن صام في سلف

من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم

حيا فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب العيد يقطعها

فأصبحت في غد أثواب أكفان

حتى متى يعمر الإنسان مسكنه

يصير مسكنه قبر لإنسان (1)

اعلم يا أخي أن الناصح لنفسه لا تخرج عنه مواسم الطاعات وأيام القربات عطلاً لأن الأبرار ما نالوا البر إلا بالبر.

يضع نصب عينيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده"(2) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه

(1)"لطائف المعارف"(ص 155-157) .

(2)

حسن: رواه الطبراني في "الكبير" عن أنس وقال الهيثمي إسناده رجاله رجال الصحيح وحسنه الألباني في "الصحيحة" رقم (1890) .

ص: 166

منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً".

فيتعرض لإحسان مولاه، سبحانه من كريم أضحت رحالنا بباب كرمه مطروحة ورمضان سيد الشهور وتاج على مفرق الأيام والدهور.

رمضان ربيع التقي وقد فاح فواحه

رمضان يوسف الزمان في عين يعقوب الإيمان.

فمرحى بشهر طيب كريم مبارك.

* شهر نزول القرآن والكتب السماوية، شهر الشفاعة بالصيام والقرآن.

* شهر التراويح والتهجد.

* شهر التوبة وتكفير الذنوب.

* شهر تصفيد الشياطين.

* شهر غلق أبواب الجحيم.

* شهر فتح أبواب الجنان.

* شهر الجود والإحسان.

* شهر العتق من النيران.

* شهر ليلة القدر.

* شهر الدعاء.

* شهر الجهاد.

* شهر مضاعفة الحسنات.

* شهر الصبر والشكر.

فهلم يا باغيَ الخير إلى شهر يضاعف فيه الأجر للأعمال، فَنصَبَ المجتهدين في خدمة مولاهم في هذا الشهر هو الراحة.

ص: 167

بين الجوانح في الأعماق سكناه

فكيف أنسى ومن في الناس ينساهُ

وكيف أنسى حبيباً كنت من صغري

أسير حسن له جلت مزاياه

ولم أزل في هواه، ما نقضتُ له

عهداً ولا مَحَتِ الأيام ذكراه

قد شاخ جسمي ولكن في محبته

ما زال قلبي فتىً في عشق معناه

في كل عام لنا لقيا محببة

يهتز كل كياني حين ألقاه

بالعين والقلب بالآذان أرقبه

وكيف لا وأنا بالروح أحياه

والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت

ساعاتها ما أُحيلاها وأحلاه

فنوره يجعل الليل البهيم ضحى

فما أجل وما أجلى محياه

ألقاه شهراً ولكن في نهايته

يمضي كطيف خيال قد لمحناه

في موسم الطهر في رمضان الخير، تجمعنا

محبة الله لا مال ولا جاه

من كل ذي خشية لله ذي ولع

بالخير تعرفه دوماً بسيماه

قد قدروا موسم الخيرات فاستبقوا

والاستباق هنا المحمود عقباه

صاموه قاموه إيماناً ومحتسبا

أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه

وكلهم بات بالقرآن مندمجاً

كأنه الدم يسري في خلاياه

فالأذن سامعة والعين دامعة

والروح خاشعة والقلب أوّاه

* هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب في رمضان وسعى

سمسار الوعظ للمهجورين في الصلح ووصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو والمستوجبين النار بالعتق، لما سلسل الشيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشهوات بالصيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فكم يبق للعاصي عذر.

ص: 168

يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشّعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا عيون المجتهدين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس اقلعي، يا بروق العشاق للعشاق المعي، يا خواطر العارفين ارتعي، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي قد مدّت في هذه الأيام موائد الأنعام للصوّام فما منكم إلا مَنْ دعي (يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف: 31] .

ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طُرد عن الباب وما دعي.

ليت شعري إن جئتهم قبلوني

أم تراهم عن بابهم يصرفوني

أم تراني إذا وقفت لديهم

يأذنوا بالدخول أم يطردوني (1)

يا من طالت غيبته عن مولاه، قد قربت أيام المصالحة، يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة، كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر، وكم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.

من لم يربح في رمضان ففي أي وقت يربح، ومن لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.

يتلذذون بذكره في ليلهم

ويكابدون لدى النهار صياما

فسيغنمون عرائساً بعرائس

ويُبَوءون من الجنان خياما

وتقر أعينهم بما أخفى لهم

وسيسمعون من الجليل سلاماً (2)

***

(1)"لطائف المعارف"(ص 142-143) .

(2)

"عقود اللؤلؤ والمرجان في وظائف شهر رمضان" للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن.

ص: 169

رمضان

أضيف أنتَ حَلَ على الأنَامِ

وأقسَم أَنْ يُحيا بالصيام؟!

قطعتَ الدهر جَواباً وفياً

يَعودُ مَزارَهُ في كل عام

تُخيم.. لا يَحدُّ حماكَ ركن

فكل الأرض مهدٌ للخيام

نسَخْتَ شعائرَ الضيفان، لما

قنعتَ من الضيافة بالمقامِ

ورُحت تَسُنُّ للأجوادِ شرعاً

من الإحسان عُلوي النظام،

بأن الجودَ حرمَان وزُهْد

أعزُّ منَ الشراب أو الطعَام!!

أشهر أنتَ أم رُؤْيا مَتاب

تألق طيفُها مثل الشهاب؟

تَمرغَ في ظلالِكَ كل عاص

وكلُّ مَرَجَّس دَنِس الإهابِ

فأنتَ محير الآثام.. تَجْري

فتَلْحقها بأحلام العذابِ

تَراكَ شفيعَ تَوْبتَها، فتَخْزى؛

وتُوأَدُ تحت أجنحة الشباب!

وأنتَ مَنارة الغُفْران، يأوِي

إليك اليائسون من المتاب

وعندَ الله سُؤْلُك مستَجابٌ

ولو حُملتَ أوزارَ التُّراب!!

وقفتَ خُطاكَ عندَ البائسينا

فكنتَ للَيلهم فلقاً مُبينا

تُساقُ إليكَ أمواجُ التحايا

فتدفَعُهَا لباب المُعوزينا

فكم آهات محْروم حَدَاها

إليك البؤسُ! فانقَلَبتْ رَنيناً

فأنتَ مفزع البُخالْ.. تَجْري

خُطاكَ على حجارتِهِم مَعينا

وأَنتَ مُلَقن الأيدي نَداها

ومُكسبُها التراحُم والحْنينا

يخَافكَ كلُّ قارون شحيح

فيخْجلُ أنْ يُردَّ السائلينا

ص: 170

ومُنْذُ تَهِل ترهَبُكَ الذُّنوبُ

وتَخَتشِعُ السرائرُ والقلوبُ

وتفزعُ أن تُقابلك المعَاصي

فتُهْرَعُ أو تُقَنعُ، أو تذُوبُ

ويُجفل أنْ يراك أخو هَواها

ولو قَتَلَتْ مشاعره العُيوبُ

كأنَّكَ فارسُ الأيام، تَبدُو

فيصعقها مُهنَّدُكَ الغَضُوبُ

كأنَّ بكفِّك البيضاء سرّاً

من النَّجْوى تَكتَّمُهُ الغيوبُ

تُجابهُ كلهَ غَيَّان عَنيد

فيَكتَتِمُ الغِوايةَ أو يَتُوِبُ

جعلتَ النَّاس في وقت المغيبِ

عبيدَ ندائكَ العاتي الرَّهيبِ

كم ارتقَبُوا الأذانَ كأنَّ جُرحاً

يُعذبُهمْ تَلَفتْ للطَّبيب

وأتلَعَتِ الرِّقاب بهم، فلاحوا

كَرُكْبان علَى بلَد غَريبِ

عُتاةُ الإنسِ، أنتَ نسخْتَ منهم

تَذَلُّلَ أَوْجُهِ وضنى جُنوبِ

فيا.. من لقْمة، حفيف ماءِ

يُقِّلب روحَه فوقَ اللهيب

علامَ البغْيء والطغيان؟! إِنِّي

كفَرتُ بمنطق الدُّنْيا العَجيبِ!

تَلفتْ للمآذِنِ حاليات

كَحُورِيَّات خلْد سافِراتِ

تفوحُ مباخرُ النُّسَّاك منها

فتحسبُها غُصوناً عاطراتِ

تلألأ حولها أطواق نور

كأنكَ حامل وحياً إليها

وقَفْنَ لسِحرِه متلهفاتِ

إِذا صاحَ الأذانُ بها أَرنَّتْ

بإلهام كموْج البَحرِ عاتِ

يذكَّرُ بالهِدايةِ كل ناس

ويُوقِظُ كلِّ غاف في الحيَاةِ!

وهذا المعُجِزُ العالي الرَّخيمُ

أَذانُ الله، والذْكر الحكيم

تَلَاهُ في سكون اللَّيل تال

فكاد لِهَوله تَهْوِي النجومُ

ص: 171

نِداء تفزَغُ الأفلاك منه

ويخشعَ في مساريه السَّديمُ

على سمْع الهُداة يَضُوعُ عطراً

وتُقذَفُ منه للغاوي رُجُومَ

أصاخ الكونُ مسحوراً إليه

وخَر لبأسِه الأزلُ القَديمُ

تَنَزلَ فوق صدرِكَ منْ علاه

يشيرُ الوَحْي، والدِّينُ القَويمُ

سلاماً ناسَكَ الزمنِ القَوِيِّ

منَ القلبِ الحزين الشاعري

حملتُ إليك أشواقي وسري

لتَحْمِلَها إلى الأُفُق العَلِي

أمُر بها على زمنى غريباً

كطَير تاهَ في ظُلَم العَشي

وأعزِفُ للصبائحِ والأَماسي

فينتَفضُ الغناءُ لِكُلِّ حَي

كأني ما ذرفتُ أسىَ زماني

ولا أَفضَى صَداي بأيِّ شَيء!!

طَلعْتَ منوِّراً فوق العباد

فأيقظْ من تشبثَ بالرقاد

وقل للشرق: إن الكون يَمْشي

على سُبُل مغيبة الرَّشاد

فخُذ لزمانكَ الزَّاد المرَجّى

من الخلقِ القويم والاتحاد

ولا يوقفْكَ في التيار هولٌ

فنارُ الهوْل، نورٌ للجهاد

لقد ملَّتْ تقلبنا الليالي

على وَضَرِ التنعمِ والفَسَاد

شَدَا لكَ بالأذان خميلُ مصرِ

فَقُمْ.. وانشُر صَداهُ على البَوادِي!! (1)

***

(1) محمود حسن إسماعيل الديوان الحادي عشر صوت من الله قصيدة: "الزمن" رمضان ص (1763-1770) .

ص: 172

مدرسة الثلاثين يوماً

"شهر للثورة"(*)

* يقول الأديب الفاضل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.

"لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمتِه؛ أما منفعتُه للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيامَ هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبةً تؤخذُ في كل سنة مرةً لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شَرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرارِ الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلِها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.

من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخرُ في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائقَ غيرَ معروفة لكل زمن، فيُجلِّيها لوقتها حين يَضِج الزمانُ العلمي في مَتَاهَتِه وحَيرَته، فيَشغَبُ على التاريخ وأهله مستَخِفّاً بالأديان، ويذهبُ يتتبعُ الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلصَ من بيِن كُفرٍ وإيمان ديناً طبيعيّاً سائغاً، يتناولُ الحياة أول ما يتناولُ فيضبطها بأسرار العلم، ويوجِّهُها بالعلم إلى غايتها الصحية، ويضاعف قُواها بأساليبه الطبيعية، ليحقِّق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهبُ الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهبُ منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادةُ الاجتماع كالتجربة العلمية بين يَدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهبُ كعقارب الساعة في دورَتها: تبدأ من حيثُ تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ..

يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان

(*) كتبها في شهر رمضان سنة 1353 هـ، وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

ص: 173

بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهُم في الدنيا كُتُب ورسائل؛ ولو أنهم تدَبروُا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليّا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة: فهذا الصومُ فَقر إجباريّ تَفرضه الشريعةُ على الناس فرضاً ليتساوَى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من مَلَك المليونَ من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناسُ جميعا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضُها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تَفاوُتِهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضُه على من استطاع.

فقرُ إجباريٌ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.

ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وإحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبةُ الإنسانية، وهو العقلُ العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطنُ والدماغُ في ضرورةٍ، مد البطنُ مدَّهُ من قَوَى الهضم فلم يبقِ ولم يَذَر.

ومن ههنا يتناولُه الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويُحكم الأمر فيحولُ بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعُها تغذيتها ولذتها.

وبهذا يضَعُ الإنسانيةَ كلَّها في حالة نفسية واحدة تَتَلبسُ بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعلم الرحمة ويدعو إليها، فيُشبعُ فيها بهذا الجوعِ فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية (1) من الحق، وهي تلك الفكرةُ التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان

(1) ليس فيها أي حق.

ص: 174

الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) ، يكون هدوءُ الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلبُ والإيجابُ في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعتَ هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهبُ كلُّه عَبثاً من العَبث في محاولة جعلِ التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعضُ السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشدَ المبالغة، ويدقق كلَّ التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقةٌ عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرُها إلا النكباتُ والكوارث؟ فهما طريقتان كما ترى مُبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.

ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانُها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول:"أعطي" ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يُواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.

أية معجزة إصلاحية أعجبُ من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذفَ من الإنسانية كلها تاريخُ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحِل في محله تاريخُ النفس (1) ؟ وأنا مُستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحقِّقةٌ في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهرُ الصِّحي الذي يفرضه الطبُّ في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم، ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخُ العروقُ وتَربوا في النصف الأول من الشهر، كأنها في (مَدّ) من نور القمر ما دام هذا النورُ إلى زيادة، ثم يراجعُها (الجزرُ) في

(1) أفسد ضعفى النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس (تاريخ البطن) كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعوضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييراً لمواعيد الأكل.. ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده.

ص: 175

النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاماً. وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مدّ الدم وجَزرِه (1) ، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمريّا دون غيره.

وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو -مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثباتُ الإرادة وإعلانُها، كأنما انبعث أولُ الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العامّ لفروض الرحمة والإنسانية والبرّ.

وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عملُه في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي، الذي يُدرّبُ الصائم على أن يمتنع باختياره من شهوَاته ولذّةِ حيوانيته، مُصِرّاً على الامتناع، مُتهَيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر، مُزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسَخُ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.

وإدراكُ هذه القوة من الإدراك العملية منزلةُ اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرةُ مارّة مُرورهَا، ولكنها في الإرادة تعرِض لتستقرّ وتتحقَّق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فُرِضت فرضاً لتربية إرادة الشعب ومزاولتِه فكرة نفسيّةً واحدةً بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعودَ جزءاً من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مَراً.

أليست هذه هي إتاحةَ الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟

وهل تبلغ الإرادةُ فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مُذعنَة لفكرهِ، منقادة للوازع النفسي فيه، مُصَرفَة بالحس الديني المسيطِرِ على النفس ومشاعِرِها.

أما والله لو عم هذا الصومُ الإسلامي أهلَ الأرض جميعاً، لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلِّها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم

(1) قال الجاحظ في (الحيوان) : "ولزيادة القمر حتى يصير بدراً، أثر بين في زيادة الدماء في الأدمغة وجميع الرطوبات".

ص: 176

من رذائله وفساده، ومَحق الأثَرَة والبخل فيه، طرح المسألة النفسية ليتَدراسَهَا أهلُ الأرض دراسةَ عمليةَ مدة هذا الشهر بطوله، فيَهبطُ كلُّ رجُل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبرَ في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر وليفهم في طبيعة جسمه -لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغَ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان؛ فيُحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.

شهرٌ هو أيام قلبيةٌ في الزمن؛ متى أشرفَت على الدنيا قال الزمنُ لأهله: هذه أيامُ من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي؛ فيُقبلُ العالم كلُّه على حالة نفسية بالغة السموّ، ويتعهدُ فيها النفس برياضتها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعَت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أُفرغَتْ من خَسائسِها وشهواتها كما فَرَغَ هو، وكأنما أُلزِمَت معانيَ التقوى كما أُلزِمَها هو وما أجملَ وأبدع أن تَظهَر الحياةُ في العالم كله -ولو يوماً واحداً- حاملةً في يده السبحة..! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟

إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس؛ وتطهير الاجتماع من خسائس العقل الماديّ؛ ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين، والمحررةِ من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطنها نفسه يُطهرُ مَشاعرَها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويُهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فُضُولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مُشرقة بما يجتذبُ إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق؛ إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعوَ إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى والنفسُ في هذا الشهر مُحتَبَسَة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءَها من ذلك ما استطاعت.

هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصلٌ نَفساني كفصول الطبيعة في دَورَانها؛ ولَهو والله أشبهُ بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو الذي من

ص: 177

طبيعته السحُبُ والغيث، ومن عمله إمدادُ الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبِهَا الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.

وعجيب جدّاً أن هذا الشهر الذي يَدَّخر فيه الجسمُ من قواه المعنوية فيودِعُها مَصرِفَ روحانيته، ليجدَ منها عند الشدائد مَدَدَ الصبر والثبات والعزم والجلَد والخشونة.

وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدَّخر هذه القوّة وتوفِّرها لتستمدّها عند الحاجة، وذلك هو سِر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجدُ الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتَاد والأسلحة والذخيرة.

كلُّ ما ذكرتُه في هذا المقال من فلسفة الصوم، فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة:(كُتِبَ عليكم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قَبلِكم لعلكم تتقون)[البقرة: 183] .

وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى "التقوى"، أما أنا فأوّلتُها من "الاتّقَاء"؛ فبالصوم يَتقي المرءُ على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعتُه مَعِدَتُه، وألا يُعامِلَ الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة؛ ويتقي المجتمعُ على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسانٌ مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلَّها بالقليل من العَلَف.

وبالصوم يتقى هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو الحاضرُ من طباعه وأخلاقه، وما خَلَفَه هو الجيلُ الذي سيرثُ من هذه الطّباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي (1) .

(1) يفسر القرآن بعضه بعضاً، ومن معجزاته في هذا التأويل الذي استخرجناه أنه يؤيده بالآية الكريمة في سورة (يس) :(وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون..) ويشير إلى هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الصوم جنة (بضم الجيم) فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، وإني صائم".

الجنة: الوقاية يتقي بها الإنسان، والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر حيوانيته وحواسه، فقوله:"إني صائم، إني صائم"؛ أي إنني غائب عن الفحش والجهل والشر؛ إني في نفسي وليست في حيوانيتي.

ص: 178

وكلُّ ما شرحناه فهو اتقاءُ ضرر لجلب منفعة، واتقاءُ رذيلة لجلب فضيلة؛ ولهذا التأويل تتوجه الآية الكريمةُ جهةً فلسفيةً عاليةً، لا يأتي البيانُ ولا العلمُ ولا الفلسفةُ بأوجزَ ولا أكمل من لفظها؛ ويتوج الصيامُ على أنه شريعة اجتماعية إنسانيةٌ عامة؛ يتقى بها الاجتماعُ شرورَ نفسِه؛ ولن يتهذّبَ العالَم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانونُ العام الذي اسمُهُ الصومُ، ومعناه "قانونُ البطن"

ألا ما أعظمَكَ يا شهر رمضان! لو عَرَفَكَ العالَمُ حقّ معرفتِك لسَماكَ: "مدرسة الثلاثين يوماً".

***

ص: 179