الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قتال الخوارج
قيل: كان سبب ذلك أن الخوارج من البصرة لما دنوا من من النهروان رأوا رجلا يسوق بامرأة على حمار، فدعوه وانتهروه فأفزعوه، وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له: أفزعناك! قال: نعم قالوا لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال:
حدثنى أبى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسى فيها مؤمنا ويصبح كافرا، ويصبح مؤمنا ويمسى كافرا
، قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول فى أبى بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. فقالوا: ما تقول فى عثمان فى أوّل خلافته وفى آخرها؟ قال: إنه كان محقّا فى أولها وآخرها، قالوا: فما تقول فى علىّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: أقول إنه أعلم بالله منكم، وأشدّ توقّيا على دينه، وأنفذ بصيرة. قالوا: إنك تتبع الهوى وتوالى الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا، فأخذوه وكتفوه، ثم أقبلوا بامرأته وهى حبلى متمّ [1] حتى نزلوا تحت نخل مواقر، فسقطت رطبة، فأخذها أحدهم فتركها فى فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن. فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا له: هذا فساد فى الأرض. فلقى صاحب الخنزير فأرضاه. فلما رأى عبد الله
[1] حبل متم: قريبة الوضع.
ابن خبّاب ذلك منهم قال: «إن كنتم صادقين فيما أرى فما على منكم من بأس، إنّى مسلم ما أحدثت فى الإسلام حدثا، ولقد أمنتمونى، فقلتم: لا روع عليك» فأضجعوه فذبحوه، وأقبلوا إلى المرأة فقالت:
أنا امرأة، ألا تتقون الله. فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طيىء، وقتلوا أمّ سنان الصيداوية.
فلما بلغ عليّا رضى الله عنه ذلك بعث إليهم الحارث بن مرّة العبدىّ ليأتيهم، وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه، فلما دنا منهم يسألهم قتلوه. وأتى الخبر إلى على، فقال له الناس:«يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا فى عيالنا وأموالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا من أهل الشام» . فأجمع علىّ رضى الله عنه على ذلك، وخرج وسار إليهم. فأرسل إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم أقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافّ عنكم حتّى ألقى أهل المغرب، فلعل الله يقبل قلوبكم [1]، ويردّكم إلى خير مما أنتم عليه [من أمركم] [2] فقالوا: كلّنا قتلهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم. فراسلهم مرة بعد أخرى.
وخرج إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فكلّمهم ونصحهم، وأشار عليهم بالمراجعة والدخول فيما خرجوا منه، فأبوا. وخطبهم أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه وحذّرهم تعجيل الفتنة. وأتاهم علىّ رضى الله عنه فكلّمهم ووعظهم وذكرهم. فتنادوا: «لا تخاطبوهم
[1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل الكامل لابن الأثير، وجاء فى ابن جرير الطبرى «يقلب قلوبكم» .
[2]
ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) . وسقطت من (ك) .
ولا تكلمّوهم، وتهيئوا للقاء الله، الرواح الرواح إلى الجنة» .
فعاد علىّ عنهم.
ثم إن الخوارج قصدوا الجسر، فقال أصحاب علىّ له: إنهم عبروا النهر، فقال: لن يعبروه، فأرسلوا طليعة، فعاد. وأخبر [1] أنهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد، فقال: قد عبروا النهر. فقال علىّ رضى الله عنه: «والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، وو الله لا يقتل منكم عشرة، ولا يسلم منهم عشرة» . وتقدم علىّ إليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكّوا فى قوله وارتاب به بعضهم، فلما رأوهم لم يعبروا كبّروا وأخبروا عليّا رضى الله عنه بحالهم، فقال والله ما كذبت ولا كذبت.
ثم عبّأ أصحابه، فجعل على ميمنته حجر بن عدىّ، وعلى ميسرته شبث بن ربعىّ أو معقل بن قيس الرّياحى، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصارى رضى الله عنه، وعلى الرّجالة أبا قتادة الأنصارىّ رضى الله عنه، وعلى أهل المدينة- وهم سبعمائة أو ثمانمائة. قيس بن سعد ابن عبادة رضى الله عنه.
وعبأت الخوارج فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائى، وعلى الميسرة شريح بن أبى أوفى العبسىّ، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدىّ، وعلى رجّالتهم حرقوص بن زهير السّعدىّ.
وأعطى علىّ رضى الله عنه أبا أيّوب الأنصارىّ راية أمان، فناداهم
[1] كذا جاء فى النسخة (ن) وهو المناسب لما يأتى بعده، وفى النسخة (ك) :«فعادوا وأخبروا» .
أبو أيوب فقال: «من جاء هذه الراية فهو آمن ممّن لم يقتل ولم يتعرض، ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن، لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم فى سفك دمائكم» . فقال فروة بن نوفل الأشجعىّ: «والله ما أدرى على أى شىء نقاتل عليا؟: أرى أن أنصرف حتى تتضح لى بصيرتى فى قتاله، أو أتابعه» . فانصرف فى خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين [1] والدّسكرة، وخرجت طائفة أخرى متفرقين فنزلوا الكوفة.
وخرج إلى علىّ رضى الله عنه نحو مائة، وكان الخوارج فى أربعة آلاف؛ فبقى مع عبد الله بن وهب ألف وثمانمائة، فزحفوا إلى علىّ رضى الله عنه وكان قد قال لأصحابه: كفّوا عنهم حتى يبدءوكم.
فتنادوا. الرواح إلى الجنة. فحملوا على الناس فافترقت خيل علىّ فرقتين، فرقة نحو الميمنة، وفرقة نحو الميسرة،، فاستقبلت الرماة وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسّيوف فما لبثوا أن أناموهم، فلما رأى حمزة بن سنان الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يلبثوا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس، وجاءتهم الخيل من نحو علىّ فأهلكوا فى ساعة، فكأنّما قيل لهم موتوا فماتوا.
قال: وأخذ علىّ ما فى عسكرهم من شىء، فأما السّلاح والدّواب
[1] كذا جاء عند الطبرى وابن الأثير وياقوت وغيرهم. قال ياقوت: هى بلدة مشهورة فى طرف النهروان من ناحية الجبل. وفى المخطوطة: «البندجين» .
وما شهر [1] عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه ردّه على أهله حين قدم.
وطاف عدىّ بن حاتم فى القتلى على ابنه طرفة، فدفنه، ودفن رجال قتلاهم، فقال علىّ حين بلغه ذلك تقتلونهم ثم تدفنونهم! ارتحلوا. فارتحل الناس ولم يقتل من أصحاب علىّ إلا سبعة؛ منهم يزيد بن نوبرة وله صحبة [2] وسابقة.
وهؤلاء الخوارج هم الذين ورد فى أمرهم فى الصحيح [الحديث][3]
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قوما يخرجون يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة [4] علامتهم رجل مخدج اليد [5] »
فالتمسه علىّ فى القتلى فوجده، فنظر فى عضده فإذا لحم مجتمع كثدى المرأة، وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدّت امتدت حتى تحاذى يده الطّولى، ثم تترك فتعود إلى منكبه. وكان علىّ رضى الله عنه يحدّث الناس بهذا الحديث قبل وقعة الخوارج [6] .
[1] كذا جاء فى المخطوطة، مثل ما فى الكامل لابن الأثير، وجاء فى تاريخ الطبرى «وما شهدوا به عليه الحرب» .
[2]
انظر الاستيعاب ج 3 ص 655 وأسد الغابة ج 5 ص 122 والإصابة ج 3 ص 664.
[3]
ثبتت هذه الكلمة فى النسخة (ن) وسقطت من (ك) .
[4]
أى يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشىء المرمى به ويخرج منه.
[5]
مخدج اليد: ناقص اليد.
[6]
انظر فى صحيح البخارى «كتاب استتابة المرتدين» ومن أبوابه «باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» و «باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن ينفر الناس عنه» وقد روى بسنده عن على رضى الله عنه الحديث «سيخرج قوم.» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما «أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية:
أسمعت النبى صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أدرى ما الحرورية؟ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج فى هذه الأمة- ولم يقل: منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية» وروى أيضا بسنده عن أبى سلمة عن أبى سعيد قال (
…
آيتهم رجل إحدى يديه أو قال ثدييه مثل ثدى المرأة أو قال مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس قال أبو سعيد: أشهد أنى سمعت من النبى صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جىء بالرجل على النعت الذى نعته النبى صلى الله عليه وسلم» وانظر حديث (ذى الثدية) عند ابن أبى الحديد ج 1 ص 202- 205 وانظر فى النهاية ولسان العرب شرحه فى المواد: خ د ج، ود ن، ث د ن، ث د ى، م ر ق، ر م ى، د ر د ر.
وقيل كانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثلاثين.
قال: ولمّا فرغ علىّ رضى الله عنه من هذه الوقعة حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنّ الله قد أحسن بكم، وأعزّ نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم. قالوا:«يا أمير المؤمنين، نفدت سهامنا، وكلّت سيوفنا، ونصلت [1] أسنة رماحنا وعاد أكثرها قصدا [2] ، فارجع إلى مصرنا. فلنستعدّ [بأحسن عدّتنا] [3] ولعل أمير المؤمنين يزيد فى عدّتنا فإنه أقوى لنا على عدوّنا» . وكان الذى تولّى كلامه الأشعث بن قيس، فأقبل حتّى نزل النّخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطّنوا على الجهاد لعدوهم أنفسهم، وأن يقلوا زيارة أبنائهم ونسائهم حتّى يسيروا إلى عدوّهم. فأقاموا فيه أياما ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلّا رجالا من وجوه الناس وترك العسكر خاليا.
فلما رأى علىّ ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه فى المسير. وخطبهم مرة بعد أخرى، وحثّهم على الخروج إلى الشام فلم يتهيأ له ذلك. وحيث
[1] فصلت: خرجت.
[2]
قصدا: قطعا.
[3]
الزيادة من رواية ابن جرير الطبرى.