الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه، فاعتزلهم، وقاتلهم بنو تميم فحجز الناس بينهم.. ومضى ابن عباس إلى مكة المشرفة.
وقيل بل أقام بالبصرة إلى أيام الحسن- رضى الله عنه وأرضاه، وشهد صلح الحسن ومعاوية.
والأول أصح، والذى شهد الصلح عبيد الله بن عباس.
ذكر مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وشىء من سيرته
كان مقتله فى شهر رمضان سنة أربعين ليلة الجمعة. قيل: لسبع عشرة ليلة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة ليلة. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. والأول أصح.
وقاتله عبد الرحمن بن ملجم المرادىّ ثم التّجوبىّ [1] ، وأصله من حمير، ولم يختلفوا [2] فى أنه حليف لمراد، وعداده فيهم.
وكان سبب قتله أن عبد الرحمن هذا، والبرك بن عبد الله التّميمى الصريمى واسمه الحجاج، وعمرو بن بكر التّميمىّ السّعدىّ وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس، وعابوا ولاتهم، ثم ذكروا أهل النّهروان، وقالوا:«ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا نفوسنا، وقتلنا أئمة الضّلالة، وأرحنا منهم البلاد!» . فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليا. وقال البرك: أنا أكفيكم معاوية
[1] فى القاموس «تجوب: قبيلة من حمير» وانظر فى الاستيعاب ج 3 ص 56 سبب التسمية.
[2]
هذا من كلام ابن عبد البر فى الاستيعاب.
وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا على ذلك، وسمّوا سيوفهم واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كل منهم الجهة التى يريدها.
فأما البرك بن عبد الله فإنه توجه إلى معاوية، فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف فوقع فى أليته، وأخذ فقتل. وقيل: لم يقتله وإنما قطع يده ورجله. وبعث معاوية إلى الساعدىّ، وكان طبيبا، فقال له:«اختر إمّا أن أحمى حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد» . فقال: «أمّا النار فلا صبر لى عليها، وأما الولد ففى يزيد وعبد الله ما تقرّ به عينى. فسقاه شربة فبرئ ولم يولد له بعدها.
وأما عمرو بن بكر- فإنه جلس لعمرو بن العاص فى تلك الليلة، فما خرج لشكاية نالته فى بطنه، فأمر خارجة ابن حبيبة- وكان صاحب شرطته- أن يصلى بالناس، فخرج ليصلّى، فشدّ عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص فقتله. فأتى به إلى عمرو فقال: من هذا؟.
قالوا: عمرو. قال ومن قتلت؟ قالوا: خارجة. قال:
أما والله ما ظننته غيرك. فقال: أردتنى وأراد الله خارجة؛ وقتله عمرو.
هكذا نقل ابن الأثير فى تاريخه الكامل [1] فى هذه الواقعة فى القاتل والمقتول.
[1] ج 3 ص 198.
وقال أبو عمر بن عبد البر [1] : إن القاتل اسمه زادويه رجل من بنى العنبر بن عمرو بن تميم، قال وقيل: مولى لبنى العنبر. وفى المقتول إنه خارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد ابن عويج بن عدّى بن كعب القرشىّ العدوىّ، وأمه فاطمة بنت عمرو بن بجرة العدويّة. وقال فى ترجمته: كان أحد فرسان قريش، يقال: إنه كان يعدل بألف فارس، قال: وذكر بعض أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر ليمدّه بثلاثة آلاف فارس، فأمدّه بالزّبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وخارجة بن حذافة هذا، وقال: إنه لما قتل وأدخل القاتل على عمرو فقال: من هذا الذى تدخلونى عليه؟ فقالوا: عمرو بن العاص، فقال: ومن قتلته؟
قيل: خارجة، فقال: أردت عمرا وأراد الله خارجة، وقيل: إن ذلك من كلام عمرو كما تقدم. وفى ذلك يقول عبد الجيد بن عبدون:
وليتها إذ فدت عمرا بخارجة
…
فدت عليا بمن شاءت من البشر
وأمّا عبد الرحمن بن ملجم- لعنه الله تعالى آمين- فإنه أتى الكوفة واشترى سيفا بألف، وسقاه السم حتى لقطه، وكان فى خلال ذلك يأتى عليا رضى الله عنه فيسأله فيعطيه، ويستحمله فيحمله، إلى أن وقعت عينه على قطام بنت علقمة، وهى تيم الرّباب، وقيل هى منى بنى عجل بن لجيم، وكانت ترى رأى الخوارج، وكان علىّ قد قتل أباها وإخوتها بالنّهروان، وكانت امرأة رائعة جميلة، فأعجبته وأخذت بمجامع قلبه، فخطبها، فقالت: لقد آليت أن لا أتزوج إلّا على مهر لا أريد سواه. فقال: وما هو؟ فقالت: ثلاثة آلاف
[1] فى الاستيعاب ج 1 ص 420- 421.
درهم وعبد وقينة وقتل على بن أبى طالب. فقال: «والله لقد قصدت لقتل على بن أبى طالب والفتك به، وما أقدمنى إلى هذا المصر غير ذلك، ولكنى لما رأيتك آثرت تزويجك» . فقالت: ليس إلّا الذى قلت لك. فقال لها: «وما يعنيك أو يعنينى [1] منك قتل علىّ؟ وأنا أعلم أنى إن قتلته لم أفت» . فقالت: «إن قتلته ونجوت فهو الذى أردت، تبلغ شفاء نفسى ويهنيك العيش معى، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها» . فقال لها: لك ما اشترطت ففى ذلك يقول ابن ملجم:
ثلاثة آلاف وعبد وقيّنة
…
وضرب علىّ بالحسام المصمّم
فلا مهر أغلى من علىّ وإن غلا
…
ولا فتك إلّا دون فتك ابن ملجم
[وقد رويت هذه لغيره، وأولها:][2]
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة
…
كمهر قطام من فصيح وأعجم
وقالت قطام له: إنى سألتمس لك من يشدّ ظهرك. فبعثت إلى ابن عم لها يدعى وردان بن مجالد، فأجابها.
ولقى ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعى فقال له: يا شبيب هل لك فى شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدنى على قتل علىّ بن أبى طالب، فقال:«ثكلتك أمّك! لقد جئت شيئا إدّا، كيف تقدر على ذلك؟» قال: «إنه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردا دون من يحرسه، فنكمن له فى المسجد،
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب ج 3 ص 58 والرياض النضر ج 2 ص 246 «وما يغنينى وماذا يغنينى منك» بالغين المعجمة فى الكلمتين.
[2]
ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، ولم تثبت فى النسخة (ك) . وقد روى ابن جرير الأبيات الثلاثة لابن مياس المرادى.
فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فإن نجونا نجونا، وإن قتلنا سعدنا بالذكر فى الدنيا وبالجنة فى الآخرة» . فقال:«ويلك! إن عليا ذو سابقة فى الإسلام وفضل، والله ما تنشرح نفسى لقتله» .
قال: «ويلك! إنه حكّم الرجال فى دين الله، وقتل إخواننا الصالحين، فنقتله ببعض من قتل، فلا تشكّن فى دينك» . فأجابه، وأقبلا حتى دخلا على قطام، وهى معتكفة فى المسجد الأعظم فى قبّة ضربتها لنفسها، فدعت لهم.
وأخذوا أسيافهم وجلسوا قبالة السّدّة التى يخرج منها علىّ رضى الله عنه، فخرج إلى صلاة الصبح يوم الجمعة، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، ووقع سيفه بعضادة الباب، وضربه عبد الرحمن بن ملجم على رأسه، وقال: الحكم لله يا علىّ لا لك ولا لأصحابك. فقال علىّ رضى الله عنه: فزت ورب الكعبة! لا يفوتنكم الكلب!.
وهرب شبيب خارجا من باب كندة، فلحقه رجل من حضرموت يقال له: عويمر، فصرعه، وأخذ سيفه، وجلس على صدره فصاح الناس: عليكم بصاحب السيف، فخاف عويمر على نفسه فتركه ونجا، فهرب شبيب فى غمار الناس.
وهرب وردان إلى منزله، فأتاه رجل من أهله، فأخبره وردان بما كان، فانصرف وجاء بسيفه وقتل وردان.
وأما ابن ملجم فإنه لما ضرب عليّا حمل على الناس، فأفرجوا له، فتلقّاه المغيرة بن الحكم بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب، فرمى عليه قطيفة واحتمله وصرعه وقعد على صدره.
واختلفوا: هل ضربه فى الصلاة؟ أو قبل الدخول فيها؟ وهل استخلف من أتمّ بهم الصلاة أو هو أتمها؟ قال أبو عمر بن عبد [1] البر: والأكثر أنه استخلف جعدة [2] بن هبيرة، فصلّى بهم تلك الصلاة.
قال: [3] ثم قال على رضى الله عنه لأصحابه حين أخذوا ابن ملجم:
احبسوه فإن متّ فاقتلوه ولا تمثلوا به، وإن لم أمت فالأمر إلى فى العفو أو القصاص.
وقيل [4] : إنه قال لهم: «النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه وإن بقيت رأيت فيه رأيى، يا بنى عبد المطلب لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ إلّا قاتلى» .
وأتت [5] أم كلثوم ابنة على رضى الله عنهما إلى ابن ملجم وهو مكتوف فقالت: «أى عدو الله، إنه لا بأس على أبى، والله مخزيك» .
قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد شريته بألف وسممّته بألف، ولو كانت الضربة بأهل مصر ما بقى منهم أحد.
قال: ثم أوصى علىّ رضى الله عنه أولاده بتقوى الله، ولم ينطق إلا بقول «لا إله إلا الله» حتى مات رضى الله عنه وأرضاه.
روى [6]
عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلىّ
[1] فى الاستيعاب ج 3 ص 59.
[2]
أم جعدة هى أم هانىء أخت على بن أبى طالب.
[3]
أبو عمر أبن عبد البر.
[4]
انظر الكامل لابن الأثير ج 3 ص 196.
[5]
انظر تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 112 والكامل.
[6]
انظر لهذه الرواية وما بعدها الاستيعاب ج 3 ص 60- 61.
رضى الله عنه: من أشقى الأولين؟: قال: الذى عقر الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال؟ لا أدرى. قال: «الذى يضربك على هذا»
يعنى يافوخه، «فيخضب هذه» يعنى لحيته.
وعن ثعلبة الجمانى قال: سمعت على بن أبى طالب رضى الله عنه يقول: والذى فلق الحبّة وبرأ النّسمة لتخضبن هذه (يعنى لحيته) من دم هذا (يعنى رأسه)
وروى النسائى من حديث عمار بن ياسر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: أشقى الناس الذى عقر الناقة والذى يضربك على هذا
- ووضع يده على رأسه- حتى تخضب هذه، (يعنى لحيته) وعن ابن سيرين عن عبيدة قال: كان على بن أبى طالب رضى الله عنه إذا رأى ابن ملجم قال [1] :
أريد حياته [2] ويريد قتلى
…
عذيرك [3] من خليلك من مراد
[1] قال على رضى الله عنه هذا البيت متملا به، وهو من قصيدة لعمرو بن، معديكرب الزبيدى قالها لابن أخته قيس بن مكشوح المرادى، وكان بينهما تباعد وتنافس فكان مما قاله قيس:
فلولا قيتنى لا قيت قرنا
…
وودعت الأحبة بالسلام
ومما قاله عمرو بن معد يكرب:
نمنانى ليلقانى قييس
…
وددت وأينما منى ودادى
«قييس» تصغير «قيس» . ويروى «أبى» .
أريد حياته ويريد قتلى
…
عذيرك من خليلك من مراد
ولو لاقيتنى ومعى سلاحى
…
تكشف شحم قلبك عن سواد
وقوله (أريد حياته ويريد قتلى) مما كثر التمثل به وإدخاله فى الشعر، فقد تمثل به عبيد الله بن زياد كما سيأتى وتمثل به غيرهما.
[2]
هكذا جاء فى بعض الروايات، وجاء فى بعض الروايات «حباءه» والحباء: العطية، قال البغدادى فى خزانة الأدب ج 4 ص 281: «يقول: أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلى وتمنيه موتى فمن يعذرنى منه؟
ويروى: أريد حياته» .
[3]
فى خزانة الأدب: البيت من شواهد سيبويه: قال الأعلم: الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل بدلا منه، والمعنى هات عذرك، والتقدير: اعذرنى منه عذرا، واختلف فى العذير، فمنهم من جعله مصدرا بمعنى العذر، وهو مذهب سيبويه، ومنهم من جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم» . وانظر سيبوية ومعه الأعلم فى الكتاب ج 1 ص 139.
وكان علىّ رضى الله عنه كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها- أو ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه من دم هذا- ويشير إلى لحيته ورأسه- خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير؟.
وروى عمر بن شبّة عن أبى عاصم النّبيل [1] وموسى بن إسماعيل عن سكين بن عبد العزيز العبدى، أنه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن [بن ملجم][2] يستحمل عليا فحمله، ثم قال:
أريد حياته ويريد قتلى
…
عذيرك من خليلك من مراد
أما إن هذا قاتلى. قيل: فما يمنعك منه؟ قال: إنه لم يقتلنى بعد.
وأتى علىّ رضى الله عنه فقيل له: ابن ملجم يسمّ سيفه، ويقول:
إنه سيفتك به فتكة يتحدّث بها العرب. فبعث إليه فقال له: لم تسم سيفك؟ قال لعدوّى وعدوّك. فخلّى عنه.
وفى كلام على رضى الله عنه يقول بكر بن حماد [3] :
وهزّ علىّ بالعراقين لحية
…
مصيبتها حلت على كلّ مسلم
فقال: سيأتيها من الله حادث
…
ويخضبها أشقى البريّة بالدّم
فباكره بالسيف شلّت يمينه
…
لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم
فيا ضربة من خاسر ضلّ سعيه
…
تبوّأ منها مقعدا فى جهنّم
[1] أبو عاصم النبيل: الضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيبانى.
[2]
الزيادة من الاستيعاب ج 3 ص 60 حيث نقل المؤلف.
[3]
فى الاستيعاب ج 3 ص 66 «فيها» .
ففاز أمير المؤمنين بحظّه
…
وإن طرقت فيه الخطوب بمعظم
ألا إنما الدنيا بلاء وفتنة
…
حلاوتها شيبت [1] بصاب وعلقم
وحكى عن عثمان بن المغيرة قال: لما دخل رمضان، كان على رضى الله عنه يتعشى ليلة عند الحسن رضى الله عنه، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن جعفر رضى الله عنهم، لا يزيد على ثلاث لقم، ثم يقول رضى الله عنه: يأتينى أمر الله وأنا خميص [2] ، وإنما هى ليلة أو ليلتان، فلم يمض قليل حتى قتل.
وقال الحسن [3] ابن كثير عن أبيه قال: خرج علىّ رضى الله عنه [4] من الفجر، فأقبل الإوزّ يصحن فى وجهه، فطردوهن عنه، فقال: ذروهنّ فإنّهن نوائح، فضربه ابن ملجم فى ليلته.
وقال الحسن بن على رضى الله عنهما يوم قتل على: خرجت البارحة وأبى يصلّى فى مسجد داره، فقال لى: «يا بنى إنى بتّ أوقظ أهلى لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر [5] فملكتنى عيناى فنمت، فسنح [6] لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللّدد [7]، فقال لى: ادع عليهم، فقلت: اللهم أبدلنى بهم من هو خير منهم وأبدلهم بى من هو
[1] شيبت: مزجت.
[2]
خميص: جائع.
[3]
كذا جاء فى النسخة (ن)، وفى الرياض النضرة:«الحسين بن كثير» ، وفى النسخة (ك) :«الحسن بن كرب» .
[4]
فى الرياض النضرة ج 2 ص 245 حيث ذكر هذا الحديث: «إلى الفجر» .
[5]
ذكر ابن عبد البر فى آخر روايته لهذا الحديث فى الاستيعاب ج 3 ص 62 «وذلك فى صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان: صبيحة بدر» .
[6]
سنح: عرض.
[7]
جاء فى هامش النسخة (ك) : «الأود: العوج، واللدد: الخصومة» .
شر منى» فجاء ابن النّبّاح [1] فآذنه بالصلاة فخرج، وخرجت خلفه، فضربه ابن ملجم فقتله.
وروى أبو عمر ابن عبد البر بسنده إلى عبد الله بن مالك قال:
جمع الأطبّاء لعلىّ رضى الله عنه يوم جرح، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمر السّكّونى، وكان يقال له: أثير بن عمريا، وكان صاحب كسرى يتطبّب له، وهو الذى ينسب إليه صحراء أثير [2] ، فأخذ أثير رئة [شاة][3] حارّة [4] ، فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله فى فى جراحة على، ثم نفخ العرق فاستخرجه فإذا عليه بياض دماغ.
وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنك ميّت.
وفى ضربة ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجى يمدح ابن ملجم:
لله درّ المرادى الذى سفكت
…
كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا
أمسى عشيّة غشّاه بضربته
…
ممّا جناه من الآثام عريانا
يا ضربة من تقىّ ما أراد بها
…
إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره حينا فأحسبه
…
أوفى البرية عند الله ميزانا
[1] فى الاستيعاب والرياض النضرة: «ثم انتبه، وجاءه مؤذنه بالصلاة» ، واسم مؤذنه: عامر بن النباح.
[2]
بالكوفة.
[3]
الزيادة من الاستيعاب حيث نقل المؤلف، ومن معجم البلدان لياقوت.
[4]
أى: حديثة الذبح.
فقال بكر بن حماد التّاهرتى [1] معارضا له:
قل لابن ملجم والأقدار غالبة
…
هدمت ويحك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشى على قدم
…
وأول الناس إسلاما وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما
…
سنّ الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبىّ ومولاه وناصره
…
أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له
…
مكان هارون من موسى بن عمرانا
وكان فى الحرب سيفا صار ما ذكرا
…
ليثا إذا لقى الأقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر
…
فقلت: سبحان ربّ الناس سبحانا
إنى لأحسبه ما كان من بشر
…
يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدّت قبائلها
…
وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التى جلبت
…
على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها
…
قبل المنيّة أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمّله
…
ولا سقى قبر عمران بن حطّانا
لقوله فى شقى ظل مجترما
…
ونال ما ناله ظلما وعدوانا:
«يا ضربة من تقىّ ما أراد بها
…
إلّا ليبلغ من ذى العرش رضوانا»
بل ضربة من غوى أوردته لظى
…
فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته
…
إلّا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
[1] التاهرتى: منسوب إلى «تاهرت» بفتح الهاء وسكون الراء، مدينة ببلاد المغرب، وكان أبو عبد الرحمن بكر بن حماد من حفاظ الحديث بهذه المدينة، وهو القائل:
ما أخشن البرد وريعانه
…
وأطرف الشمس بتاهرت!
تبدو من الغيم إذا ما بدت
…
كأنما تنشر من تخت
فنحن فى بحر بلا لجة
…
تجرى بنا الريح على سمت
وأبياته النونية التى ذكرها المؤلف تجدها فى الاستيعاب ج 3 ص 62- 63 ومروج الذهب ج 2 ص 43 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 199.
وقالت أم الهيثم بنت العريان النخعية، ومنهم من يرويها لأبى الأسود الدؤلى [1] :
ألا يا عين ويحك أسعدينا
…
ألا تبكى أمير المؤمنينا
تبكّى أم كلثوم عليه
…
بعبرتها فقد رأت اليقينا
ألا قل للخوارج حيث كانوا
…
فلا قرّت عيون الشامتينا
أفى شهر الصيام فجعتمونا
…
بخير الناس ضرّا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا
…
وذلّلها ومن ركب السّفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها
…
ومن قرأ المثانى والمبينا [2]
وكلّ مناقب الخيرات فيه
…
وحبّ رسول ربّ العالمينا
لقد علمت قريش حيث كانت
…
بأنك خيرهم حسبا ودينا
إذا استقبلت وجه أبى تراب [3]
…
رأيت البدر فوق الناظرينا
وكنّا قبل مقتله [4] بخير
…
ترى مولى رسول الله فينا
يقيم الحقّ لا يرتاب فيه
…
ويعدل فى العدا والأقربينا
[1] عبارة الاستيعاب ج 3 ص 66 حيث نقل المؤلف: «وقال أبو الأسود الدؤلى، وأكثرهم يرويها لأم الهيثم بنت العريان النخعية» ، والشعر منسوب إلى أبى الأسود فى ديوانه ص 174- 175 وفى إنباه الرواة ج 1 ص 19 والأغانى ج 12 ص 329 بعد أن ذكر خطبة أبى الأسود إثر مقتل على وأن معاوية كتب إليه ودس إليه رسولا يعده ويمنيه فقال هذه الأبيات، ونسبها أبو الفرج الأصبهانى نفسه فى كتابه (مقاتل الطالبيين) ص 43 إلى أم الهيثم بنت الأسود النخعية. ومما ينظر إليه ذكر الهيثم بن الأسود بن العريان فى البيان والتبيين، وهو نخعى، قال صاحب الإصابة ج 3 ص 621 يكنى «أبا العريان» .
[2]
المبين: القرآن، وفيه إشارة إلى الآية 10 من سورة الحجر.
[3]
فى الاستيعاب «أبى حسين» .
[4]
كذا جاء فى النسخة (ن) والاستيعاب، وفى النسخة (ك) :«موتته» .
وليس بكاتم علما لديه
…
ولم يخلق من المتجبّرينا
كأنّ الناس إذ فقدوا عليا
…
نعام حار فى بلد سنينا
فلا تشمت معاوية بن صخر
…
فإنّ بقية الخلفاء فينا
قال: ولما مات علىّ رضى الله عنه غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفّن فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلّى عليه ابنه الحسن، وكبّر سبع [1] تكبيرات.
قال: ولمّا قبض رضى الله عنه بعث الحسن رضى الله عنه إلى ابن ملجم فأحضره، فقال للحسن:«هل لك فى خصلة؟ إنى والله أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلّا وفيت به، وإنى عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيت بينى وبينه، ولك عهد الله على أنى إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتّى أضع يدى فى يدك» . فقال له الحسن:
لا والله. ثم قدّمه فقتله، فأخذه الناس فأدرجوه فى بوارى [2] وحرّقوه بالنار.
واختلف فى موضع قبر علىّ رضى الله عنه، فقيل: دفن فى قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: فى رحبة الكوفة، وقيل: دفن بنجف
[1] كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير ح 3 ص 97، وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 114:«تسع تكبيرات» ، وجاء فى الرياض النضرة ج 2 ص 247 «أربع تكبيرات» .
[2]
البوارى: جمع البورى وهو الحصير المنسوج من القصب.
الحيرة فى موضع بطريق الحيرة، وقيل: عند مسجد الجماعة [1]، وقال الواقدى: دفن ليلا وأخفى قبره.
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلّا ثلاثة أشهر، وقيل: أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، وقيل: وثلاثة أيام، وقيل: وأربعة عشر يوما.
وكان عمره ثلاثا وستين سنة، وقيل: خمسا وستين، وقيل:
تسعا وخمسين، والأول أصح.
وأما سيرته رضى الله عنه فى خلافته فقد تقدّم من فضائله ما قدّمناه فى صدر هذا الفصل.
وكان من سيرته رضى الله عنه أنه يسير [2] فى الفىء بسيرة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه فى القسم، وإذا ورد عليه مال لم يبق منه شيئا إلا قسمه، ولا يترك فى بيت المال إلا ما يعجز عن قسمته فى يومه ذلك، ويقول: يا دنيا غرّى غيرى، ولم يكن يستأثر من الفىء بشىء، ولا يخصّ به حميما ولا قريبا.
وروى أبو عمر [3] بسنده إلى مجمّع التميمى [4] أن عليا رضى الله عنه قسم ما فى بيت المال بين المسلمين، ثم أمر به فكنس، ثم صلّى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة [5] .
[1] جاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 117: «ودفن عند مسجد الجماعة فى قصر الإمارة» .
[2]
انظر الاستيعاب لأبى عمر بن عبد البر ج 3 ص 47.
[3]
فى الاستيعاب ح 3 ص 49 وكذلك ما بعده.
[4]
كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الاستيعاب:«التيمى» .
[5]
وانظر الرياض النضرة ج 2 ص 229.
وبسنده إلى سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علىّ المال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع، ووجد فيه رغيفا فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم:
أيّهم يعطى أولا.
وعن معاذ [1] بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت على بن أبى طالب يقول: ما أصبت فيكم [2] إلا هذه القارورة أهداها إلىّ الدهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرّق كلّ ما فيه، ثم جعل يقول:
أفلح من كانت له قوصرّه [3]
…
يأكل منها كل يوم تمره [4]
وعن عنترة الشيبانى قال: كان على رضى الله عنه يأخذ الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الإبر والمسالّ والخيوط والحبال، ثم يقسمه بين الناس، ولا يدع فى بيت المال مالا يبيت فيه حتى يقسمه، إلا أن يغلبه شغل، فيصبح إليه وهو يقول. يا دنيا لا تغرّينى وغرّى غيرى.
وكان [5] رضى الله عنه لا يخصص بالولايات إلا أهل الديانات والأمانات، وإذا بلغه عن أحدهم خيانة كتب إليه: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
[6]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
[7]
[1] رواه أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب ج 3 ص 49.
[2]
فى الاستيعاب: «من فيئكم» .
[3]
قوصرة بشد الراء وتخفف: وعاء للتمر، وانظر اللسان.
[4]
ويروى: مره.
[5]
انظر الاستيعاب ج 3 ص 47.
[6]
من الآية فى 57 سورة يونس.
[7]
من الآية 152 فى سورة الأنعام.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
[1]
إذا أتاك كتابى هذا فاحتفظ بما فى يديك من عملنا حتى نبعث إليك من يتسلمه منك.
ثم يرفع طرفه إلى السماء فيقول: اللهم إنك تعلم أنى لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك.
ومواعظه رضى الله عنه ووصاياه لعماله إذ كان يخرجهم إلى أعماله [2] كثيرة مشهورة، وقد قدّمنا منها فى الباب الرابع، من القسم الخامس، من الفن الثانى، من كتابنا هذا، ما تقف عليه هناك، وهو فى السفر السادس من هذه النسخة [3] .
قال أبو عمر بن عبد البر [4] : قد ثبت عن الحسن بن علىّ رضى الله عنهما من وجوه أنه قال: لم يترك أبى إلا ثمانمائة درهم أو سبعمائة درهم فضلت من عطائه، كان يعدّها لخادم يشتريها لأهله وأمّا تقشفه فى لباسه ومطعمه، فكان من ذلك على الغاية القصوى.
روى [5] عن عبد الله بن أبى الهذيل قال: رأيت عليا رضى الله عنه خرج وعليه قميص غليظ دارس، إذا مدّ كمّه بلغ إلى الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد. وعن الحسن بن جرموز عن أبيه قال:
رأيت على بن أبى طالب رضى الله عنه يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريّتان، مؤتزرا بالواحدة مرتديا بالأخرى، وإزاره إلى نصف الساق، وهو يطوف فى الأسواق، ومعه درّة يأمرهم بتقوى الله وصدق
[1] من الآيتين 85، 86 فى سورة هود.
[2]
كذا جاء فى النسخة (ن) وسقط من النسخة (ك) .
[3]
انظر ج 6 ص 19- 32 من «نهاية الأرب» المطبوع.
[4]
فى الاستيعاب ج 3 ص 48.
[5]
هذا وما بعده من الاستيعاب.