الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ظهور مسلم بن عقيل
واجتماع الناس عليه، ومحاصرته عبيد الله بن زياد بالقصر وكيف خذله من اجتمع إليه وتفرقوا عنه وخبر مقتله ومقتل هانئ بن عروة قال [1] : ولما أتى الخبر مسلم بن عقيل خرج من دار هانئ، ونادى فى أصحابه:«يا منصور أمت» [2] وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا، وحوله فى الدور أربعة آلاف، فاجتمع إليه ناس كثير، فعقد لعبد الله بن عزير الكندىّ على ربع كندة، وقال: سر أمامى. وعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد، وعقد لأبى ثمامة الصائدىّ على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلىّ على ربع المدينة، وأقبل نحو القصر.
فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز بالقصر وأغلق الباب، وأحاط مسلم بالقصر، وامتلأ المسجد والسوق بالناس، وما زالوا يجتمعون حتّى المساء، وضاق بعبد الله أمره، وليس معه فى القصر الإثلاثون رجلا من الشّرط، وعشرون من الأشراف وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون [ابن زياد][3] من قبل الباب الذى يلى دار الروميين، والناس يسبون ابن زياد وأباه.
فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثى، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع راية
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 271.
[2]
كان هذا شعارهم.
[3]
الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 276.
الأمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذّهلى، وشبث بن ربعى التميمى، وحجّار بن أبحر العجلى، وشمر بن ذى جوشن الضبابىّ [1] وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم، لقلة من معه.
وخرج أولئك النفر على الناس من القصر، فمنوا أهل الطاعة، وخوّفوا أهل المعصية، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم تفرقوا، حتّى إن المرأة لتأتى ابنها وأخاها، فتقول:«انصرف، الناس يكفونك» ، ويفعل الرجل مثل ذلك.
فما زالوا يتفرقون حتى بقى مسلم بن عقيل فى المسجد فى ثلاثين رحلا [2] ، فلما رأى ذلك خرج نحو أبواب كندة، فلما وصل إلى الباب لم يبق معه أحد، فمضى فى أزقّة الكوفة لا بدرى أين يذهب.
فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة (أم ولد كانت للأشعث، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمىّ، فولدت له بلالا وكان بلال قد خرج مع الناس، وهى تنتظره) فسلّم عليها، وطلب منها ماء فسقته، فجلس، فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟! قال: بلى؛ فقالت، فاذهب إلى أهلك؛ فسكت، فكررت ذلك عليه ثلاثا فلم يبرح؛ فقالت: سبحان الله! إنى لا أحلّ لك الجلوس على بابى. فقال: ليس لى فى هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك فى أجر معروف، ولعلّى أكافئك به بعد اليوم. قالت وما ذاك؟ قال:
[1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى:«العامرى» .
[2]
هم الذين صلوا معه لمغرب.
أنا مسلم بن عقيل، كذبنى هؤلاء القوم وغرّونى. قالت: ادخل؛ فأدخلته بيتا فى دارها [غير البيت الذى تكون فيه][1] وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول فى ذلك البيت، فسألها، فلم تخبره، فألحّ عليها، فأخبرته، واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك.
قال [2] : وأمّا ابن زياد، فلما سكنت [3] الأصوات قال لأصحابه:
انظروا هل ترون منهم أحدا؟ فنظروا فلم يروا أحدا، فنزل إلى المسجد قبل العتمة [4] ، وأجلس أصحابه حول المنبر، وأمر فنودى:
«برئت الذمة من رجل من الشّرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلّى العتمة [5] إلا فى المسجد، فامتلأ المسجد، فصلّى بالناس، ثم قام فحمد ثم قال: «أمّا بعد، فإن ابن عقيل السّفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشّقاق، فبرئت الذمّة من رجل وجدناه فى داره، ومن أتانا به فله ديته» وأمرهم بالطاعة ولزومها، وأمر الحصين ابن تميم أن يمسك أبواب السكك، ثم يفتش الدّور.
وأصبح ابن زياد فجلس، فأتى بلال إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث وأخبره بمكان ابن عقيل، فأتى عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد فسارّه بذلك، فأخبر محمد ابن الأشعث ابن زياد، فقال له: قم فأتنى به الساعة؛ وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 278.
[2]
ابن الأثير فى الكامل ج 4 ص 272.
[3]
كذا جاء بالنون فى النسخة (ك) ، وجاء «سكتت» بالتاءين فى النسخة (ن) .
[4]
عتمة الليل: ظمته.
[5]
كانت الأعراب يسمون صلاة العشاء «صلاة العتمة» تسمية بالوقت.
السّلمى فى سبعين من قيس، فأتوا الدار، فخرج ابن عقيل إليهم بسيفه حتّى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا، وضربه بكر بن حمران الأحمرىّ فقطع شفته العليا وسقط سنّتاه، وضربه مسلم على رأسه وثنّى بأخرى على حبل العاتق فكادت تطلع على جوفه، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت، وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار فى القصب ويلقونها عليه، فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم فى السكة، فقال له محمد بن الأشعث.
لك الأمان فلا تقتل نفسك؛ فأقبل يقاتلهم ويقول:
أقسمت لا أقتل إلّا حرّا
…
وإن رأيت الموت شيئا نكرا
ويخلط البارد سخنا مرا
…
رد شعاع النفس مستقرّا [1]
كلّ امرىء يوما ملاق شرّا
…
أخاف أن أكذب أو أغرّا
فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وكان قد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال، وأسند ظهره إلى حائط تلك الدار، فأمّنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السّلمى فإنه قال: لا ناقتى فيها ولا جملى [2] .
وأتى ببغلة فحمل عليها، وانتزعوا سيفه، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عيناه وقال: هذا أول الغدر. قال محمد: أرجو ألا يكون عليك بأس.
قال: وما هو إلا الرجاء! أين أمانكم! ثم بكى، فقال له عمرو بن عبيد الله:
[1] كذا جاء فى الأصل، وجاء عند الطبرى وابن الأثير:«رد شعاع الشمس فاستقرا» .
[2]
كذا جاء فى النسخة (ك)، وجاء فى النسخة (ن) :«لا ناقة له فى هذا ولا جمل» .
من يطلب الذى تطلب إذا نزل به مثل الذى نزل بك لم يبك، فقال:
ما أبكى لنفسى، ولكن أبكى لأهلى المنقلبين إليكم: أبكى للحسين وآل الحسين. ثم قال لمحمد بن الأشعث: «إنى أراك تعجز [1] عن أمانى، فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالى، ويقول له عنى: ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذى كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؟» فقال ابن الأشعث: والله لأفعلنّ. وفعل [2] وأبى الحسين الرجوع.
قال: وجاء محمد بمسلم إلى القصر فأجلسه على بابه [3] ودخل هو إلى ابن زياد فأخبره بأمانه، فقال له: ما أنت والأمان! ما أرسلناك لتؤمنه، إنما أرسلناك لتأتينا به.
قال: ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرّة فيها ماء بارد فقال اسقونى من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو الباهلى:
أتراها ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم فى نار جهنّم! فقال له ابن عقيل: من أنت؟ قال: «أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح الأمة وإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمرو. فقال له ابن عقيل: لأمك الثّكل،
[1] عند الطبرى وابن الأثير: «ستعجز» .
[2]
دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائى، من بنى مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرا، وكان لمحمد زوارا، فقال له محمد: الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فى الكتاب ما أمره به مسلم بن عقيل، وأعطى لرسوله إياس زاده وجهازه وراحلته ومتعة لعياله، فخرج الرسول ومضى أربع ليال حتى استقبل الحسين بموضع يسمى «زبالة» ، فأخبره الخبر وبلغه الرسالة فقال له الحسين: كل ما حم نازل وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا.. وانظر ما سيأتى
[3]
وكان على باب القصر أناس ينتظرون الإذن، منهم مسلم بن عمرو وعمارة بن عقبة ابن أبى معيط وعمرو بن حريث وكثير بن شهاب.
ما أجفاك وأفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود فى نار جهنم منى!» قال: فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصبّ له فى قدح، فأخذ يشرب فامتلأ القدح دما: فعل ذلك ثلاثا، ثم قال: لو كان من الرّزق المقسوم لشربته.
وأدخل على ابن زياد، فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسى:
ألا تسلّم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلى فما سلامى عليه! وإن كان لا يريده فليكثرنّ تسليمى عليه. فقال ابن زياد: لعمرى لتقتلنّ. قال: فدعنى أوصى إلى بعض قومى. قال: افعل. فقال لعمر بن سعد بن أبى وقّاص: «إن بينى وبينك قرابة، ولى إليك حاجة وهى سر» . فلم يمكنه من ذكرها، فقال له ابن زياد: لا تمتنع من حاجة ابن عمك. فقام معه، فقال:«إن علىّ بالكوفة دينا استدنته [1] أنفقته: سبعمائة درهم، فاقضها عنّى، وانظر جثّتى فاستوهبها فوارها، وابعث إلى الحسين فاردده» . فقال عمر لابن زياد: أتدرى ما سارّنى؟ فقال: أكثرتم على ابن عمك؛ فقال: الأمر أكبر من هذا.
قال: اكتم على ابن عمك: قال الأمر أكبر من هذا، وأخبره بما قال.
فقال ابن زياد لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن. أمّا مالك فهو لك تصنع به ما شئت، وأمّا حسين فإن لم يردنا لم نرده:
وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأمّا جشّته فإنا لا نشفّعك فيها» وقيل:
إنه قال: وأمّا جثته فإذا قتلناه لا نبالى ما صنع بها.
ثم قال: يا ابن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة
[1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 282: «استدنته منذ قدمت الكوفة» .
لتشتيت بينهم، وتفريق كلمتهم. قال: «كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل، وندعو إلى حكم الكتاب. فقال وما أنت وذاك؟ ثم كانت بينهما مقاولة قال له ابن زياد فى آخرتها:
قتلنى الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فى الإسلام، فقال:«أما إنك أحقّ من أحدث فى الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السّيرة ولؤم الغلبة لأحد من الناس أحقّ بها منك!» فشتمه ابن زياد وشتم حسينا وعليّا وعقيلا ولم يكلّمه مسلم.
ثم أمر به، فأصعد فوق القصر وهو يستغفر الله تعالى ويسبّح، وأشرف به على موضع الحدادين [1] فضربت عنقه، وكان الذى قتله بكير بن حمران، ثم أتبع رأسه جسده.
قال وقام محمد بن الأشعث فكلّم ابن زياد فى هانئ بن عروة، وقال قد عرفت منزلته من المصر وبيته، وقد علم قومه أنى أنا وصاحبى.
سقناه إليك، فأنشدك الله لمّا وهبته، فإنى أكره عداوة قومه!» فوعد أن يفعل، ثم بدا له فأمر به حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه.
وبعث عبيد الله بن زياد برأسيهما إلى يزيد، فكتب إليه يزيد يشكره، ويقول له:«قد بلغنى أن الحسين بن علىّ توجه نحو العراق، فضع المراصد والمسالح واحترس، واحبس على التّهمة، وخذ بالظّنّة، غير ألّا تقتل إلا من قاتلك» .
[1] جاء فى تاريخ الطبرى: «أشرف به على موضع الجزارين اليوم» .
قال: وكان مخرج [مسلم بن [1]] عقيل بالكوفة [2] لثمان ليال مضين من ذى الحجّة سنة ستين. وقيل: لتسع [3] مضين منه.
وكان فيمن خرج معه المختار [4] بن أبى عبيد، وعبد الله [5] بن الحارث بن نوفل، وطلبهما ابن زياد وحبسهما.
وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث، وشبث بن ربعىّ- وهو أحد من كتب إلى الحسين- والقعقاع بن شور، وجعل شبث يقول: انتظروا بهم إلى [6] الليل يتفرقوا. فقال له القعقاع: إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم، فافرج لهم يتفرقوا.
وحج بالناس فى هذه السنة عمرو بن سعيد الأشدق، وهو عامل مكة والمدينة. وفيها مات أبو أسيد الساعدى [7] ، واسمه مالك ابن ربيعة، وهو آخر من مات من البدريّين [8]، وقيل: مات سنة خمس وستين. ومات حكيم بن حزام [9] وله مائة وعشرون سنة، ستون
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[2]
يوم الثلاثاء.
[3]
يوم الأربعاء.
[4]
خرج المختار براية خضراء.
[5]
خرج عبد الله براية حمراء وعليه ثياب حمر.
[6]
كذا جاء فى النسخة (ك)، وجاء فى النسخة (ن) :«انتظروا بهم الليل» .
[7]
ينتهى نسبه إلى ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكان مشهورا بكنيته.
[8]
شهد بدرا وأحدا وما بعدهما، وكانت معه راية بنى ساعدة يوم الفتح.
[9]
حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى هو بن أخى خديجة بنت خويلد زوجة النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حكيم من سادات قريش، وكان صديق النبى قبل المبعث، وكان يوده بعد المبعثة، ولكنه تأخر إسلامه حتى أسلم عام الفتح، وقد جاء الإسلام وفى يد حكيم الرفادة.