الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما اتفق فى مدة خلافته رضى الله عنه
خلاف ما قدمنا ذكره على حكم السنين مما هو متعلق به خاصة، خلاف ما هو مختص بمعاوية فإنا نذكره فى أخباره إن شاء الله تعالى
سنة ست وثلاثين ذكر ولاية قيس بن سعد مصر
وما كان بينه وبين معاوية من المكاتبة وما أشاعه معاوية عنه حتّى عزله علىّ رضى الله عنه عن مصر واستعمل محمد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنهما.
قال: وفى سنة ست وثلاثين فى ثالث صفر بعث علىّ رضى الله عنه قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر، وقال له:«سر إلى مصر قد ولّيتكها واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتّى تأتيها ومعك جند؛ فإن ذلك أرعب لعدوك وأعزّ لوليك، وأحسن [1] إلى المحسن، واشدد على المريب، وارفق بالعامّة والخاصّة، فإن الرّفق يمن» . فقال له قيس: «أمّا قولك أخرج إليها بجند فو الله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا قريبا منك وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة» .
وخرج قيس حتى دخل مصر [2] فى سبعة من أصحابه كما ذكرنا ذلك. ولما قدم صعد المنبر وجلس عليه، وأمر بكتاب علىّ رضى الله عنه فقرىء على أهل مصر بإمارته عليهم، ويأمرهم بمتابعته ومساعدته
[1] كذا جاء فى النسخة (ن)، وفى (ك) :«فأحسن» .
[2]
فى النجوم الزاهرة ج 1 ص 96 أنه وصل إليها فى مستهل شهر ربيع الأول
وإعانته على الحقّ. ثم قام قيس فقال: «الحمد لله الذى جاء بالحق، وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيّها الناس: إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن نحن لم [نعمل] [1] لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم» . فقام الناس فبايعوه.
واستقامت مصر، وبعث قيس عليها عمّاله إلّا قرية يقال لها خربتا [2] فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بنى كنانة ثم من بنى مدلج اسمه يزيد بن الحارث. وكان مسلمة بن مخلّد أيضا قد أظهر الطلب بدم عثمان، فأرسل إليه قيس» : ويحك!.
أعلىّ تثب؟! فو الله ما أحبّ أن لى ملك الشام إلى مصر وأنى قتلتك» .
نبعث إليه مسلمة: إنى كاف عنك ما دمت أنت والى مصر. وبعث قيس إلى أهل خربتا إنى لا أكرهكم على البيعة، وإنى أكفّ عنكم. فهادنهم وجبى الخراج، ليس أحد ينازعه.
فكان قيس أثقل خلق الله على معاوية، لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علىّ فى أهل العراق، وقيس فى أهل مصر، فيقع بينهما، فكتب معاوية إلى قيس: «سلام [3] عليكم؛ أمّا بعد، فإنكم نقمتم [4] على عثمان ضربة بسوط، أو شتمة لرجل، أو تسيير آخر، أو استعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحلّ لكم؛ فقد ركبتم عظيما
[1] كذا جاء عند الطبرى ج 3 ص 551 وابن الأثير ج 3 ص 173، وجاء فى المخطوطة:«تعلم» .
[2]
انظر فى أوائل هذا الجزء فى (ذكر تفريق على عماله) الكلام فى هذا اللفظ وهل هو «خرنبا» أو «خربتا» ؟.
[3]
كذا جاء فى المخطوطة، وعند بن الأثير:«عليك» .
[4]
كذا جاء فى المخطوطة، وفى النجوم الزاهرة ج 1 ص 99 «فإنكم إن كنتم نقمتم» .
وجئتم أمرا إدّا، فتب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأمّا صاحبك، فإذا استيقنّا أنه أغرى به الناس، وحملهم حتّى قتلوه، وأنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، وتابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان، وسلنى ما شئت فإنى أعطيكه، واكتب إلىّ برأيك» .
فلما أتاه الكتاب أحبّ أن يدافعه ولا يبدى له أمره، ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه:«أمّا بعد، فقد [بلغنى كتابك و] [1] فهمت ما ذكرته [فيه، فأمّا ما ذكرت] [1] من قتل عثمان، فذلك شىء لم أفارقه، وذكرت أن صاحبى هو الذى أغرى به حتّى قتلوه فهذا ما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتى لم تسلم [من دم عثمان] [1] فأوّل الناس كان فيها قياما عشيرتى، وأمّا ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لى فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، وليس يأتيك من قبلى ما تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى» .
فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا [2]، فكتب إليه:
«أمّا بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدّك سلما، ولا تتباعد فأعدّك حربا، وليس مثلى يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وأعنّة الخيل، والسلام.
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا تفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما فى نفسه، فكتب إليه: «أما بعد، فالعجب من اغترارك بى وطمعك فىّ، واستسقاطك رأيى، أتسومنى الخروج من طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرنى بالدخول فى طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزّور، وأضلّهم سبيلا، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس. وأمّا قولك: إنّى مالئ عليك مصر خيلا ورجلا [1] ، فو الله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهمّ إليك إنك لذو وجد [2] ، والسلام.
فلما رأى معاوية كتابه أيس منه، وثقل عليه مكانه، ولم تنجع حيله فيه فكاده، من قبل علىّ، فقال لأهل الشام: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى غزوه، فإنه لنا شيعة، تأتينا كتبه ورسله ونصيحته لنا سرا، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجرى عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويحسن إليهم. وافتعل كتابا [3] عن قيس بالطّلب بدم عثمان، والدخول معه فى ذلك، وقرأه على أهل الشام.
فبلغ ذلك عليا فأعظمه وأكبره، ودعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يربيك إلى
[1] فى النجوم الزاهرة: «وأما قولك: معك أعنة الخيل وأعداد الرجال» .
[2]
كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل وغيره. «إنك للوجد» والجد: الحظ.
[3]
انظر تاريخ الطبرى ج 3 ص 554 والنجوم الزاهرة ج 3 ص 101.
إلى ما لا يريبك [1] اعزل قيسا عن مصر. فقال: والله إنى لا أصدّق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله، فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك.
فبينما هم كذلك إذ جاء كتاب قيس يخبر بحال المعتزلين وكفّه عن قتالهم، فقال ابن جعفر: ما أخوفنى أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم، فكتب إليه يأمره بقتالهم، فأجابه: «أما بعد، فقد عجبت لأمرك! تأمرنى بقتال قوم كافّين عنك، مفرغيك لعدوّك ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوّك؛ فأطعنى يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإن الرأى تركهم، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين؛ ابعث محمد ابن أبى بكر [2] على مصر واعزل قيسا. فبعث محمدا إلى مصر- وقيل:
بعث الأشقر النّخعىّ فمات بالطريق فبعث محمدا- فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس:«ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيّره؟ أدخل أحد بينى وبينه؟» قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال، لا:
والله لا أقيم.
وخرج إلى المدينة وهو غضبان، فأخافه مروان بن الحكم فخرج من المدينة هو وسهيل بن حنيف إلى علىّ رضى الله عنه فشهدا معه صفّين، فبعث معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل كان أيسر عندى من قيس بن سعد فى رأيه ومكانه.
[1]
حديث رواه الترمذى والنسائى وأحمد بن حنبل عن الحسن بن على وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»
. [2] قال ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 139: «وكان ابن جعفر أخا محمد أبى بكر لأمه» .
ولما قدم قيس على علىّ وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسى أمورا عظاما من المكايد وعظم محلّ قيس عنده وأطاعه فى الأمر كله.
قال. وأما محمد بن أبى بكر فإنه لما قدم مصر قرأ كتاب علىّ رضى الله عنه إلى أهل مصر عليهم، ثم قام فقال:«الحمد لله الذى هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمى عنه الجاهلون، ألا إنّ أمير المؤمنين ولّانى أمركم، وعهد إلىّ ما سمعتم، وما توفيقى إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتى وأعمالى طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادى له، وإن رأيتم عاملا لى بغير الحقّ فارفعوه إلى وعاتبونى فيه، فإنى بذلك أسعد وأنتم جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته» . ثم نزل.
فلم يلبث إلا شهرا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس بن سعد، فقال لهم: إما أن تدخلوا فى طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنّا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير أمرنا إليه، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا وأخذوا حذرهم، وكانت وقعة صفّين وهم هائبون لمحمد، فلما رجع علىّ ومعاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا فيه، وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحارث بن جهمان [1] الجعفىّ إلى أهل خربتا فقاتلهم فقتلوه، فبعث إليهم رجلا من كلب يدعى ابن مضاهم فقتلوه. ثم كان من خبر محمد بن أبى بكر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
[1] كذا جاء فى النسخة (ك)، وفى (ن) :«جمهان» مثل ابن جرير وابن الأثير.