الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال لمعاوية: هل لك فى أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلّا اجتماعا ولا يزيدهم إلّا فرقة؟ قال: نعم. قال: «نرفع المصاحف، ثم نقول لما فيها هذا حكم الله بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغى لنا أن نقبل. فتكون فرقة بينهم، فإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنّا إلى أجل» .
ذكر رفع أهل الشام المصاحف وما تقرر من أمر التحكيم وكتاب القضية
قال: ولما أشار عمرو بن العاص على معاوية برفع المصاحف أمر برفعها، فرفعت بالرماح [1]، وقال [2] :«هذا كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟» .
فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه: «عباد الله، امضو على حقكم وصدقكم قتال عدوّكم [3] ، فإن معاوية وعمرا وابن أبى معيط وحبيبا [4] وابن أبى سرح والضحاك [5] ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال! ويحكم! والله
[1] قال نصر فى وقعة صفين وبن أبى الحديد فى شرح نهج البلاغة: «ربطت المصاحف فى أطراف الرماح» .
[2]
كذا وقع فى المخطوطة، وعند ابن جرير وابن الأثير:«وقالوا» .
[3]
كذا جاء فى رواية ابن جرير ج 4 ص 34، يقال «صدقوا القتال» إذا تصلبوا فيه واشتدوا، ووقع فى المخطوطة:«وقتال» .
[4]
عند ابن جرير: «وحبيب بن مسلمة» وعند ابن أبى الحديد ج 1 ص 184 «وابن مسلمة» .
[5]
عند ابن جرير: «والضحاك بن قيس» .
ما رفعوها إلا خديعة ووهنا [1] ومكيدة!» فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله! فقال لهم علىّ رضى الله عنه:
«فإنّى إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الله [2] ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونسوا عهده، ونبذوا كتابه!» . فقال مسعر بن فدكىّ التميمى وزيد بن حصين الطائى فى عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: «يا على، أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت [إليه] [3] ، وإلا دفعناك [4] برمّتك [5] إلى القوم أو ونفعل بك كما فعلنا بابن عفان!» : قال: «فاحفظوا عنّى نهيى إياكم، واحفظوا مقالتكم لى، [فإن تطيعونى فقاتلوا، وإن تعصونى فاصنعوا] [6] ما بدالكم!» .
قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علىّ يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه، فقال:«ليست هذه الساعة بالساعة التى ينبغى لك أن تزيلنى [فيها] [7] عن موقفى، إنى رجوت أن يفتح الله لى!» .
[1] عند ابن جرير: «ودهنا» والدهن: إظهار خلاف المضمر.
[2]
فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 161 «الكتاب» ، وفى تاريخ ابن جرير «هذا الكتاب» ، وفى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة:«القرآن» .
[3]
ثبتت فى النسخة (ن) ، وسقطت من (ك) .
[4]
عند ابن جرير: «ندفعك» .
[5]
الأصل فى هذا التعبير أن يقال عند تسليم الأسير ونحوه، والرمة: قطعة حبل يشد بها الأسير، أى: يسلمونه إليهم بالحبل الذى شد به تمكينا لهم منه، ثم اتسع فيه حتى قالوا أخذت الشىء برمته، أى: كله.
[6]
كذا جاء فى الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير قريب منه، وجاء فى المخطوطة:«افعلوا» دون بقية الجملة الشرطية.
[7]
الزيادة من ابن جرير.
فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت [1] الأصوات، وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال: «هل رأيتمونى ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟» فقالوا: «ابعث إليه فليأتك، وإلا والله اعتزلناك!» فقال: «ويلك يا يزيد! قل له أقبل إلى، فإن الفتنة قد وقعت!» فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: «والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافا وفرقة، إنها مشورة ابن العاص، ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ أينبغى أن أدع هؤلاء وأنصرف عنهم؟» فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوّه أو يقتل؟ قال: «لا والله! سبحان الله!» فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: «يا أهل العراق، يا أهل الذّلّ والوهن، أحين علوتم القوم وظنّوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها؟ وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه! فأمهلونى فواقا [2] فإنّى قد أحسست بالفتح، قالوا: لا. قال: أمهلونى عدو الفرس فإنى قد طمعت [فى النصر][3] قالوا: إذن ندخل معك فى خطيئتك! قال: «فخبّرونى عنكم متى
[1] عبارة ابن جرير 4 ص 35: «فارتفع الرهج وعلت الأصوات» ، وكذلك قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 186 وزاد:«وظهرت دلائل الفتح والنصر لاهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار على أهل الشام» .
[2]
فى النهاية ولسان العرب: «فواق الناقة» ، والفواق- بفتح الفاء وضمها:- ما بين الحلبتين من الراحة، ولكن لسان العرب تصحفت فيه كلمة «الأشتر» ب «الأسير» .
[3]
الزيادة من ابن جرير ج 4 ص 35 وابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 161 وابن أبى الحديد ج 1 ص 186.
كنتم محقّين؟: أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون! أم أنتم الآن محقّون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم فى النار! فقالوا: «دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله، وندع قتالهم لله!» فقال: «خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السّود [1] ، كنا نظنّ صلاتكم زهادة فى الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحا يا أشباه النّيب الجلّالة [2] ، ما أنتم برائين بعدها عزّا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون!» فسبوه وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم، وضرب وجوه دوابهم بسوطه، فصاح به وبهم علىّ رضى الله عنه، فكفّوا.
وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.
فجاء الأشعث بن قيس إلى على فقال له: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.
قال: إيته. فأتاه فقال: يا معاوية لأىّ شىء رفعتم هذه المصاحف؟
قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به فى كتابه، تبعثون رجلا ترضون، ونبعث رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما فى كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه» . فقال له الأشعث:
«هذا الحق، هذا الحق» . فعاد إلى على فأخبره، فقال الناس:
قد رضينا وقبلنا.
فقال أهل الشام: قد رضينا عمرا. فقال الأشعث وأولئك القوم
[1] ذكر ابن أبى الحديد أنهم «قد اسودت جباههم من السجود» .
[2]
النيب: النوق المسنة، والجلالة التى تأكل البعر.
الذين صاروا خوارج: فإنا قد رضينا بأبى موسى الأشعرى. فقال علىّ رضى الله عنه: «قد عصيتمونى فى أول الأمر، فلا تعصونى الآن، لا أرى أن أولّى أبا موسى» . فقال الأشعث وزيد بن حصين [1] ومسعر بن فدكىّ: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه! قال على «فإنه ليس [لى] [2] بثقة، قد فارقنى وخذّل الناس عنى، ثم هرب منى حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أولّيه ذلك» . قالوا «والله ما نبالى أنت كنت أم ابن عبّاس، لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء [3] » . قال على: فإنى أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعّر [4] الأرض غير الأشتر؟ قال: قد أبيتم إلا أبا موسى.
قالوا: نعم: قال: فاصنعوا ما أردتم! فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض [5] فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال الحمد لله. قال: قد جعلوك حكما. قال: [إنا لله وإنا إليه راجعون [6]] وجاء أبو موسى حتى دخل فى العسكر.
وجاء الأشتر عليا فقال: ألزّنى [7] بعمرو بن العاص، فو الله لئن ملأت عينى منه لأقتلنه!.
[1]«حصن» كذا جاء هنا فى المخطوطة، وهو الموافق لما فى الإصابة ج 1 ص 565، وجاء فيما سبق «حصين» وهو الموافق لما عند الطبرى وابن الأثير.
[2]
الزيادة من ابن جرير الطبرى.
[3]
زاد ابن جرير: «ليس إلى واحد منكا بأدنى منه إلى الآخر» .
[4]
سعر الأرض: أشعل فيها نار الحرب.
[5]
قال ابن أبى الحديد ج 1 ص 189 «وهو بأرض من أرض الشام يقال لها عرض» .
[6]
من الآية 156 فى سورة البقرة.
[7]
ألزنى: شدنى وألصقنى بعمرو بن العاص.
وجاء الأحنف بن قيس فقال: «يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر الأرض [1] ، وإنّى قد عجمت [2] أبا موسى وحلبت أشطره [3] ، فوجدته كليل الشفرة [4] قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير فى أكفّهم ويبعد عنهم حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلنى حكما فاجعلنى ثانيا أو ثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحلّ عقدة أعقدها إلا عقدت [لك] [5] أخرى أحكم منها!» . فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب، فقال الأحنف بن قيس: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علىّ لتكتب القضيّة بحضوره، فكتبوا «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين» فقال عمرو: [7] هو أميركم أمّا أميرنا فلا. فقال له الأحنف:
لا تمح اسم أمير المؤمنين فإنى أتخوّف إن محوتها ألّا ترجع إليك أبدا، لا تمحها وإن قتل [الناس][8] بعضهم بعضا، فأبى ذلك علىّ
[1] جاء فى النهاية ولسان العرب: «فى حديث الأحنف: قال لعلى حين ندب معاوية عمرا للحكومة: لقد رميت بحجر الأرض، أى: بداهية عظيمة تثبت ثبوت الحجر فى الأرض»
[2]
عجمت: عرفت.
[3]
أى: اختبر أحواله من خير وشر وحلو ومر تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة ما كان منها حفلا وغير حفل ودارا وغير دار.
[4]
الكيل: الذى لا يقطع. الشفرة: المدية، كما جا فى بعض الروايات.
[5]
روى ابن جرير هذه الكلمة فى هذا الموضع وجاءت فى المخطوطة بعد «أعقدها» .
[6]
فى النسخة (ك) : «ليكتب» .
[7]
زاد ابن جرير وابن كثير فى أول كلام عمرو بن العاص: أكتب اسمه واسم أبيه» .
[8]
الزيادة من ابن جرير ابن والأثير.
مليّا من النهار، ثم قال الأشعث بن قيس: امج هذا الاسم. فمحى، فقال علىّ رضى الله عنه:«الله أكبر! سنّة بسنة، والله إنّى لكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: «محمد رسول الله» فقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرنى رسول الله عليه الصلاة والسلام بمحوه، فقلت:
لا أستطيع. فقال أرنيه. فأريته فمحاه بيده وقال: إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب!» . فقال عمرو: «سبحان الله! أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون؟» فقال علىّ رضى الله عنه: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين وليّا وللمؤمنين عدوا؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بينى وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبدا! فقال علىّ: إنى لأرجو أن يطهّر الله مجلسى منك ومن أشباهك.
وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان، قاضى علىّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، أنّا ننزل عند حكم الله وكتابة، وألّا يجمع بيننا غيره، وأنّ كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيى ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان فى كتاب الله- وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص- عملا به، وما لم يجدا فى كتاب الله تعالى فالسّنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة. وأخذ الحكمان من علىّ رضى الله عنه ومن معاوية ومن الجند من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمّة لهما أنصار على الذى يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمّة ولا يردّاها فى حرب ولا فرقة حتّى
يعصيا، وأجّلا القضاء إلى رمضان، وإن أحبّا أن يؤخرا ذلك أخّراه، وإن مكان قضيّتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وشهد جماعة من الطائفتين.
وقيل للأشتر: لتكتب [1] فيها. فقال: «لا صحبتنى يمينى ولا نفعتنى بعدها شمالى إن خطّ لى فى هذه الصحيفة خط! أو لست على بيّنة من ربّى من ضلال عدوّى؟ أو لستم قد رأيتم الظّفر؟» .
فقال له الأشعث: ما رأيت ظفرا هلمّ إلينا فإنه لا رغبة بك عنّا.
قال: وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مرّ على طائفة من بنى تميم، فيهم عروة بن أديّه (أخو أبى بلال) فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكّمون فى أمر الله الرجال، لا حكم إلّا لله. ثم شدّ بسيفه فضرب به عجز دابّة الأشعث ضربة خفيفة، واندفعت الدابّة، وصاح به أصحاب الأشعث فرجع.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين.. واتفقوا أن يكون اجتماع الحكمين بدومه الجندل [2] ، أو بأذرح [3] ، فى شهر رمضان.
[1] فى الكامل لابن الأثير.: «ليكتب» .
[2]
دومة الجندل: موضع بين الشام والمدينة المنورة.
[3]
أذرح: بلد فى أطراف الشام، كما قال ياقوت، وقد كرر ذكر الخلاف فى الموضعين، وستأتى فى «ذكر اجتماع الحكمين» عبارة تفيد اتصال أذرح بدومة الجندل.
قال: وقيل لعلىّ: إن الأشتر لا يقرّ بما فى الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم. فقال علىّ رضى الله عنه: «وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذ أبيتم إلّا أن ترضوا فقد رضيت، وإذ رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار، إلّا أن يعصى الله ويتعدّى كتابه، فتقاتلوا من ترك أمر الله. وأمّا الذى ذكرتم من تركه أمرى وما أنا عليه فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين، يا ليت فيكم مثله واحدا يرى فى عدوى ما أرى، إذن لخفّت علىّ مؤنتكم، ورجوت أن يستقيم لى بعض أودكم [1] ، وقد نهيتكم فعصيتمونى، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن [2] :
وهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
والله لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوّة، وأسقطت منّة، وأورثت وهنا وذلّة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوّكم الاجتياح، واستحرّ [3] بهم القتل، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم، ويقطعوا الحرب، ويتربّصوا بكم ريب
[1] الأود: العوج.
[2]
أخو هوازن: دريد بن الصمة معاوية الأصغر بن الحارث بن معاوية الأكبر بن بكر بن علقة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، شاعر فارس جاهلى، أدرك الإسلام فلم يسلم، ويخرج مع قومه هوازن فى يوم حنين مظاهرا للمشركين، وكان شيخا كبيرا فانيا ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته للحرب فقتل يومئذ على شركه
…
والبيت من قصيدته الدالية الطويلة التى رئى بها أخاه عبد الله، وهى فى الأغانى ج 10 ص 8- 9 من طبع دار الكتب المصرية والحماسة بشرح المرزوقى ج 2 ص 812- 821 والأصمعيات ص 111- 115 وجمهرة أشعار العرب ص 224- 227، وسيأتى تمثل ببيت آخر من هذه القصيدة.
[3]
استحر: اشند وكثر.
المنون، خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم [ما سألوا][1] ، وأبيتم إلّا أن تدهنوا وتحيروا [2] ، وايم الله ما أظنّكم بعدها توفّقون لرشد، ولا تصيبون باب حزم» .
قال: ثم تراجع الناس عن صفّين.
هذا ما أورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه، وهو الذى اعتمد عليه عز الدين على بن محمد ابن الأثير الموصلى فى تاريخة (الكامل) ، من حرب [3] صفّين، وقد أسقطنا بعض ما أورداه، وأتينا بألفاظ لم يأتيا بها نسبناها إلى من حكاها
…
وأخبار أيام صفّين كثيرة، قد بسط أهل التاريخ فيها القول، وذكروا ما اتفق فى أيامها يوما يوما، رأينا ترك ذلك والإغضاء عنه أولى، وكنا نؤثر ألّا نلمّ بذكر أيام صفّين ولا وقعة الجمل، وإنما ضرورة التاريخ دعت إلى ذلك.
وحكى أبو عمر بن عبد البر فى ترجمة بسر بن أرطاة من كتابه الاستيعاب [4] : أنّ معاوية أمر بسر بن أرطاة بن أبى أرطاة، وكان معه بصفّين أن يلقى عليّا فى القتال، وقال له:«سمعتك تتمنّى لقاءه، فلو أظفرك الله وصرعته حصلت على دنيا وآخرة» ، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه، حتّى رآه فقصده فى الحرب، قال: وكان
[1] الزيادة من ابن جرير وابن الأثير.
[2]
كذا جاء فى المخطوطة، وجاء عند ابن جرير ج 4 ص 40 «وتجوزوا» وعند ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 163 «وتجيروا» .
[3]
كذا جاء فى النسخة (ك) . وفى النسخة (ن) : «خبر» .
[4]
ج 1 ص 160.
بسر بن أرطاة من الأبطال الطّغاة، فالتقيا، فصرعه علىّ، وعرض له معه مثل ما عرض- فيما ذكر- لعلىّ مع عمرو بن العاص. قال وذكر ابن الكلبى فى كتابه فى أخبار صفّين أن بسر بن أرطاة بارز عليا يوم صفّين، فطعنه علىّ فصرعه، فانكشف له، فكفّ عنه، كما عرض له- فيما ذكروا- مع عمرو بن العاص، ولهم فيها أشعار مذكورة فى موضعها من [ذلك][1] الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبى والمدائنى قول الحارث بن النضر السّهمى [2]- وكان عدوا لعمرو ابن العاص وبسر بن أرطاة-:
أفى كلّ يوم فارس ليس ينتهى
…
وعورته بين العجاجة [3] باديه
يكفّ لها [4] عنه علىّ سنانه
…
ويضحك منه [5] فى الخلاء معاويه
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه
…
وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمرو ثم بسر [6] : ألا انظرا
…
سبيلكما، لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلّا الحيا وخصاكما
…
هما كانتا والله للنّفس واقيه
ولولاهما لم تنجوا من سنانه
…
وتلك بما فيها عن العود ناهيه
وكونا [7] بعيدا حيث لا تبلغ القنا
…
نحوركما إنّ التّجارب كافيه
[1] الزيادة من الاستيعاب، والاشارة إلى كناب ابن الكلبى.
[2]
شاعر من الصحابة، انظر الإصابة ج 1 ص 291.
[3]
العجاجة: ما أثير من الغبار حتى يكسو كل شىء جاء عليه، ورعاع الناس
…
وفى الاستيعاب: «وسط العجاجة» .
[4]
فى شرح ابن أبى الحديد لنهج البلاغة ج 2 ص 301: «بها» .
[5]
فى لاستيعاب وشرح ابن أبى الجديد: «منها» .
[6]
عند بن أبى الحديد: «فقر لا لعمرو وابن أوطأة: «ابصرا» .
[7]
قبل هذا بيت عن ابن عبد البر وابن أبى الحديد، وهو:
متى تلقيا الخيل المغيرة صحيحه
…
وفيها على فاقركا الخيل ناحية.
قال أبو عمر: إنّما كان انصراف علىّ عنهما وعن أمثالهما من مصروع أو منهزم؛ لأنه كان لا يرى فى قتال الباغين عليه من المسلمين أن يتّبع مدبرا ولا يجهز على جريح ولا يقتل أسيرا، وتلك عادته فى حروبه فى الإسلام، رضى الله عنه.
وروى أبو عمر ابن عبد البر أيضا بسند يرفعه إلى يزيد ابن حبيب قال: اصطحب قيس بن خرشه، وكعب الأحبار، حتّى إذا بلغا صفّين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال:«لا إله إلا الله، ليهراقنّ بهذه البقعة من دماء المسلمين شىء لم يهرق ببقعة من الأرض» فغضب قيس وقال: «وما يدريك يا أبا إسحاق؟ فإنّ هذا من الغيب الذى استأثر الله به» فقال كعب: ما من شبر من الأرض إلّا وهو مكتوب فى التّوراة التى أنزل الله على نبيّه موسى بن عمران عليه السلام ما يكون عليه إلى يوم القيامة.
واختلف فى عدّة من شهد صفّين، فقيل: كان جيش علىّ رضى الله عنه تسعين ألفا، وجيش معاوية مائة وعشرين ألفا، وقيل:
أقل من ذلك [1] .
وقتل من العراق خمسة وعشرون ألفا، منهم عمّار بن ياسر وخمسة وعشرون بدريّا، وقتل من عسكر معاوية خمسة وأربعون ألفا.
قال، ولمّا رجع علىّ رضى الله عنه إلى الكوفة خالفه الحروريّة وأنكروا تحكيم الرجال، وكان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله فى أخبار
[1] الاستيعاب ج 12 ص 242.