الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمسك، فميث [1] فى جفنة عظيمة، ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط واستعمل النّورة، ثمّ خرج فركب دابّته، ودعا بمصحف فوضعه أمامه، ورفع يديه فقال:«اللهمّ أنت ثقفى فى كلّ كرب، ورجائى فى كلّ شدّة، وأنت لى فى كل أمر نزل بى ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّى إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولىّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة!» .
وأقبلوا نحو الحسين، فنظروا إلى النار تضطرم فى الحطب والقصب، فقال شمر بن ذى الجوشن: يا حسين استعجلت النار فى الدنيا قبل يوم القيامة. فقال له الحسين: يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا!.
ثم ركب الحسين راحلته، وحمل ابنه عليّا على فرسه «لاحق» .
ذكر ما تكلم به الحسين رضى الله عنه قبل إنشاب الحرب وما وعظ به الناس وما أجابوه وما تكلم به أصحابه وما أجيبوا به وخبر مقتله
قال: ولما ركب الحسين راحلته نادى بأعلى صوته نداء يسمع جل الناس: أيها الناس، اسمعوا قولى، ولا تعجلونى حتّى أعظكم بما يحقّ لكم، وحتّى أعتذر لكم من مقدمى عليكم، فإن قبلتم عذرى وصدقتم قولى وأعطيتمونى النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن
[1] مائه: أذابه.
لكم علىّ سبيل، وإن لم تقبلوا منى العذر ولم تعطوا النّصف من أنفسكم فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [1] ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ
[2]
، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [3] .
ثم [4] حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكة الله وأنبيائه [5]، ثم قال: أما بعد، فانسبونى وانظروا من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم، وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلى وانتهاك حرمتى؟؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبى؟ أو ليس جعفر الطيّار فى الجنة بجناحين بعمّى؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى ولأخى: «هذان سيّدا شباب أهل الجنة» ؟
فإن صدقتمونى بما أقول، وهو الحق، وما تعمّدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذبتمونى فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصارى
[1] مستورا، بل أظهروه وجاهرونى.
[2]
من الآية 71 من سورة يونس.
[3]
الآية 196 من سورة الأعراف.
[4]
قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص- 322 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص- 287:
إن أخوات الحسين لما سمعن كلامه السابق بكين وصحن: فأرسل إليهن أخاه العباس وابنه عليا ليسكتاهن، وقال: لعمرى ليكثرن بكاؤهن: ثم حمد الله.... الخ.
[5]
روى الطبرى عن الضحاك أنه ذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره، وأقسم إنه ما سمع متكلما أبلغ فى منطق منه.
أو أبا سعيد الخدرىّ أو سهل بن سعد الساعدى أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لى ولأخى، أما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى؟!.
فقال له شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدرى ما يقول.
فقال له حبيب بن مظهّر: «والله إنى لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وإنى أشهد أنك صادق وأنك لا تدرى ما تقول،، قد طبع الله على قلبك!» .
ثم قال الحسين: فإن كنتم فى شك من هذا القول أفتشكّون أنى ابن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم! أخبرونى أتطلبونى بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟!.
قالوا: لم نفعل قال: «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم!»
[1] طمت: بتخفيف الميم وتشديدها، يقال «طما الماء» إذا ارتفع، «وطما البحر» إذا امتلأ، ويقال:«طم الماء» إذا غمر: و «طم الشىء» إذا كثر، ومنه «طم الأمر» إذا عظم وتفاقم.. والجمام: ما علا رأس المكيال فوق طفافة، ويأتى «الجمام» جمعا ل «الجم» وهو معظم الماء والكثير من الشىء، ول «الجمة» وهى مجتمع ماء البئر ومعظم الشىء.
ثم قال: أيّها الناس إذ كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم إلى مأمنى من الأرض.
فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بنى [1] عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحبّ ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال له الحسين «أنت أخو أخيك [2] ، أتريد أن يطلبك بنوها هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد!! عباد الله، إنّى عذت بربّى وربّكم أن ترجمون [3] إنى عذت بربّى وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب [4] ! ثم أناخ راحلته، ونزل عنها، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها.
وأقبلوا يزحفون نحوه.
فخرج زهير بن القين على فرس له شاكى السلاح، وقال:
«يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إن حقّا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فأنتم للنصيحة أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمّة وأنتم أمّة، إن الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرية محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون،
[1] كذا جاء عند الطبرى، وهو المناسب لما بعده، وجاء فى الكامل:«ابن عمك، يعنى ابن زياد» .
[2]
يشير الى ما صنعه أخوه محمد بن الأشعث إذا قال لمسلم بن عقيل. «لك الأمان، إن القوم بنو عمك: وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك» ثم أقبل بمسلم إلى قصر عبيد الله بن زياد ولم يهتم عبيد الله بهذا الأمان، وقتل مسلما، كما مر.
[3]
من الآية 20 من سورة الدخان.
[4]
من الآية 27 من سورة غافر.
إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا نذكرون منهما إلّا سوءا، يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم، أمثال حجر بن عدىّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه!» قال: فسبّوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا:
والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما.
فرماه شمر بسهم وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك [1]، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير:«يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزى يوم القيامة والعذاب الأليم!» فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة. قال: «أفبالموت تخوّفنى؟ فو الله للموت أحبّ إلىّ من الخلد معكم!» ثم رفع صوته وقال: «عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافى وأشباهه،
[1] النأمة: النغمة والصوت، يقال «أسكت الله نأمته» اى: أماته.
فو الله لا تنال شفاعة محمد قوما هراقوا دماء ذرّيّته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!» فأتاه رجل من قبل الحسين فقال له: «إن أبا عبد الله يقول لك:
أقبل، فلعمرى لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ فى الدعاء [1] لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع الصلح والإبلاغ!» .
قال: ولمّا زحف عمر بن سعد إلى الحسين أتاه الحرّ بن يزيد فقال له: «أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟!» قال: «إى والله، قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدى!» قال:
أفما لكم فى واحدة من الخصال التى عرض عليكم رضى؟ قال عمر: «أما والله لو كان الأمر لى لفعلت! ولكنّ أميرك قد أبى ذلك» .
فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلا قليلا، وأخذته رعدة، فقال له رجل من قومه يقال له «المهاجر بن أوس» . [ما تريد يا ابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت، وأخذه مثل العرواء [2]، فقال له:] [3]«يا ابن يزيد، إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك فى موقف قطّ مثل شىء أراه الآن! ولو قيل لى: من أشجع أهل الكوفة رجلا؟ ما عدوتك! فما هذا الذى أرى منك؟» فقال له: «إنى- والله- أخيّر نفسى بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطّعت وحرّقت!» .
[1] يشير إلى قول الله تعالى: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ:
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ، وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا
…
انظر الآية 28 وما بعدها فى سورة غافر.
[2]
العرواء: مس الحمى.
[3]
الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 325.
ثمّ ضرب فرسه، فلحق بالحسين، فقال له:«جعلنى الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذى حبستك عن الرجوع، وسايرتك فى الطريق، وجعجعت بك فى هذا المكان، وو الله الذى لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبدا ولا يبلغون منك هذه المنزلة! فقلت فى نفسى: لا أبالى أن أطيع القوم فى بعض أمرهم ولا يرون أنى خرجت من طاعتهم، وأمّاهم فسيقبلون من الحسين بعض هذه الخصال التى يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك! وإنّى قد جئتك تائبا ممّا كان منى إلى ربّى مواسيا لك بنفسى حتّى أموت بين يديك! أفترى ذلك لى توبة؟» قال: نعم يتوب الله عليك ويغفر لك.
قال: فتقدم الحرّ، ثم قال:«أيّها الأمير [1] ، ألا تقبلون من الحسين خصلة من هذه الخصال التى عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟» فقال له عمر: «قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت!» فقال: «يا أهل الكوفة، لأمّكم الهبل [2] ! دعوتموه حتّى إذا أتاكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه [3] وأحطتم به من كل ناحية، فمنعتموه التوجّه فى بلاد الله العريضة، حتّى يأمن ويأمن أهل بيته، فأصبح فى أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 325 والكامل ج 3 ص 288 «أيها القوم» وهو أولى لمناسبة ما بعده.
[2]
الهبل: الثكل.
[3]
الكظم: مخرج النفس، ويقال «أخذ بكظمه» إذا أصابه بالكرب والغم.
نفعا ولا يدفع عنها ضرا! ومنعتموه ومن معه من ماء الفرات الجارى الذى يشربه اليهودىّ والنصرانىّ والمجوسىّ، وتمرّغ فيه خنازير السّواد وكلابه، وهاهم قد صرعهم العطش! بئس ما خلفتم محمدا فى ذرّيّته! لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا فى ساعتكم هذه!» فرموه بالنّبل، فرجع حتّى وقف أمام الحسين.
وزحف عمر بن سعد، ثم نادى:«يا ذويد [1] ، أدن رايتك» ثم رمى بسهم وقال: اشهدوا أنى أوّل من رمى بسهم
…
ثم ارتمى الناس.
وخرج يسار مولى زياد بن أبيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ فخرج إليهما عبد الله بن عمير الكلبى، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا له: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظهّر أو برير بن حضير. وكان يسار أمام سالم، فقال له الكلبى:«يا ابن الزانية، أو بك رغبة عن مبارزة أحد من الناس؟ وهل يخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟!» ثم حمل عليه فضربه بسيفه حتّى برد [2] ، فإنه لمشتغل به يضربه إذ شدّ عليه سالم فلم يأبه له، حتّى غشيه فبدره الضربة، فاتّقاه الكلبى بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى، ثم مال عليه الكلبىّ فضربه حتّى قتله.
وكان الكلبىّ هذا قد رأى الناس من أهل الكوفة بالنّخيلة وهم
[1] أنظر ما سبق فى هذا الاسم.
[2]
برد، مات.
يعرضون ليسرّحوا إلى الحسين، فقال:«والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا، وإنى لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إيّاى فى جهاد المشركين!» فدخل على امرأته أمّ وهب بنت عبد [1] ، فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد، فصوّبت رأيه وقالت: أخرجنى معك! فخرج بها ليلا حتّى أتى الحسين فأقام معه، فلمّا قتل العبدين أقبل يرتجز ويقول:
إن تنكرونى فأنا ابن كلب
…
حسبى ببيتى فى عليم حسبى
إنّى امرؤ ذو مرّة وعصب
…
ولست بالخّوّار عند النّكب
إنّى زعيم لك أمّ وهب
…
بالطعن فيهم مقدما والضّرب
ضرب غلام مؤمن بالرّبّ
فأخذت امرأته أمّ وهب عمودا ثمّ أقبلت نحوه تقول له: «فداك أبى وأمّى! قاتل دون الطيّبين ذرّيّة محمد صلى الله عليه وسلم!» فأقبل إليها يردّها نحو النساء، وأخذت تجاذب ثوبه وقالت: لن أدعك دون أن أموت معك! فناداها الحسين فقال: «جزيتم من أهل بيت خيرا! ارجعى رحمك الله إلى النساء فاجلسى معهنّ، فإنه ليس على النساء قتال.» فانصرفت إليهن.
وحمل عمرو بن الحجّاج، وهو فى الميمنة، فلمّا دنا من الحسين
[1] من قبيلة النمر بن قاسط.
جثوا له على الرّكب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنّبل، فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين.
وجاء عبد الله بن حوزة التّميمى حتّى وقف أمام الحسين، فقال له: يا حسين [1] فقال: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار.
قال: «كلّا، إنى أقدم على ربّ رحيم شفيع مطاع! من أنت؟» .
قال أصحابه: هذا ابن حوزة. قال: ربّ حزه إلى النار! فاضطرب به فرسه فى جدول، فوقع فيه، وتعلّقت رجله بالرّكاب، ونفر الفرس، فمرّ به يضرب برأسه كلّ شجرة وحجر حتّى مات، وانقطعت فخذه وساقه وقدمه.
ثم برز الناس بعضهم إلى بعض، فصاح عمرو بن الحجاج بالناس:
«يا حمقى، أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر قوما مستميتين لا يبرز [2] لهم منكم أحد، فإنهم قليل، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم!» فقال عمر: «صدقت، الرأى ما رأيت» [3] .
ثم حمل عمرو بن الحجاج على الحسين من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدىّ من أصحاب الحسين، ثم [4] مات، فترحّم الحسين عليه ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
[5]
[1] فى تاريخ الطبرى ج ص 327: «يا حسين، يا حسين» .
[2]
فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 331: «لا يبرزن» .
[3]
ومنع الناس من المبارزة، كما ذكره ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 290.
[4]
مشى الحسين إليه وبه رمق.
[5]
من الآية 23 من سورة الأحزاب.
وحمل شمر بن ذى الجوشن بالميسرة على من يليه من أصحاب الحسين، فثبتوا له وطاعنوه، فقتل الكلبى [1] ، بعد أن قتل رجلين آخرين وقاتل قتالا شديدا، فكان هو القتيل الثانى من أصحاب الحسين.
وقاتل أصحاب الحسين قتالا شديدا، فكانوا لا يحملون على جانب من خيل الكوفة إلّا كشفوه، فلمّا رأى ذلك عزرة بن قيس- وهو على خيل الكوفة- بعث إلى عمر بن سعد فقال:«ألا ترى ما نلقى خيلى منذ اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرّماة!» . فقال عمر لشبث بن ربعىّ: تقّدم إليهم. فقال:
سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامّه تبعثه فى الرّماة؟
لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيرى!» وكان لا يزالون يرون من شبث الكراهة لقتال الحسين.
قال [2] : فلما قال شبث ذلك دعا عمر بن سعد الحصين بن نمير [3] وبعث معه المجفّفة [4] وخمسمائة من المرامية، فلمّا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصاروا رجّالة كلهم.
وقاتل الناس أشدّ قتال حتّى انتصف النهار، وهم لا يقدرون
[1] هو عبد الله بن عمير، من بنى عليم، وقد سبق قريبا ذكره ورجزه، وقتله مولى زياد ومولى عبيد الله.
[2]
ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 291.
[3]
انظر ما سبق فى هذا الاسم.
[4]
المجففة: الطائفة التى تلبس: «التجفاف» من الآلات الواقية فى الحرب.
على أن يأتوا الحسين وأصحابه إلّا من وجه واحد، لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض.
فأرسل عمر بن سعد رجالا يقوّضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم، ليحيطوا بهم، فكان النفر من أصحاب الحسين الثلاثة والأربعة يتخلّلون البيوت فيقتلون الرجل وهو يقوّض وينهب. فأمر بها عمر بن سعد فأحرقت، فقال الحسين:«دعوهم يحرقوها، فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها!» . فكان ذلك كذلك، وجعلوا لا يقاتلونهم إلّا من وجه واحد.
وخرجت أم وهب امرأة الكلبىّ تمشى إلى زوجها، حتّى جلست عند رأسه، فجعلت تمسح التراب عن وجهه وتقول: هنيئا لك الجنة! فقال شمر لغلام اسمه رستم: اضرب رأسها بالعمود.
فضرب رأسها، فشدّخه [1] ، فماتت مكانها.
وحمل شمر حتّى بلغ فسطاط الحسين ونادى: «علىّ بالنار حتّى أحرق هذا البيت على أهله» . فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، وصاح به الحسين ودعا عليه [2] ، فردّه شبث بن ربعىّ عن ذلك، وحمل زهير بن القين فى عشرة من أصحابه على شمر ومن معه فكشفهم [عن البيوت حتى ارتفعوا عنها][3] وقتلوا أبا عزّة الضّبابىّ من أصحاب شمر، وعطف الناس عليهم فكثروهم [4] ،
[1] شدخه (بتشديد الدال أو تخفيفها) : كسره.
[2]
قال: «يا ابن ذى الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتى على أهل حرقك أنت بالنار» .
[3]
الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 334.
[4]
فاقوهم بكثرتهم.
فقال أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدى للحسين: «يا أبا عبد الله، نفسى لك الفداء، إنى أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله! وأحبّ أن ألقى ربّى وقد صلّيت هذه الصلاة التى قد دنا وقتها!» فدعا [1] له الحسين وقال: نعم هذا أوّل وقتها. ثم قال سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّى. ففعلوا، فقال لهم الحصين بن نمير:
إنها لا تقبل. فسبّه حبيب بن مظهّر، فحمل عليه الحصين، وخرج إليه حبيب بن مظهّر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشبّ، فسقط عنه الحصين، فاستنقذه أصحابه، وقاتل حبيب قتالا شديدا، فقتل بديل به صريم التميم، وحمل عليه آخر من تميم، فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين على رأسه بالسيف، فوقع، فنزل إليه التميمى فاحتزّ رأسه.
فقال حسين عند ذلك [2] : أحتسب نفسى وحماة أصحابى!! وحمل الحرّ بن يزيد وزهير بن القين فقاتلا قتالا شديدا، فقتل الحرّ، وقتل أبو ثمامه الصائدى ابن عمّ له كان عدوّه.
ثم صلّى الحسين صلاة الظهر بأصحابه صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر، فاشتدّ قتالهم، ووصل إلى الحسين فاستقدم سعد بن عبد الله الحنفىّ أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل حتّى سقط، وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا وجعل يقول:
[1] قال الحسين: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين» .
[2]
عبابرة الطبرى وابن الأثير: «لما قتل حبيب بن مظهر هد ذلك حسينا، وقال عند ذلك
…
» .
أنا زهير وأنا ابن القين
…
أذودهم بالسيف عن حسين
وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول!
أقدم هديت هاديا مهديّا
…
فاليوم تلقى جدّك النبيّا
وحسنا والمرتضى عليّا
…
وذا الجناحين [1] الفتى الكميّا
وأسد الله [2] الشهيد الحيّا
قال: فحمل على زهير كثير بن عبد الله الشعبى ومهاجر بن أوس فقتلاه.
قال: وكان نافع بن هلال البجلى [3] قد كتب اسمه على أفواق [4] نبله، وكانت مسمومة، فقتل بها اثنى عشر رجلا سوى من جرح، فضرب حتى كسرت عضداه، وأخذ أسيرا، فأتى به شمر عمر ابن سعد والدم يسيل على لحيته، فقال له عمر:«ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟» قال: «إنّ ربى يعلم ما أردت! والله لقد قتلت منكم اثنى عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسى،
[1] ذو الجناحين جعفر ابن أبى طالب، عم الحسين، استشهد بمؤته من أرض الشام مجاهدا للروم مقبلا غير مدبر، فى جسده بضع وتسعون بين طعنة ورمية، وقد رآه النبى صلى الله عليه وسلم ذا جناحين مضرجين بالدم يطير مع الملائكة فى الجنة، وفيه رمز لطيف، لأنه قاتل حتى قطعت يداه.
[2]
أسد الله: حمزه بن عبد المطلب، عم النبى وأبى الحسين: استشهد بأحد، ولقبه النبى صلى الله عليه وسلم «أسد الله» .
[3]
فى تاريخ الطبرى: «الجملى» .
[4]
أفواق: جمع فوق (بضم الفاء) وهو عشق رأس السهم حيث يقع الوتر.
ولو بقيت لى عضد وساعد ما أسرتمونى!» فقال له شمر: اقتله أصلحك الله. قال: أنت جئت به فإن شئت فاقتله. فانتضى [1] شمر سيفه، فقال له نافع:«أما والله لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا! فالحمد لله الذى جعل منايانا على يد شرار خلقه!» فقتله.
ثم حمل شمر على أصحاب الحسين، فلما رأوا أنهم قد كثروا وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا الحسين تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريّان فقالا: قد جازنا العدوّ إليك فأحببنا أن نقتل بين يديك! فرحّب بهما، وقال: ادنوا منى فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبا منه.
وجاءه الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لأمّ، وهما يبكيان، فقال:
«ما يبكيكما؟ والله إنى لأرجو أن تكونا عن ساعة قريرى عين!» قالا: «والله ما على أنفسنا نبكى، ولكنّا نبكى عليك! نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن نمنعك!» . فقال: جزاكما الله خيرا! [2] .
وجاء حنظلة بن أسعد الشّبامىّ فوقف بين يدى الحسين، وجعل ينادى: يا قَوْمِ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ،
[1] انتضى سيفه: استل سيفه من غمده.
[2]
روى الطبرى قول الحسين لهما: «جزاكما الله يا ابنى أخى بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياى بأنفسكما أحسن جزاء المتقين» .
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ
[1]
يا قوم لا تقتلوا الحسين فيسحتكم [2] الله بعذاب «وقد خاب من افترى!» . فقال له الحسين: «رحمك الله! إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق ونهضوا إليك ليستبيحوك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين؟!» قال: «صدقت أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا؟!» . قال:
رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى. فسلّم على الحسين واستقدم فقاتل حتّى قتل.
ثم استقدم الفتيان الجابريان، فودعا حسينا، وقاتلا حتّى قتلا.
وجاء عابس بن أبى شبيب الشاكرى وشوذب مولى شاكر إلى الحسين، فسلّما عليه، وتقدما فقاتلا، فقتل شوذب، وتقدم عابس نحوهم بالسيف، وبه ضربة على جبينه، وكان أشجع الناس، فجعل ينادى:«ألا رجل لرجل؟» . فعرفه ربيع بن تميم الهمدانى، فقال:«أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبى شبيب، لا يخرجنّ إليه أحد منكم!» . فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شدّ على الناس، فهزمهم بين يديه، ثم عطفوا عليه من كلّ جانب، فقتلوه، فادّعى قتله جماعة وأتوا ابن سعد، فقال: «لا تختصموا
[1] من الآيات 30، 31، 32، 33 من سورة غافر.
[2]
جاء فى الآية 60 من سورة طه:
…
فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى
هذا لم يقتله إنسان واحد!» . ففرق بينهم [بهذا القول][1] .
وجاء أبو الشعثاء يزيد بن أبى زياد الكندى، وكان راميا، فجثا على ركبتيه بين يدى الحسين فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان يزيد هذا ممّن خرج مع عمر بن سعد، فلمّا ردّوا ما عرض عليهم الحسين عدل إليه، فقاتل حتّى قتل.
وكان آخر من تبقّى مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو ابن أبى المطاع الخثعمىّ.
وكان أوّل قتيل من بنى أبى طالب يومئذ علىّ الأكبر ابن الحسين، وأمه ليلى ابنة أبى مرّة بن عروة بن مسعود الثقفية، وذلك أنه حمل على الناس وهو يقول:
أنا علىّ بن الحسين بن على
…
نحن وربّ البيت أولى بالنّبى
تالله لا يحكم فينا ابن الدّعى
فعل ذلك مرارا وهو يشدّ على الناس بسيفه، فاعترضه مرّة بن منقذ بن النعمان العبدى، وطعنه، فصرع، وقطعه الناس بأسيافهم، فقال الحسين:«قتل الله قوما قتلوك يا بنىّ! ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدّنيا بعدك العفاء!» وأقبل الحسين إليه ومعه فتيانه فقال: احملوا أخاكم. فحملوه حتّى وضعوه بين] [2] يدى الفسطاط الذى كانوا يقاتلون أمامه.
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 339.
[2]
هنا ينتهى ما كان بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) ، مع مراجعته على ما أثبته ابن جرير الطبرى فى تاريخه وابن الأثير فى الكامل. انظر ما سبق ص 421.
وشدّ عثمان بن خالد الجهنى وبشر بن سوط الهمدانى على عبد الرحمن بن عقيل بن أبى طالب [فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمى جعفر بن عقيل بن أبى طالب][1] فقتله، ورمى عمرو بن صبيح الصدائى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفّه على جبهته فلم يستطيع أن يحركها ثم رماه بسهم آخر فقتله.
وحمل الناس عليهم من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائى على عون بن عبد الله بن جعفر فقتله، وحمل القاسم بن الحسن ابن علىّ فحمل عليه عمرو بن سعد بن نفيل الأزدى، فضرب رأسه بالسيف فوقع القاسم إلى الأرض لوجهه، وقال: يا عمّاه! فانقضّ الحسين إليه كالصقر، ثم شدّ شدة ليث أغضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فقطع يده من المرفق، فصاح، وحملت خيل الكوفة ليستنقذوا عمرا، فاستقبلته بصدورها، وجالت عليه بفرسانها، فوطئته حتّى مات، وانجلت الغبرة والحسين قائم على رأس القاسم وهو يفحص برجليه. والحسين يقول:«بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة [فيك] [2] جدّك!» ثم قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، وأن يجيبك فلا ينفعك صوت والله كثر واتره وقلّ ناصره!» ثم احتمله على صدره حتّى ألقاه مع ابنه علىّ ومن قتل من أهل بيته.
قال: ومكث الحسين طويلا من النهار، كلّما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه وكره أن يتولّى قتله وعظيم إثمه، فأتاه رجل من
[1] ثبتت هذه الزيادة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
[2]
الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 341 والكامل ج 3 ص 293.
كندة يقال له «مالك بن النسير» فضربه على رأسه بالسيف، فقطع البرنس، وأدمى رأسه، وامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين:
«لا أكلت بها ولا شربت! وحشرك الله مع [القوم] [1] الظالمين!» وألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسيها واعتم. وجاء الكندىّ فأخذ البرنس وكان من خزّ، فقدم به على امرأته، وأقبل يغسله من الدم، فقالت له:«أسلب [2] ابن بنت رسول الله يدخل بيتى؟ أخرجه عنى!» فلم يزل ذلك الرجل فقيرا بشرّ حتّى مات.
قال: ودعا الحسين بابنه عبد الله وهو صغير، فأجلسه فى حجره فرماه رجل من بنى أسد بسهم فذبحه، فأخذ الحسين دمه بيده فصبّه فى الأرض، ثم قال:«اللهمّ ربّ إن كنت حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم من هؤلاء الظالمين!» ورمى عبد الله بن عقبة الغنوى أبا بكر بن الحسين بسهم فقتله، وقتل إخوة الحسين وهم العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان.
قال: واشتدّ عطش الحسين، فدنا من الفرات ليشرب فقال رجل من بنى أبان بن دارم:«ويلكم! حولوا بينه وبين الماء» ، وضرب فرسه، واتبعه الناس حتّى حال بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمئه! وانتزع الأبانىّ سهما فأثبته فى حنك الحسين، فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفّيه فامتلأ دما؛ فقال اللهم إنى أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، اللهم أحصبهم عددا واقتلهم بددا [3] ، ولا تبق منهم أحدا. وقيل أن الذى رماه حصين
[1] ثبت هذه الزيادة فى النسخة (ك) ولم تثبت فى النسخة (ن) .
[2]
السلب: ما يؤخذ سلبا.
[3]
أى متفرقين فى القتل واحدا بعد واحد.
ابن نمير. قال: فما مكث الذى رماه إلّا يسيرا، ثم صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى، والماء يبرّد له فيه السّكر، وعساس [1] فيها لبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم؛ اسقونى، قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة أو العسّ فيشربه، فإذا شربه اضطجع هنيهة، ثم قال:
ويلكم، اسقونى قتلنى الظمأ، فيعطى القلّة والعس فيشربه، فما لبث إلا يسيرا حتّى انقدّ بطنه انقداد بطن البعير.
قال: ثم إن شمر بن ذى الجوشن أقبل فى نحو عشرة من رجاله أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذى فيه أهله وعياله، فمشى نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فقال: ويلكم؛ إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا فى دنياكم أحرارا ذوى أحساب، امنعوا رحلى وأهلى من طغامكم وجهّالكم. قال شمر: ذلك لك يا ابن فاطمة. وأقدم شمر عليه بالرّجالة منهم أبو الجنوب عبد الرحمن الجعفىّ، وصالح بن وهب اليزنىّ، وسنان بن أنس النّخعىّ، وخولىّ بن يزيد الأصبحى، وجعل شمر يحرّضهم على الحسين، وهو يحمل عليهم فينكشفون عنه، ثم أحاطوا به، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته زينب بنت علىّ لتحبسه، فأبى الغلام، وجاء يشتد حتّى قام إلى جنب الحسين، وقد أهوى بن كعب بن عبيد الله- من بنى تميم الله بن ثعلبة- إلى الحسين بالسيف، فقال له الغلام: يا ابن الخبيثة أتقتل عمّى؟! فضربه بالسيف فاتّقاه الغلام بيده، فأطنّها [2] إلى الجلدة [3]، فنادى الغلام:
[1] عساس: جمع عس، وهو القدح الضخم.
[2]
أطنها: قطعها.
[3]
فإذا يده معلقة.
يا أمّتاه، فضمه الحسين إليه وقال: «يا ابن أخى اصبر على ما نزل بك، واحتسب فى ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين:
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلىّ وحمزة وجعفر والحسن» ثم قال الحسين:«اللهمّ أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متّعتهم إلى حين ففّرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترضى عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا!» ثم ضارب الرجّالة حتّى انكشفوا عنهم.
قال: ودنا عمر بن سعد من الحسين فخرجت زينب بنت علىّ أخت الحسين فقالت. يا عمر، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟
فجعلت دموع عمر تسيل على خدّيه ولحيته، وصرف وجهه عنها.
ومكث الحسين طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتّقى بعضهم ببعض، ويحبّ هؤلاء أن يكفهم هؤلاء، فنادى شمر ابن ذى الجوشن فى الناس، ويحكم؛ ما تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! فحملوا عليه من كل جانب؛ فضرب زرعة بن شريك كفّه اليسرى، وضرب على عاتقه ثم انصرفوا عنه وهو يقوم ويكبو، وحمل عليه فى تلك الحال سنان بن أنس النّخعى فطعنه بالرمح فوقع، وقال لخولىّ بن يزيد الأصبحى احتز رأسه، فأراد أن يفعل فضعف وأرعد، فقال له سنان: فتّ الله عضدك، وأبان يدك، ونزل إليه فذبحه وأخذ رأسه فدفعه إلى خولى.
وسلب الحسين ما كان عليه؛ فأخذ سراويله بحر بن كعب، فكانت
يداه فى الشتاء تضخان الماء، وفى الصيف تيبسان كأنهما عود. وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته وهى من خزّ، فكان يسمّى بعد «قيس قطيفة» . وأخذ نعليه الأسود الأودى، وأخذ سيفه رجل من بنى نهشل. ومال الناس على الورس والحلل والإبل فانتهبوها، وانتهبوا ثقله ومتاعه وما على النساء، حتى إن كانت المرأة لتنازع ثوبها فيؤخذ منها.
ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة، وكان سويد بن عمرو بن أبى المطاع قد صرع، فوقع بين القتلى مثخنا بالجراح، فسمعهم يقولون: قتل الحسين فوجد خفّة فوثب ومعه سكين فقاتلهم بها ساعة، ثم قتله عروة بن بطان الثعلبى، فكان آخر قتيل من أصحاب الحسين قال. وانتهوا إلى على بن الحسين وهو زين العابدين، فأراد شمر قتله وكان مريضا فمنع حميد بن مسلم، وجاء عمر بن سعد فقال:
لا يدخلنّ بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضنّ لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليردده عليهم، فما ردّ أحد شيئا، فقال الناس لسنان بن أنس:«قتلت حسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله، قتلت أعظم العرب خطرا، أراد أن يزيل ملك هؤلاء، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، فإنهم لو أعطوك بيوت أموالهم فى قتله كان قليلا» فأقبل على فرسه حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته: