الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الجاهلية وستون فى الإسلام. ومات جماعة ممن لهم صحبة فى هذه السنة.
سنة أحدى وستين ذكر مسير [1] الحسين بن على رضى الله عنهما وخبر من نهاه عن المسير
كان مقتله بالطّف على شاطئ الفرات من أرض كربلاء، وذلك فى يوم الجمعة لعشر خلون من المحرّم من هذه السنة.
ولنبدأ بخبر مسيره من مكة شرّفها الله تعالى، وسبب مسيره ومن أشار عليه بالمقام بمكة وترك المسير إلى الكوفة، ثم نذكر ما كان من خبره فى مسيره إلى أن قتل رضى الله عنه، فنقول:
كان مسيره من مكّة لقصد الكوفة يوم التّروية، وكان سبب مسيره إلى الكوفة ما ورد عليه من كتب أهلها كما تقدم، ثم أكّد ذلك عنده وحمله عليه وقوّى عزمه ورود كتاب مسلم بن عقيل بن أبى طالب عليه يخبره أنه بايعه بالكوفة ثمانية عشر ألفا، ويستحثّه على المسير إليها، وكان هذا من مسلم فى ابتداء أمره [3] .
[1] ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 146 ممن توفى فى هذه السنة صفوان بن المعطل الصحابى، وأبو مسلم الخولانى عبد بن ثوب ببلاد اليمن وهو الذى دعاه الأسود العنسى إلى أن يشهد أنه رسول الله فقال: لا أسمع أشهد أن محمدا رسول الله، ويقال: إنه توفى فيها النعمان ابن بشير والأظهر أنه مات بعد ذلك
…
وذكر بن العماد فى شذرات الذهب ج 1 ص 65 ممن توفى فى هذه السنة عمرة بن جندب الفزارى وعبد الله بن مغفل المزنى وبلال بن الحارث المزنى.
[2]
كذا جاء فى النسخة (ن)، وجاء فى النسخة (ك) :«مقدم» .
[3]
كان مسلم بن عقيل حيث ذهب فى أول أمره بالكوفة إلى دار هانىء بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا أرسل إلى الحسين مع عابس بن أبى شهيب الشاكرى كتابا كتب فيه: «أما بعد إن الرائد لا يكذب أهله وقد بايعنى من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابى، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم فى آل معاوية رأى ولا هوى، والسلام» ، وانظر ما سيأتى.
قال [1] : ولما عزم الحسين رضى الله عنه على المسير إلى الكوفة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له: «إنى أتيتك لحاجة أريد ذكرها نصيحة لك، فإن كنت ترى أنك تستنصحنى قلتها وأدّيت ما على من الحق فيها، وإن ظننت أنك لا تستنصحنى كففت عمّا أريد!» فقال له: قل فو الله ما أستغشك ولا أظنك بشىء من [2] الهوى. قال: «قد بلغنى أنك تريد العراق، وإنى مشفق عليك أنك تأتى بلدا فيه عمّاله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، والناس عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إليه ممّن يقاتلك معه!» فقال له الحسين رضى الله عنه:
جزاك الله خيرا يا ابن عمّ، فقد علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندى أحمد مشير، وأنصح ناصح.
وأتاه عبد الله بن عباس فقال له: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لى ما أنت صانع فقال له: قد أجمعت السير فى أحد يومىّ هذين إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: «فإنى أعيذك بالله من ذلك؛ خبّرنى رحمك الله، أتسير إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم ونفوا عدوّهم؟ فإن كانوا قد فعلوا فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم، قاهر لهم، وعمّاله تجبى بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك ويستنفروا إليك، فيكونوا
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 275.
[2]
فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 287: «ما أظنك بسيىء الرأى ولا هوى القبيح من الفعل» .
أشدّ الناس عليك!» فقال الحسين: فإنى أستخير الله وأنظر ما يكون.
فخرج ابن عباس.
وأتاه عبد الله بن الزّبير فحدّثه ساعة، ثم قال:«ما أدرى ما تركنا هؤلاء القوم، وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم؛ خبّرنى ما تريد أن تصنع؟!» فقال الحسين: «لقد حدّثت نفسى بإتيانى الكوفة، ولقد كتب إلىّ شيعتى بها، وأشراف الناس وأستخير الله» . فقال ابن الزبير: أما إنه لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت عنها. ثم خشى أن يتهمه، فقال أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر هاهنا ما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحناك. فقال له الحسين رضى الله عنه:«إن ابى حدثنى أن لها كبشا به تستحل حرمتها، فما أحبّ أن أكون [1] ذلك الكبش!» قال: فأقم إن شئت وتولينى أنا الأمر فتطاع ولا تعصى، قال:
ولا أريد هذا الأمر أيضا. ثم إنهما أخفيا كلامهما، فالتفت الحسين إلى من هناك وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا قال: فإنه يقول قم فى هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين:«والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحبّ إلىّ من أن أقتل فيها، ولأن أقتل خارجا منها بشبرين أحبّ إلىّ من أن أقتل خارجا منها بشبر، ويم الله، لو كنت فى جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجونى حتى يقضوا فىّ حاجتهم، والله ليعتدنّ [على [2]] كما اعتدت اليهود فى السّبت!» فقام ابن الزّبير وخرج من عنده.
[1] جاء عند الطبرى وابن الأثير: «أكون أنا» .
[2]
الزيادة من الطبرى وابن الأثير.
فلما كان من العشىّ أو من الغد أتاه ابن عبّاس فقال: «يا ابن عم، إنى أتصبر ولا أصبر، إنى أتخوّف عليك فى هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر [1] فلا تنفر إليهم [2] ، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم لينفوا عاملهم وعدوّهم، ثم قدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهى أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت على الناس فى [3] عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبثّ دعاتك، فإنى أرجو أن يأتيك عند ذلك الذى تحبّ فى عافية!» فقال له الحسين: «يا ابن عم، إنى والله لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير!» فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك، فإنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!» ثم قال له ابن عباس: «لقد أقررت عين ابن الزّبير بالخروج من الحجاز، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله لو أعلم أنى إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتّى يجتمع علينا الناس أطعتنى فأقمت لفعلت ذلك!» . ثم خرج من عنده.
فمرّ بابن الزّبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير، ثم قال [4] :
[1] كذا يجىء على الوصف، ويجوز أن يكون «غدر» بفتح الغين وسكون الدال مصدرا مضافا إليه.
[2]
أى: فلا تسرع إليهم، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل:«فلا تقربنهم»
[3]
كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى البداية والنهاية ج 8 ص 160 «وكن عن الناس فى معزل» وجاء فى مروج الذهب ج 2 ص 86 «فإنها فى عزلة» .
[4]
أى: قال هذا الرجز القديم متمثلا به، كما تمثل به قيس بن سعد فى قوله لمعاوية أبن أبى سفيان: «فدونك أمرك يا معاوية، فإن مثلك كما قال الشاعر: يا لك من قبرة بمصر
…
»
أنظر العقد الفريد ج 4 ص 340.
يا لك من قبّرة بمعمر [1]
…
خلا لك الجوّ فبيضى واصفرى [2]
ونقّرى ما شئت أن تنقرى [3]
هذا حسين يخرج إلى العراق ويخلّيك والحجاز.
قال وخرج حسين من مكة يوم التّروية [4] ، فاعترضه رسل عمرو بن سعيد مع أخيه يحيى يمنعونه، فأبى عليهم ومضى، وسار فمر بالتنعيم [5] فرأى عيرا قد أقبلت من اليمن، بعث بها بحير
[1] القبرة: طائر صغير. والمعمر: المكان الواسع من جهة الماء والكلأ ينزل فيه النازلون فيعمرونه.
[2]
«خلالك الجو فبيضى واصفرى» مثل يضرب فى الحاجة يتمكن منها صاحبها، كما ذكره الميدانى فى مجمع الأمثال ج 1 ص 249، وذكر بن عبد ربه فى العقد الفريد ج 3 ص 126- 127 أن هذا المثل يقال فى «الرجل يخلو بحاجته» .
[3]
نقر الطائر فى الموضع: سهله ليبيض فيه، وقيل: التنقير مثل الصفير.. وقد زاد ابن كثير فى البداية والنهاية ج 8 ص 160، ص 165 فى التمثل بهذا الرجز مشطور رابعا:
«صيادك اليوم قتيل فابشرى» والمعروف فى رواية الرجز القديم: «قد رحل الصياد عنك فابشرى» .. والمشهور أن قائل هذا الرجز هو طرفة بن العبد الشاعر، كما فى الحيوان ج 3 ص 66، ج 5 ص 227 والفاخر ص 189- 190 والصحاح (ع م ر، ق ب ر) ومجمع الأمثال وحياة الحيوان، وذلك أن طرفة كان وهو صبى صغير مسافرا مع عمه فنزلا على ماء عليه قبرات، فنصب طرفة فخالها، فنفرت، وقعد عامة يومه فلم يصد شيئا، فانتزع فخه من التراب وحمله وارتحل مع عمه والتفت وراءه فرأى القبرات يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال هذا الرجز
…
وذكر ابن برى فى حواشيه على الصحاح أن هذا الرجز لكليب بن ربيعة التغلبى، وليس لطرفه كما ذكر الجوهرى، وذلك أن كليبا خرج يوما فى حماه، فإذا هو بقبرة على بيضها، فلما نظرت إليه صرصرت وخفقت بجناحيها، فقال لها: أمن روعك أنت وبيضك فى ذمتى، ثم دخلت ناقة البسوس إلى الحمى فكسرت البيض، فرماها كليب فى ضرعها، فهاجت حرب بكر وتغلب ابنى وائل بسببها أربعين سنة، انظر لسان العرب فى (ب ر) وفى (ع م ر، ن ق ر)
[4]
يوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذى الحجة، سمى به لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه من الماء وينهضون إلى منى.
[5]
التنعيم: موضع قريب من مكة فى الحل، على فرسخين منها.
ابن ريسان الحميرى عامل اليمن إلى يزيد، وعليها الورس [1] والحلل، فأخذها الحسين ثم سار، فلما انتهى إلى الصّفاح [2] لقيه الفرزدق الشاعر [3] فقال له الحسين: بين لى خبر الناس خلفك فقال: «الخبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم مع بنى أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء!» فقال الحسين صدقت، لله الأمر يفعل ما يشاء، وربّنا كل يوم فى شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، هو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد [4] من كان الحق نيته، والتقوى سريرته.
قال وأدرك الحسين كتاب عبد الله بن جعفر مع ابنيه عون ومحمد يقول: «أمّا بعد، فإنى أسألك بالله لمّا انصرفت حين تقرأ كتابى هذا فإنى مشفق عليك من هذا الوجه أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الآن طفئ نور الأرض فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير، فإنى فى إثر كتابى، والسلام!» .
وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد وقال: «اكتب للحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البرّ والصّلة، وترفق
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) مثل الكامل وتاريخ الطبرى، وجاء فى النسخة (ك) :«الوشى» .
والورس: نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به- والوشى: نوع من الثياب المنقوشة.
[2]
الصفاح: موضع بين حنين ومكة.
[3]
كان الفرزدق يحج بأمه ويسوق بعيرها، فلقى الحسين خارجا من مكة، فسأله الحسين:
ممن أنت؟ قال: الفرزدق: امرؤ من العراق، فقال له الحسين: بين لى
…
الخ.
[4]
عند الطبرى وابن الأثير: «فلم يعتد» .
فى كتابك، وتسأله [1] الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال له عمرو اكتب ما شئت، وأتنى به حتى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمر بن سعيد: فقال: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى فإنه أحرى أن تطمئن به نفسه، ويعلم أنه الجدّ منك ففعل.
فأخذا الكتاب ولحقا حسينا، فأقرأه يحيى الكتاب. وكان ممّا اعتذر به أن قال: إنى رأيت رؤيا، رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرت بأمر أنا ماض له، فقالا له: ما تلك الرؤيا؟
قال: ما حدّثت أحدا بها ولا أنا محدّث أحدا بها حتّى ألقى ربّى.
وكتب الحسين إلى عمرو بن سعيد: «أمّا بعد، فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن بالله يوم القيامة من لم يخفه فى الدنيا، فنسأل الله مخافة فى
[1] كذا جاء فى الأصل مثل تاريخ الطبرى ج 4 ص 291، وجاء فى الكامل ج 3 ص 277:
«وأسأله» .
الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتى وبرى فجزيت خيرا فى الدنيا والآخرة، والسلام» .
قال [1] : ولمّا بلغ ابن زياد مسير الحسين من مكة بعث الحصين ابن نمير [2] التّميمى صاحب شرطته، فنزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفّان [3] ، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع.
وأقبل الحسين حتى إذا بلغ الحاجز من بطن الرّمة بعث قيس بن مسهر الأسدىّ ثم الصّيداوى إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن على إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو.
أمّا بعد؛ فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءنى يخبرنى فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فنسأل الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يشيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذى الحجّة يوم التّروية، فإذا قدم عليكم رسولى فانكمشوا [4] فى أمركم وجدوا، فإنى قادم عليكم فى أيامى هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله» .
[1] ابن الأثير فى الكامل.
[2]
كذا جاء فى النسخة (ك)، وجاء فى النسخة (ن) :«تميم» ، والذى فى جمهرة أنساب العرب ص 403 أنه الحصين بن نمير بن ناتل بن لبيد بن جعثنة بن الحارث بن سلمة بن شكامة ابن السكون، وسيأتى وصفه بالسكونى.
[3]
خفان: موضع فوق القادسية، وهو وما بعده مواضع بين الكوفة ومكة.
[4]
انكمشوا: تشمروا.
وكان مسلم بن عقيل قد كتب إلى الحسين قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، أمّا بعد؛ فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع [1] أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابى والسلام.
قال: وأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين إلى أهل الكوفة، فلما بلغ القادسية أخذه الحصين بن نمير [2] فبعث به إلى ابن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد [القصر][3] فسبّ الكذّاب ابن الكذّاب الحسين بن على. فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:«أيها الناس، إن هذا الحسين بن علىّ رضى الله عنهما خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه» ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلىّ، فأمر به عبيد الله فرمى من فوق القصر فتقطع فمات.
قال [4] : ثم أقبل الحسين رضى الله عنه يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوىّ فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبى أنت وأمى يا ابن رسول الله، ما أقدمك؟ واحتمله فأنزله فقال له الحسين: إنه كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلىّ أهل العراق يدعوننى إلى أنفسهم. فقال: «أذكرك بالله [5] يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله
[1] فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 297 «جمع» ، وانظر ما سبق.
[2]
انظر ما سبق قريبا، وفى المخطوطة «تميم» .
[3]
الزيادة من ابن الأثير والطبرى.
[4]
ابن الأثير فى الكامل، وأصله عند الطبرى.
[5]
عند الطبرى وابن الأثير: «أذكرك الله» .
فى حرمة قريش [1] ، أنشدك الله فى حرمة العرب، فو الله لئن طلبت ما فى أيدى بنى أميّة ليقتلنّك، ولئن قتلوك لا يهابون بعد أحدا أبدا، والله إنها لحرمة الاسلام تنتهك، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرّض نفسك لبنى أمية!» فأبى إلّا أن يمضى.
فلما نزل بزرود [2] أتاه الخبر بقتل مسلم ابن عقيل وهانئ ابن عروة، فاسترجع [3] مرارا، فقال له عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعلّ الأسديان، وكانا قد لحقاه حين قضيا حجهما:«ننشدك الله فى نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!» فوثب بنو عقيل فقالوا لا: والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا. فقال الحسين رضى الله عنه: لا خير فى العيش بعد هؤلاء، فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع. فانتظر الحسين حتى إذا كان السّحر قال لفتيانة وغلمانه: أكثروا من الماء. فاستقوا فأكثروا، ثم ارتحلوا حتّى انتهوا إلى زبالة [4] .
وقيل: كان الحسين لا يمرّ بماء إلا اتبعه أهل ذلك الماء، حتى انتهى إلى زبالة، فأتاه خبر مقتل أخيه من الرّضاعة عبد الله بن بقطر،
[1] كذا جاء فى الأصل مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى:«رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
[2]
قال ياقوت: «لعلها سميت بذلك لابتلاعها المياه التى تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفه» .
[3]
استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[4]
زبالة: موضع معروف بطريق مكة من الكوفة.
وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق، وهو لا يدرى أنه أصيب فأخذه الحصين بالقادسية، فبعث به إلى زياد فقال له: اصعد فوق القصر فالعن الكذابّ ابن الكذّاب ثم انزل حتى أرى فيك رأيى، فصعد فلما أشرف على الناس قال:«أيها الناس، إنى رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدّعى!» فأمر به عبيد الله فألقى من فوق القصر إلى الأرض فتكسرت عظامه وبقى به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمى [1] فذبحه، فلمّا عيب عليه ذلك قال: إنما أردت أن أريحه.
فلمّا بلغ الحسين الخبر قال لأصحابه: من أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه منا ذمام؛ فتفرق الناس عنه حتى بقى فى أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة.
قال: وإنما فعل ذلك لأنه علم أن الأعراب ظنت أنه يأتى بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فأراد أن يعلموا علام يقدمون.
قال ثم ارتحل الحسين وسار حتى مر ببطن العقبة فنزل بها، فأتاه بعض الأعراب فسأله عن مقصده فأخبره، قال: «إنّى أنشدك الله لمّا انصرفت، فو الله ما تقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف، إن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّئوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التى تذكر فإنى
[1] قال بعض العلماء: لم يكن الذى ذبحه عبد الملك بن عمير، ولكنه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك.
لا أرى لك أن تفعل!» فقال الحسين: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علىّ ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره!.
ثم ارتحل منها وقد استهلّت إحدى وستين، وسار حتّى نزل شراف [1] فلما كان فى السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا، ثم ساروا منها صدر يومهم حتّى انتصف النهار، فكبّر رجل من أصحابه فكبر الحسين، وقال: ممّ كبّرت؟ قال: رأيت النخل، فقال عبد الله بن سليم والمذرى ابن المشمعل الأسديان: والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط، قال: فما تريان. قالا: نراه والله [رأى][2] هوادى [3] الخيل. فقال الحسين: وأنا والله أرى ذلك، ما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله فى ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقيل له:
«بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت هوداى الخيل، فلما رأوهم قد عدلوا عن الطريق عدلوا عنها إلى قصدهم، فسبق الحسين إلى ذى حسم، فنزل وأمر بأبنية [4] فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس عليهم الحرّ بن يزيد التميمى، فجاءوا حتى وقفوا مقابل الحسين رضى الله عنه: وكان مسير الحر ومن معه من القادسية من قبل الحصين بن نمير [5] التميمى.
[1] شراف: موضع بعد العقبة وواقصة وقبل القرعاء فى الطريق من مكة إلى الكوفة.
[2]
الزيادة من تاريخ الطبرى ج 4 ص 302.
[3]
هوادى الخيل: أوائلها، والهادى والهداية: العنق، لأنها تتقدم على البدن ولأنها تهدى البدن.
[4]
أبنية: جمع بناء، وهو ما يسكنه الناس، فيطلق على ما يضربه العرب فى الصحراء من خيمة وغيرها.
[5]
كذا جاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 279: «نمير» وجاء فى المخطوطة:
«تميم» وانظر ما سبق.
فلم يزل الحرّ مواقفا حسينا حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفى أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامه خرج الحسين رضى الله عنه، فى إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«أيّها الناس، معذرة إلى الله وإليكم، إنى لم آتكم حتى أتتنى كتبكم، وقدمت على رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى والحق، إن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطونى ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمى كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى أقبلت منه إليكم» فسكتوا عنه، وقال للمؤذن: أقم.
فأقام الصلاة، فقال الحسين للحر: أتريد أن تصلى بأصحابك؟ فقال:
لا، بل صلّ أنت ونصلى بصلاتك، فصلّى بهم الحسين، ثم دخل واجتمع إليه أصحابه.
وانصرف الحر فدخل خيمة قد ضربت له، واجتمع عليه جماعة من أصحابه، وعاد بعض أصحابه إلى صفّهم الذى كانوا فيه، ثم أخذ كل رجل بعنان دابته وجلس فى طلبها.
فلما كان وقت العصر أمر الحسين أصحابه أن يتهيئوا للرحيل ففعلوا، ثم خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، وصلى الحسين بالقوم جميعا، ثم سلم وانصرف إليهم بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ أيها الناس، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتنى به
كتبكم، وقدمت علىّ به رسلكم، انصرفت عنكم» ، فقال له الحر:
إنّا والله ما ندرى ما هذه الكتب والرسل التى تذكر. فأمر الحسين رضى الله عنه بإخراج كتبهم، فأخرجت فى خرجين مملوءين، فنثرهما بين أيديهم، فقال الحر: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لقومه: قوموا فاركبوا، وركب نساؤهم.
فلما أرادوا الانصراف حال القوم بينهم وبين المسير، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قال له: «أما والله لو غيرك من العرب يقولها وهو على مثل الحال التى عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما إلى ذكر أمّك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه» ، فقال له الحسين: ما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد. فقال له الحسين: إذا والله لا أتبعك فقال الحر:
إذا والله لا أدعك. فترادّا القول ثلاث مرات، فلما كثر الكلام بينهما قال الحر:«إنى لم أومر بقتالك، إنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة يكون بينى وبينك نصفا، حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله إن شئت، فلعل الله أن يرزقنى العافية من أن أبتلى بشىء من أمرك!» قال:
فتياسرعن [1] طريق العذيب والقادسية، وبينه حينئذ وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا. ثم سار والحرّ يسايره.
[1] عبارة الطبرى: «قال: فخذ من ههنا فتياسر
…
» .
قال [1] :
ثم إن الحسين خطبهم [2] فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من رأى سلطانا جائرا، مستحلّا لحرم الله، ناكثا لعهده، مخالفا لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم يعمل فى عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقّا على الله أن يدخله مدخله»
. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفىء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيرى [3] ، وقد أتتنى كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلمونى ولا تخذلونى، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن على وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفسى مع أنفسكم، وأهلى مع أهلكم، فلكم بى أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدى وخلعتم بيعتى فلعمرى ما هى لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبى وأخى وابن عمى مسلم، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغنى الله عنكم، والسلام.
فقال له الحر: إنى أذكّرك الله فى نفسك، فإنى أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين رضى الله عنه: أبالموت تخوّفنى؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلونى! وما أدرى ما أقول لك؟! ولكنى أقول
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 280.
[2]
أى: خطب أصحابه وأصحاب الحر بن يزيد التميمى بالبيضة.
[3]
الزيادة من تاريخ الطبرى.
كما قال أخو الأوس لابن عمه، [لقيه][1] وهو يريد نصرة النبى صلى الله عليه وسلم، [له] [2] فقال أين تذهب فإنك مقتول؟! فقال:
سأمضى وما بالموت عار على الفتى
…
إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه
…
وفارق مثبورا وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن متّ لم ألم
…
كفى بك ذلّا أن تعيش وترغما
قال: فلما سمع الحرّ ذلك تنحى عنه، فكان يسير ناحية عنه، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات [3] ، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطّرمّاح وهو يقول:
يا ناقتا لا تذعرى من زجرى
…
وشمّرى قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر
…
حتّى تجلّى بكريم النحر
الماجد الحر رحيب الصّدر
…
أتى به الله لخير الأمر
ثمّت أبقاه بقاء للدهر فلما انتهوا إلى الحسين رضى الله عنه والتحقوا به، فقال الحر: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبلوا معك، وأنا حابسهم أو رادّهم؛ فقال الحسين رضى الله عنه: «لأمنعنهم
[1] الزيادة من تاريخ الطبرى.
[2]
الزيادة من تاريخ الطبرى.
[3]
عذيب الهجاناث: موضع بطريق الكوفة.
مما أمنع منه نفسى، إنما هؤلاء أعوانى وأنصارى، وقد كنت أعطيتنى ألا تعرض لى حتى يأتيك كتاب من ابن زياد» ؛ قال: أجل ولكن هؤلاء لم يأتوا معك [1] .
فقال: «هم أصحابى، وهم بمنزلة من جاء معى، فإن تممت على ما كان بينى وبينك وإلا ناجزتك» . فكفّ عنهم الحر.
وسألهم الحسين عن خبر أهل الكوفة، فقال له مجمّع بن عبد الله العائذى- وهو أحد الأربعة-:«أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، فهب إلب [2] واحد عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإن أفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غدا مشهورة عليك!» .
فقال: هل لكم برسولى إليكم علم؟ فقالوا: من هو؟ قال: قيس ابن مسهر الصيداوى. قالوا: نعم؛ وأخبروه بمقتله، فترقرقت عينا حسين ولم يملك دمعه، ثم قال: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [3]
اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم فى مستقر رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
قال: ودنا الطّرماح من الحسين، فقال له: «والله إنى لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفوا لهم [4] ، وقد رأيت قبل خروجى من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناى فى صعيد واحد جمعا أكثر
[1] من هنا يبدأ ما صار بياضا فى النسخة (ك) وثبت فى النسخة (ن) انظر ص 455.
[2]
الإلب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان، وقد تألبوا أى تجمعوا.
[3]
من الآية 23 من سورة الأحزاب.
[4]
كذا جاء فى المخطوطة وفى تاريخ الطبرى ج 4 ص 306 والكاملى ج 3 ص 281:
منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا ثم يسيّروا إلى الحسين، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم إليهم شبرا إلا فعلت، وإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع فسر حتّى أنزلك مناع جبلنا الذى [1] امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير ومن النّعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، فأسير معك حتّى أنزلك القرية، ثم لتبعث إلى الرجال ممّن بأجأ وسلمى [2] من طيّىء، فو الله لا يأتى عليك عشرة أيام حتّى يأتيك طيىء رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدالك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ يضربون بين يديك بأسيافهم، وو الله لا يوصل إليك أبدا وفيهم عين تطرف!» .
فقال له: جزاك الله وقومك خيرا، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندرى علام تتصرف بنا وبهم الأمور!.
قال الطّرمّاح: فودّعته وقلت: «إنى قد امترت لأهلى ميرة، ومعى نفقة لهم فآتيهم فأصنع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فو الله لأكوننّ من أنصارك» . فقال لى: فإن كنت فاعلا فعجّل رحمك الله.
قال الطّرمّاح: فلما بلغت إلى أهلى وضعت عندهم ما يصلحهم،
[1] فى تاريخ الطبرى: «الذى يدعى أجأ» .
[2]
أجأ وسلمى: جبلان لقبيلة طيىء، وقد ذكر ياقوت «سبب نزول طيىء الجبلين واختصاصهم بسكناهما دون غيرهم من العرب» .
وأوصيت، وأخبرتهم بما أريد، وأقبلت حتى دنوت من عذيب الهجانات [1] ، فأتانى نعى الحسين هناك [2] !.
قال المؤرّخ [3] : ثم مضى الحسين إلى قصر بنى مقاتل [4]، فنزل به. قال عقبة بن سمعان: فلمّا كان آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، فلمّا سرنا ساعة خفق [5] الحسين برأسه خفقة فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
الحمد لله رب العالمين» يعيدها مرّتين أو ثلاثا، فأقبل عليه ابنه علىّ بن الحسين، فاسترجع وحمد الله وقال:«يا أبت، جعلت فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟» . قال: «يا بنىّ، إنى خفقت برأسى خفقة، فعنّ لى فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم. فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا!» قال: يا أبت ألسنا على الحق؟ قال: بلى والّذى إليه مرجع العباد. قال: يا أبت إذن لا نبالى أن نموت محقّين. فقال له: جزاك الله خير ما يجزى ولدا عن والده.
فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجّل الركوب، وسار حتّى انتهى إلى نينوى، والحرّ ومن معه يسايرونه فإذا راكب على نجيب عليه السلاح يمسك قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه،
[1] عذيب الهجانات: موضع بطريق الكوفة.
[2]
زاد ابن الأثير: «فرجع إلى أهله» .
[3]
ابن جرير الطبرى فى تاريخة ج 4 ص 307- 308، وتبعه ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 282.
[4]
فى معجم البلدان لياقوت: «قصر مقاتل: منسوب إلى مقاتل بن حسان بن ثعلبة التميمى» .
[5]
خفق برأسه: حرك رأسه حتى يثبت ذقنة على صدره وهو نائم قاعدا.
فلما انتهى إليهم سلم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلم على الحسين، ودفع إلى الحرّ كتابا من عبيد الله بن زياد:«أمّا بعد، فجعجع [1] بالحسين حين يبلغك كتابى ويقدم عليك رسولى، فلا تنزله إلّا بالعراء فى غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولى أن يلزمك فلا يفارقك حتى يأتينى بإنفاذك أمرى، والسلام» .
فقال الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد، يأمرنى فيه أن أجعجع بكم فى المكان الذى يأتينى فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألّا يفارقنى حتى أنفذ رأيه وأمره.
قال: فأخذهم الحرّ بالنزول فى ذلك المكان على غير ماء ولا قرية، فقالوا: دعنا ننزل فى هذه القرية (يعنون نينوى) أو هذه القرية (يعنون الغاضريّة) أو هذه الأخرى (يعنون شفيّة) . فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل بعث عينا علىّ.
فقال زهير بن القين للحسين: «يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمرى ليأتينّا من بعد ما نرى ما لا قبل لنا به!» فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير: «سرّ بنا إلى هذه القرية حتّى ننزلها فإنها حصينة وعلى شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجىء بعدهم» . فقال له الحسين: أيّة قرية هى؟ قال: العقر. فقال الحسين: اللهم إنى
[1] جعجع بالحسين: ضيق عليه المكان، وقد ذكر صاحب النهاية هذه العبارة من كتاب زياد.
أعوذ بك من العقر! [1] ثم نزل، وذلك يوم الخميس الثانى من المحرّم سنة إحدى وستين.
فلما كان الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبى وقّاص من الكوفة. وكان سبب مسيره لقتال الحسين أن عبيد الله بن زياد كان قد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة، يسير بهم إلى دستبى، وكانت الدّيلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب ابن زياد له عهده على الرّىّ، وأمره بالخروج، فخرج وعسكر بالناس، فلما كان من أمر الحسين ما كان، دعا ابن زياد عمر بن سعد وقال: سر إلى الحسين فإذا فرغنا ممّا بيننا وبينه سرت إلى عملك. فاستعفاه، فقال: نعم، على أن تردّ علينا عهدنا. فلما قال له ذلك قال: أمهلنى اليوم حتّى انظر. فاستشار عمر نصحاءه، فكلّهم نهاه، وأتاه حمزة بن المغيرة بن شعبة- وهو ابن أخته- فقال له:«أنشدك الله يا خالى ألّا تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك! فو الله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلّها- لو كان لك- خير من أن تلقى الله بدم الحسين!» فقال: أفعل إن شاء الله. وبات ليلته مفكرا فى أمره فسمع وهو يقول:
أأترك ملك الرّىّ والرّىّ رغبتى
…
أم أرجع مذموما بقتل حسين
وفى قتله النار التى ليس دونها
…
حجاب، وملك الرى قرّة عين
[1] أنظر معجم البلدان وتاج العروس فى «العقر» و «كربلاء» .
ثم أتى ابن زياد فقال له: إنك قد ولّيتنى هذا العمل وسمع الناس به، فإن رأيت أن تنفذ لى ذلك وتبعث إلى الحسين من أشراف الكوفة من لست أغنى ولا أجزأ عنك فى الحرب منه- وسمّى له أناسا-؛ فقال له ابن زياد: لا تعلمنى بأشراف الكوفة، فلست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث، فإن سرت بجندنا وإلّا فابعث إلينا بعهدنا؛ قال: فإنى سائر. فأقبل فى ذلك الجيش حتى نزل بالحسين فلما نزل به بعث إليه عزرة [1] بن قيس الأحمسى، فقال له:
ائته فاسأله: ما الذى جاء بك؟ وماذا تريد؟ وكان عزرة ممّن كتب إلى الحسين، فاستحيى منه أن يأتيه، فعرض عمر ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلّهم أباه وكرهه.
فقام إليه كثير بن عبد الله، وكان فارسا شجاعا، فقال: أنا أذهب إليه وو الله إن شئت لأفتكنّ به. فقال عمر: ما أريد أن يفتك به ولكن أن تسأله: ما الذى جاء به؟ فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدى قال للحسين: أصلحك الله، قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه. فقام إليه، فقال له: ضع سيفك. قال لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول فإن سمعتم أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم. فقال له رجل: فإنى آخذ بقائم سيفك ثم تكلم بحاجتك. قال: لا والله لا تمسّه. فقال له: أخبرنى ما جئت به وأنا أبلغه عنك ولا أدعك تدنو منه فإنك فاجر. فاستبّا، ثم انصرف إلى عمر فأخبره الخبر.
[1] قال صاحب الإصابة ج 3 ص 105 فى ترجمته: «عزرة بن قيس بن غزية الأحمصى البجيلى....» .
فدعا عمر قرّة بن قيس الحنظلى، فقال له: ويحك يا قرة، الق حسينا فاسأله: ما جاء به؟ وماذا يريد؟ فأتاه فأخبره رسالة ابن سعد، فقال له الحسين: كتب إلىّ أهل مصركم أن أقدم عليهم، فأمّا إذ كرهتمونى فإنى أنصرف عنهم. فانصرف قرّة إلى عمر فأخبره الخبر، فقال عمر: إنى لأرجو أن يعافينى الله من حربه وقتاله.
ثم كتب إلى عبيد الله بن زياد: « [1] أما بعد، فإنى حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولى، فسألته عمّا أقدمه وماذا يطلب وماذا يسأل، فقال: كتب إلىّ أهل هذه البلاد وأتتنى رسلهم فسألونى القدوم ففعلت، فأمّا إذ كرهونى وبدا لهم غير ما أتتنى به رسلهم فأنا منصرف عنهم» .
فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال:
الآن إذ علقت مخالبنا به
…
يرجو النجاة ولات حين مناص
وكتب إلى عمر بن سعد: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد بلغنى كتابك وفهمت ما ذكرت» فاعرض على الحسين أن يبايع يزيد بن معاوية أمير المؤمنين هو وجميع أصحابه، فإذا هو فعل رأينا والسلام» فلما قرأ عمر الكتاب قال: قد أحسست ألّا يقبل ابن زياد العافية.
قال: وكتب ابن زياد إلى عمر بن سعد: «أمّا بعد، فحل
[1] أثبت الطبرى البسملة فى أول هذا الكتاب.
بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فلا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقىّ الزكىّ المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفّان» .
فبعث عمر عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشّريعة، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ومنعوهم أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث.
وناداه عبد الله بن أبى حصين الأزدى: «يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا!» . فقال الحسين: «اللهم اقتله عطشا ولا تغفر له أبدا!» . قال أبو جعفر الطبرى فى تاريخه [1] : قال حميد بن مسلم «والله لقد عدته بعد ذلك فى مرضه، فو الله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتّى يبغر [2] ، ثم يقىء، ثم يعود فيشرب حتّى يبغر، فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غصّته» (يعنى نفسه) .
قال: فلمّا اشتدّ على الحسين ومن معه العطش دعا أخاه العبّاس ابن علىّ، فبعثه فى ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فدنوا من الماء، وقاتلوا عليه، حتّى ملئوا القرب وعادوا بها إلى الحسين.
قال: ثم بعث الحسين إلى عمر بن سعد أن القنى الليلة بين عسكرى وعسكرك. وكان رسوله إليه عمرو بن قرظة بن كعب
[1] ج 4 ص 312.
[2]
يكثر الشرب فلا يروى بسبب داء أصابه.
الأنصارى [1] ، فخرج عمر فى نحو من عشرين فارسا، وأقبل الحسين فى مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بمثل ذلك، فتكلما، فأطالا حتّى ذهب من الليل جانب، ثم انصرف كل منهما إلى عسكره.
قال: وتحدّث الناس فيما بينهم ظنا يظنّونه أن الحسين قال لعمر ابن سعد: اخرج معى إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين. فقال له عمر: إذن تهدم دارى. قال: إذن أبنيها لك. قال: إذن تؤخذ ضياعى. قال: إذن أعطيك خيرا منها بالحجاز. فكره ذلك عمر بن سعد.. فتحدث الناس بذلك من غير أن يكونوا سمعوه.
قال: وذكر جماعة من المحدّثين أن الحسين قال: اختاروا منى خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، وإما أن أضع يدى فى يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بينى وبينه رأيه، وإما أن أن أسير إلى أىّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلا من أهله لى ما لهم وعلى ما عليهم.
وأنكر عقبة بن سمعان هذه المقالة وقال: «صحبت الحسين، فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا فى الطريق ولا بالعراق ولا فى عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس ويزعمون من أن يضع يده فى يد يزيد بن معاوية ولا أن يسيّره إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعونى
[1] الخزرجى، كان أبوه صحابيا من ساكنى الكوفة.
أرجع إلى المكان الذى أقبلت منه، أو دعونى أذهب فى هذه الأرض العريضة حتى ننظر: إلى م يصير أمر الناس؟.
وقيل: التقى الحسين وعمر بن سعد مرارا ثلاثا أو أربعا، فكتب عمر إلى عبيد الله بن زياد:«أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة [1] وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمّة، هذا الحسين قد أعطانى أن يرجع إلى المكان الذى منه أتى، أو أن نسيره إلى ثغر من الثغور شئنا فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتى يزيد أمير المؤمنين فيضع يده فى يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفى هذا لكم رضى وللأمة صلاح» .
فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه، نعم، قد قبلت.
فقام إليه شمر بن ذى الجوشن [2] فقال: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك، والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده فى يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولىّ العقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك، والله لقد بلغنى أن الحسين وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل» .
[1] النائرة: نار الحرب وشرها.
[2]
الجوشن: الدرع أو الصدر، وذو الجوشن: اسمه شرحبيل بن قرط الأعور، وقيل: أوس، ولقب بذلك لانه دخل على كسرى فأعطاه جوشنا. فلبسه، فكان أول عربى لبسه، أو لأنه كان ناتئ الصدر.
فأقبل شمر بكتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد، فقرأه، فقال له عمر:«ما لك؟ ويلك! لا قرّب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علىّ! والله إنى لأظنّك أنت الذى ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرا كنا نرجو أن يصلح، لا يستسلم والله حسين أبدا، والله إن نفسا أبيّة لبين جنبيه!» .
فقال له شمر: أخبرنى ما أنت صانع: أتمضى لأمر أميرك وتقاتل عدوّه وإلّا فخلّ بينى وبين الجند والعسكر؟ فقال: لا، ولا كرامة لك، ولكن أنا أتولّى ذلك.
فنهض إليه عشيّة الخميس لتسع مضين من المحرّم.
وكان شمر لمّا قبض كتاب ابن زياد إلى عمر بن سعد قام هو وعبد الله بن أبى المحلّ، وكانت عمّته أمّ البنين ابنة حزام عند علىّ بن أبى طالب فولدت له العبّاس وعبد الله وجعفرا وعثمان. قال عبد الله:«أصلح الله الأمير، إنّ بنى أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت» . فقال: نعم ونعمة عين [1] فأمر كاتبه فكتب لهم أمانا.
فلمّا نهض عمر إلى الحسين جاء شمر حتّى وقف على أصحاب الحسين فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وعبد الله وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا: ما لك؟ وما تريد؟ قال: أنتم يا بنى أختى آمنون، فقالوا له: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثمّ إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبى وابشرى.
فركب الناس، ثم زحف بهم نحوهم بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته الصيحة، فدنت منه فأيقظته وقالت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت! فرفع الحسين رأسه فقال: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام، فقال لى: إنك تروح إلينا.
فلطمت وجهها وقالت: واويلتاه! فقال: ليس لك الويل يا أخيّة، اسكتى رحمك الله [2] !.
وقال له العبّاس: يا أخى أتاك القوم. فنهض ثم قال: يا عبّاس أركب بنفسى. فقال له العباس: بل أروح أنا. فقال: اركب أنت يا أخى حتّى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم. فأتاهم العباس فاستقبلهم فى نحو عشرين فارسا، فقال لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبى عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم. فوقفوا، وانصرف راجعا يركض إلى الحسين فأخبره الخبر، فقال له الحسين:
ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلنا نصلى لربنا الليلة وندعوه ونستغفره. فرجع العبّاس إليهم فقال: «يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه الليلة، حتّى ينظر فى هذا الأمر، فإن هذا الأمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإمّا رضيناه فأتينا الأمر الّذى تسألوننا وتسومونناه، أو كرهناه فرددناه» .
قال: وإنّما أراد الحسين أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويوصى أهله.
فاستشار عمر بن سعد شمر بن ذى الجوشن فى ذلك، فقال شمر أنت الأمير والرأى رأيك: فأقبل عمر على الناس فقال: ماذا ترون؟
فقال له عمرو بن الحجّاج الزبيدى: سبحان الله! والله لو كان من الدّيلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغى لك أن تجيبهم إليها.
وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك فلعمرى ليصبحنّك
بالقتال غدوة. فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا. أخّرتهم العشيّة..
ثم رجع عنهم.
قال: وجمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد عنهم فقال:
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر:
«لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا!» . بدأهم بهذا لقول العباس بن على، ثم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين:
يا بنى عقيل، حسبكم من الفتك بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم!.
قالوا: «فماذا يقول الناس؟ يقولون: أنا تركنا شيخنا وسيدنا
وبنى عمومتنا خير الأعمام، لم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندرى، ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك!» .
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدى، فقال:«أنحن نتخلّى عنك ولم نعذر إلى الله فى أداء حقك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر فى صدورهم رمحى وأضربهم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى! والله لو لم يكن معى سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت!» .
وقال له سعد بن عبد الله الحنفى: «والله لا نخلّيك، حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، والله لو علمت أنى أحيا ثم أحرق حيّا ثم أذرى- يفعل بى ذلك سبعين مرّة- ما فارقتك حتى ألقى حمامى دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هى قتلة واحدة، ثم هى الكرامة التى لا انقضاء لها أبدا!» .
وقال زهير بن القين: «والله لوددت أنى قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتّى أقتل هكذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك!» .
وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا فى وجه واحد، فقالوا «والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء! ونقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا وأبداننا! فإذا نحن قتلنا وفينا وقضينا ما علينا!» ..
وهذا القول من كلام الحسين وكلامهم مروىّ عن زين العابدين علىّ ابن الحسين رضى الله عنهما.
قال [1] : وسمعته زينب أخته فى تلك الليلة وهو فى خباء له يقول- وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى وهو يعالج سيفه ويصلحه-:
يا دهر أفّ لك من خليل
…
كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل
…
والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل
…
وكلّ حىّ سالك السبيل
فأعاد ذلك مرّتين أو ثلاثا، فلمّا سمعته لم تملك لنفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنها لحاسرة حتّى انتهت إليه فقالت:«واثكلاه! ليت الموت أعدمنى الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمّى وعلىّ أبى وحسن أخى! يا خليفة الماضى وثمال الباقى!» . فنظر إليها وقال: يا أخيّة لا يذهبنّ حلمك الشيطان. قالت: بأبى وأمّى أنت استقتلت نفسى فداؤك! فردّد غصّته، وترقرقت عيناه، ثم قال:«لو ترك القطا ليلا لنام [2] !» . فقالت: «يا ويلتا! أفتغضب نفسك اغتصابا؟
[1] القائل: زين العابدين: قال: إنى جالس فى تلك العشية التى قتل أبى صبيحتها، وعمتى زينب عندى تمرضنى إذ اعتزل أبى بأصحابه فى خباء له، وعنده حوى مولى أبى ذر الغفارى: وهو يعالج سيفه ويصلحه، وأبى يقول: يا دهر أف لك..... الخ.
[2]
تمثل بعجز بيت لحذام ابنة الديان، وله قصة ذكرها الميدانى فى مجمع الأمثال والمفضل بن سلمة فى الفاخر والجاحظ فى الحيوان والعينى فى شواهده الكبرى وذلك أن الديان وقومه جاءهم أعداؤهم ليلا، فلما كانوا قريبا منهم أثاروا القطا- من الطير- فمرت بأصحاب الديان، فخرجت حذام الى قومها فقالت:
ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا
…
فلو ترك القطا ليلا لناما
أى: أن القطا لو ترك ما طار فى هذه الساعة، فقد أتاكم القوم، فقال ديسم بن طارق بصوت عال:-
اذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
وهناك بعض الراويات الأخرى.
فذلك أقرح لقلبى وأشدّ على نفسى!» . ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته، ثم خرّت مغشيا عليها، فقام إليها الحسين فصبّ على وجهها الماء وقال لها:«يا أخيّه، اتقى الله، وتعزّى بعزاء الله، واعلمى أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كلّ شىء هالك إلّا وجهه، الذى خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون وهو فرد وحده، وأبى خير منّى، وأمّى خير منى، وأخى خير منى، ولى ولهم ولكل مسلم أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم!» . فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها:«يا أخيّة، إنى أقسم عليك فأبرّى قسمى، ألّا تشقّى علىّ جيبا [1] ، ولا تخمشى علىّ وجها، ولا تدعى علىّ بالويل والثّبور إذا أنا هلكت» .
ثم خرج إلى أصحابه، فأمرهم أن يقرّبوا بيوتهم بعضها إلى بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فى بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت، فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
قال: وقاموا الليل كلّه يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرّعون.
فلما صلى عمر بن سعد الغداة، وذلك يوم السبت، وهو يوم عاشوراء، وقيل: يوم الجمعة، خرج فيمن معه من الناس.
[1] أخذ ذلك من حديث النبى صلى الله عليه وسلم.
وعبّأ الحسين أصحابه بالغداة [1] ، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فى ميمنته، وحبيب بن مظهّر [2] فى ميسرته، وأعطى رايته العبّاس أخاه، وأمر بحطب وقصب فألقى فى مكان مخفض من ورائهم كأنه ساقيه [3] كانوا عملوه [4] فى ساعة من الليل، وأضرم فيه نارا، لئلّا يؤتوا من ورائهم، فنفعهم ذلك.
وجعل عمر بن سعد على ميمنته عمرو بن الحجاج الزّبيدى، وعلى ميسرته شمر بن ذى الجوشن، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسى، وعلى الرجال شبث بن ربعىّ، وأعطى الراية ذويدا [5] مولاه، وجعل على ربع المدينة عبد الله بن زهير الأزدى، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبى سبرة الحنفى، وعلى ربع تميم وهمدان الحرّ بن يزيد الرّياحى..
فشهد هؤلاء كلّهم مقتل الحسين إلا الحرّ بن يزيد. فإنه عدل إلى الحسين وقتل معه على ما نذكره.
قال: ولما أقبلوا إلى الحسين أمر بفسطاط فضرب، ثم أمر
[1] كذا جاء فى المخطوطة وجاء فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 320 «وصلى بهم صلاة الغداة» .
[2]
اختلفت الكتب فى كتابة هذا الاسم انظر ما سبق، وتاريخ الطبرى والإصابة ج 1 ص 373، 527.
[3]
لم ينقط فى المخطوطة الحرفان الأخيران من هذه الكلمة، وجاء فى تاريخ الطبرى والكامل ج 3 ص 286:«ساقية» وقد تكون: «ساقته» والساقة: مؤخر الجيش.
[4]
حفروه فى ساعة من الليل فجعلوه كالخندق.
[5]
كذا جاء الاسم فى المخطوطة وتاريخ الطبرى: «ذريدا» وجاء فى الكامل:
«دريدا» .