الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر استلحاق معاوية بن أبى سفيان زياد بن أبيه وهو ابن سميّة
وفى هذه السنة استلحق معاوية زياد بن أبيه، وقد ذكر عز الدين أبو الحسن على بن الأثير فى تاريخه الكامل [1] سبب ذلك وكيفيته، وابتدأ حال سميّة فقال: كانت سميّة أم زياد لدهقان زندورد [2] ، بكسكر فمرض الدهقان، فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفى، فعالجه، فبرأ، فوهبه سميّة، فولدت عند الحارث أبا بكرة واسمه نفيع، فلم يقرّبه، ثم ولدت نافعا فلم يقرّبه أيضا، فلما نزل أبو بكرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم حين حضر [3] الطائف، قال الحارث لنافع: أنت ولدى، وكان قد زوج سميّة من غلام له اسمه عبيد [4] ، وهو رومى، فولدت له زيادا.
قال: وكان أبو سفيان بن حرب سار [5] فى الجاهلية إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السّلولى- وأسلم أبو مريم [6] بعد ذلك، وصحب النبى صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان لأبى مريم: قد اشتهيت النساء فالتمس لى بغيّا، فقال هل لك فى سمية؟ فقال: هاتها على طول ثدييها وذفر بطنها. فأتاه بها، فوقع
[1] ج 3 ص 219- 221.
[2]
زندورد: بلد قرب واسط، وكسكر: كورة صارت قصبتها واسط.
[3]
كذا جاء فى النسخة (ك)، وجاء فى النسخة (ن) :«حصر»
…
هذا وقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نازلا بالطائف، فنادى مناديه:
«من خرج إلينا من عبيدهم فهو حر» فخرج إليه نافع ونفيع- يعنى أبا بكرة وأخاه- فأعتقهما، وانظر نهاية الأرب ج 17- 337، وانظر تسمية «أبى بكرة» فيما سبق من هذا الجزء.
[4]
انظر خزانة الأدب ج 2 ص 517.
[5]
كذا جاء فى النسخة (ك)، وجاء فى النسخة (ن) :«صار» .
[6]
أبو مريم السلولى: مالك بن ربيعة، وهو مشهور بكنيته.
عليها، فعلقت بزياد، ثم وضعته سنة إحدى [1] من الهجرة.
فلما كبر ونشأ استكتبه أبو موسى الأشعرى حين ولى البصرة.
ثم إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه استكفى زيادا أمرا، فقام فيه مقاما مرضيا، فلما عاد إليه حضر وعند عمر المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمعوا بمتلها، فقال عمرو بن العاص:
«لله در هذا الغلام. لو كان أبوه من قريش لساق العرب الناس بعصاه» .
فقال أبو سفيان وهو حاضر: والله إنى لأعرف أباه ومن وضعه فى رحم أمه. فقال له على بن أبى طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال:
أنا. قال: «مهلا يا أبا سفيان، اسكت، فإنك تعلم أن عمر لو سمع هذا القول منك لكان إليك سريعا» .
وروى أبو عمر ابن عبد البر [2] بسنده إلى ابن عبّاس: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعث زيادا فى إصلاح فساد وقع باليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها (وذكر كلام عمرو بن العاص ومقالة أبى سفيان وكلام علىّ رضى الله عنه بنحو ما تقدم) قال: فقال أبو سفيان:
أما والله لولا خوف شخص
…
يرانى يا علىّ من الأعنادى
لأظهر أمره صخر بن حرب
…
ولم يكن المقالة عن زياد
وقد طالت مجاملتى ثقيفا
…
وتركى فيهمو ثمر الفؤاد
[1] كذا جاء فى الأصل، يريد السنة الأولى من الهجرة، وهذه إحدى الروايات فى ميلاد زياد. وفى الاستيعاب وأسد الغابة: ولد عام الهجرة، وقيل: قبل الهجرة.
وقيل: يوم بدر، وفى الطبقات: ولد عام الفتح، وهو سنة ثمان من الهجرة.
[2]
فى الاستيعاب ج 1 ص 569.
نعود إلى ما حكاه ابن الأثير قال: فلما ولى علىّ رضى الله عنه الخلافة استعمل زيادا على فارس فضبطها وحمى قلاعها، واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، فكتب إلى زياد يتهدّده، ويعرض له بولادة أبى سفيان إياه، فلما قرأ زياد كتابه قام فى الناس فقال: «العجب [1] كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد [2] ، ورأس النفاق، يخوّفنى بقصده إيّاى وبينى وبينه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار.
أما والله لو أذن لى فى لقائه لوجدنى أحمر مخشيا [3] ضرّابا بالسيف» .
وبلغ ذلك عليا رضى الله عنه فكتب إليه: «إنى قد ولّيتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كان من أبى سفيان فلتة من أمانى الباطل وكذب النفس، لا توجب له ميراثا ولا تحل لك نسبا، وإن معاوية يأتى الإنسان من بين يديه ومن خلف، وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثم احذر، والسلام» ..
فلما قتل علىّ رضى الله عنه وكان من أمر زياد ومصالحة معاوية ما ذكرناه، وضع زياد مصقلة بن هبيرة الشيبانى، وضمن له عشرين ألف درهم؛ ليقول لمعاوية:«إن زيادا قد أكل فارس برا وبحرا، وصالحك على ألفى ألف درهم، والله ما أرى الذى يقال إلّا حقّا» فإذا قال لك يقال: وما يقال؟ فقل: إنه ابن أبى سفيان. ففعل مصقل ذلك.
[1] انظر ما سبق فى «ذكر قدوم زياد بن أبيه على معاوية بن أبى سفيان» .
[2]
آكلة الأكباد: أمه، أكلت كبد حمزة رضى الله عنه حين قتل يوم أحد، والمراد بأكلها أنها لاكنها، انظر نهاية الأرب ج 17 ص 100- 101.
[3]
يخشاه الناس.
ورأى معاوية أن يستصفى مودته باستلحاقه، فاتفقا على ذلك، وأحضر الناس وحضر من شهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السّلولى، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندى وطلب منى بغيّا، فقلت ليس عندى إلّا سميّة فقال: ايتنى بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها، فخلا معها، ثم خرجت من عنده وإن إسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا أبا مريم إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما. فاستلحقه معاوية.
وكان استلحاقه أول ما ردّت فيه أحكام الشريعة علانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالولد للفراش وللعاهر الحجر.
قال [1] : وقد اعتذر الناس عن معاوية فى استلحاقه إياه، فقالوا:
إن أنكحة الجاهلية كانت أنواعا، منها أن الجماعة يجامعون البغىّ فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن شاءت منهم، فلما جاء الإسلام حرم هذا النكاح، إلا أنه أقرّ نسب كلّ ولد إلى من كان ينسب إليه من أى نكاح كان، فتوهّم معاوية أن ذلك جائز له، ولم يفرق بين ما استلحق فى الجاهلية والإسلام.
قال أبو عمر ابن عبد البر [2] : ولما ادّعى معاوية زيادا دخل عليه بنو أمية، وفيهم عبد الرحمن بن الحكم، فقال: يا معاوية لو لم تجد إلا الزّنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة، فأقبل معاوية على مروان، وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق. فقال معاوية: «والله لولا حلمى وتجاوزى لعلمت أنه لا يطاق،
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221.
[2]
فى الاستيعاب ج 1 ص 570- 571.
ألم يبلغنى شعره فىّ وفى زياد؟» . ثم قال لمروان أسمعنيه، فقال:
ألا بلّغ [1] معاوية بن صخر
…
لقد ضاقت بما تأتى اليدان
أتغضب أن يقال: أبوك عفّ
…
وترضى أن يقال: أبوك زانى؟
فأشهد أن رحمك من زياد
…
كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زيادا
…
وصخر من سميّة غير دان
قال [2] : وهذه الأبيات تروى ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ [3] الحميرى الشاعر، ومن رواها له جعل أوّلها:
ألا بلّغ [4] معاوية بن صخر
…
مغلغلة من الرجل اليمانى
قال أبو عمر: وروى عمر بن شبّة وغيره أن ابن مفرّغ لما شفعت فيه اليمانية إلى معاوية أو ابنه يزيد، وكان قد لقى من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقى من النّكال مما يطول شرحه، فلما وصل إلى معاوية بكى وقال:«يا أمير المؤمنين ركب منّى ما لم يركب من مسلم قطّ، على غير حدث فى الإسلام ولا خلع يد من طاعة» . وكان عبيد الله ابن زياد قد أمر به فسقى دواء، ثم حمل على حمار وطيف به وهو يسلح فى ثيابه، فقال معاوية: ألست القائل؟:
ألا بلّغ معاوية بن صخر
…
وذكر الأبيات.
فقال ابن مفرّغ: «لا والذى عظّم حقّك ورفع قدرك يا أمير المؤمنين
[1] فى الاستيعاب: «أبلغ» .
[2]
أبو عمر ابن عبد البر.
[3]
سمى جده «مفرغا» لأنه راهن على أن يشرب عسا من لبن ففرغه.
[4]
فى الاستيعاب: «أبلغ» .
ما قلتها قط ولقد بلغنى أن عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها إلىّ» قال ألست القائل؟:
شهدتّ بأنّ أمّك لم تباشر
…
أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس
…
على وجل شديد وارتياع
أو لست القائل أيضا!:
إنّ زيّادا ونافعا وأبا
…
بكرة عندى من أعجب العجب
همو رجال ثلاثة خلقوا
…
فى رحم أنثى ما كلّهم لأب [1]
ذا قرشىّ كما يقول وذا
…
مولى وهذا بزعمه عربى
فى أشعار قلتها لزياد وبنيه تهجوهم! اغرب لا عفا الله عنك! فقد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زيادا لم يكن شىء مما كان، اذهب فاسكن أى أرض أحببت» . فاختار الموصل.
قال أبو عمر: وليزيد بن مفرّغ فى هجو زياد وبنيه- من أجل ما لقى من عبّاد بن زياد بخراسان- أشعار كثيرة منها:
أعبّاد ما للّؤم عنك محوّل
…
وما لك أمّ فى قريش ولا أب
وقل لعبيد الله مالك والد
…
بحقّ ولا يدرى امرء كيف تنسب
[1] جاء فى مروج الذهب ج 2 ص 57: «فى رحم أثنى مخالفى النسب» .
وقوله [1] فى زياد:
فكّر ففى ذاك إن فكّرت معتبر
…
هل نلت مكرمة إلّا بتأمير
عاشت سميّة ما عاشت وما علمت
…
أن ابنها من قريش فى الجماهير
قال [2] : وكان أبو بكرة أخا زياد لأمّه، فلما بلغه أن معاوية استحلقه وأنه رضى بذلك آلى يمينا ألّا يكلّمه أبدا، وقال:«هذا زنّى أمّه وانتفى من أبيه، لا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ، ويله! ما يصنع بأم حبيبة زوج النبى صلى الله عليه وسلم؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته، وإن رآها فيالها مصيبة، يهتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة عظيمة!» .
فلما حجّ زياد ودخل المدينة أرادوا الدخول على أم حبيبة، ثم ذكر قول أبى بكرة فانصرف عن ذلك. وقيل: إن أم حبيبة حجبته ولم تأذن له فى الدخول عليها، [قيل][3] وإنه حج ولم يزرها من أجل قول أبى بكرة، وقال: جزى الله أبا بكرة خيرا لم يدع النصيحة على كل حال.
قالوا [4] : وكتب زياد «إلى عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها:
[1] روى أن عبيد الله بن زياد قال: ما هجيت بشىء أشد على من قول ابن مفرغ، فكر ففى ذاك.... الخ البيتين.
[2]
أبو عمر ابن عبد البر فى الاستيعاب.
[3]
الزيادة من الاستيعاب.
[4]
ذكر هذا القول ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 221.