الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انهضوا، عزلته عنكم واطلبوا واليا ترضونه، فلم يبق من القوم رجل إلا أتى رجلا من بنى أميّة أو من أهل الشام، والأحنف لم يبرح من منزله ولم يأت أحدا، فلبثوا أيّاما، ثم جمعهم معاوية، وقال لهم: من اخترتم فاختلفت كلمتهم [1] ، والأحنف ساكت، فقال [2] : مالك لا تتكلم؟
فقال: «إن ولّيت علينا أحدا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا، وإن ولّيت غيرهم فانظر فى ذلك» . فردّه معاوية عليهم، وأوصاه بالأحنف وقبح رأيه فى مباعدته.
وحج بالناس فى هذه السنة عثمان بن محمد بن أبى سفيان، وفيها توفى سعيد بن العاص.
سنة ستين ذكر وفاة معاوية بن أبى سفيان وما أوصى به عند وفاته
كانت وفاته بدمشق فى شهر رجب من هذه السّنة، قيل: فى مستهلّه، وقيل: فى النصف منه، وقيل: لأربع بقين منه، وقيل:
فى يوم الخميس لثمان بقين من شهر رجب سنة تسع وخمسين [3] قال [4] : وكان معاوية قد خطب الناس قبل موته فقال: «إنى
[1] سمى كل فريق منهم رجلا.
[2]
معاوية.
[3]
تبع فى ذلك ما جاء فى الاستيعاب ج 3 ص 398، وعبارة الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 239:«وقال على بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة 60 يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حدثنى بذلك الحارث عنه» وقال الطبرى قبيل هذا: «اختلف فى وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان فى سنة 60 وفى رجب منها» .
[4]
ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 259.
لزرع [1] مستحصد [2] وقد طالت إمرتى عليكم حتى مللتكم ومللتمونى، وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقى، لن يأتيكم بعدى إلا من أنا خير منه، كما أن من كان قبلى كان خيرا منى، وقد قيل:
من أحب لقاء الله أحب لله لقاءه، اللهم إنى أحببت لقاءك فأحبب لقائى وبارك لى فيه» . فلم يمض غير قليل حتى ابتدأ به مرضه الذى مات فيه.
قال [3] ولمّا مرض [4] دعا ابنه يزيد وقال: «يا بنى إنى قد كفيتك الشّدّ والتّرحال، ووطّأت لك الأمور، وذللت الأعداء، وأخضعت؛ لك رقاب العرب، وجمعت لك ما لم يجمعه أحد، فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كلّ يوم عاملا فافعل، فإنّ عزل عامل أيسر من أن يشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك [5] ، فإن رابك [6] من عدوّك شىء فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغيرها تغيرت أخلاقهم، وإنى لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزّبير وعبد الرحمن بن أبى بكر، فأمّا ابن عمر فرجل قد
[1] فى الكامل: «كزرع» .
[2]
استحصد الزرع: حان أن يحصد.
[3]
ابن الأثير فى الكامل، وأصله فى تاريخ الطبرى ج 4 ص 238.
[4]
قال الطبرى: «مرض مرضته التى هلك فيها» .
[5]
عيبتك: موضع سرك.
[6]
كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل، وجاء فى تاريخ الطبرى «نابك» .
وقذته [1] العبادة، فإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأمّا الحسين فإنه رجل خفيف، ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا ابن أبى بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله [2] ليست له همّة إلّا فى النساء واللهو، وأما الذى يجثم لك جثوم الأسد، ويرواغك مراوغة الثعلب، فإن أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إربا إربا، واحقن دماء قومك ما استطعت» .. هكذا فى هذه الرواية [3] ذكر عبد الرحمن بن أبى بكر، والصحيح أنه مات [4] قبل معاوية.
وقيل إن يزيد كان غائبا فى مرض أبيه وموته، وأن معاوية أحضر الضحاك بن قيس ومسلم بن عقبة المرّىّ وأمرهما أن يؤديّا عنه هذه الرسالة إلى يزيد ابنه. وصححه ابن الأثير.
قيل: ولما اشتدّت علّته وأرحف به قال لأهله؛: احشوا عينى إثمدا وادهنوا رأسى، ففعلوا وبرّقوا وجهه [5] ، ثم مهّد له مجلس
[1] وقذته: غلبته.
[2]
فى تاريخ الطبرى: «مثلهم» ، والذى جاء هنا مثل الكامل.
[3]
وذكر ابن جرير رواية ثانية فيها قول معاوية: «وإنى لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن على وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير» .
[4]
وذكر ابن حبان أن عبد الرحمن بن أبى بكر مات سنة ثمان وستين، وقيل غير ذلك كما سبق.
[5]
عند ابن جرير وابن الأثير: «برقوا وجهه بالدهن» .
وأذن للناس، فدخلوا وسلموا قياما ولم يجلس أحد، فلما خرجوا تمثل بقول الأول وهو الهذلى [1] :
وتجلّدى للشّامتين أريهمو
…
أنّى لريب الدهو لا أتضعضع
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها
…
ألفيت كلّ تميمة [2] لا تنفع
ومات فى يومه.
وكان يتمثّل- وقد احتضر [3]-:
فهل من خالد إمّا هلكنا؟
…
وهل بالموت يا للنّاس عار؟
وروى محمد بن عبد الله بن الحكم قال: سمعت الشافعىّ رضى الله عنه يقول: لمّا ثقل معاوية كان يزيد غائبا، فكتب إليه بحاله فلمّا أتاه الرسول أنشأ يقول:
جاء البريد بقرطاس يخبّ به [4]
…
فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل! ماذا فى صحيفتكم
…
قال: الخليفة أمسى مثبتا [5] وجعا
[1] هو أبو ذؤيب الهذلى يرثى بنين له ماتوا فى عام واحد بقصيدة مشهورة تجدها فى أول ديوان الهذليين، وانظر المفضلية 125 فى المفضليات وجمهرة أشعار العرب ص 264- 273 والاستيعاب ج 4 ص 67 والإصابة ج 4 ص 65 وشواهد العينى ج 3 ص 393- 394 وخزانة الأدب ج 1 ص 202 وحماسة البحترى ص 99، 128 وأمالى القالى مع شرح البكرى فى سمط اللآلى ج 2 ص 288- 289.
[2]
التميمة: ما يعلقه بعض الناس على أولادهم لاتقاء العين والحسد بزعمهم.
[3]
وبلغه أن قوما يفرحون بموته.
[4]
القرطاس: الصحيفة. والخبب: السير السريع.
[5]
المثبت: الذى لا يفارق الفراش لثقل مرضه.
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا
…
كأنّ ثهلان [1] من أركانه انقلعا
أودى ابن هند [2] وأودى المجد يتبعه
…
كانا جميعا وظلّا يسريان معا
لا يرفع الناس ما أوهى [3] وإن جهدوا
…
أن يرفعوه، ولا يوهون ما رفعا
أغرّ أبلج [4] يستسقى الغمام به
…
لو قارع الناس عن أحلامهم قرعا
والبيتان [5] الأخيران للأعشى.
قال: فلمّا وصل إليه وجده مغمورا فأنشأ يقول:
لو عاش حىّ إذا لعاش إما
…
م الناس لا عاجز ولا وكل [6]
الحوّل القلّب الأريب [7] ولن
…
يدفع ريب المنيّة الحيل
[1] ثهلان: جبل.
[2]
أودى: هلك. وهند: أم معاوية.
[3]
أوهاه: أضعفه وأسقطه.
[4]
الأغر: السيد الشريف فى قومه. والأبلج: الذى يكون طلق الوجه مضيئه.
[5]
هذا من قول الإمام الشافعى كما فى الاستيعاب ج 3 ص 399 وهما البيتان 72، 51 من عينيه الأعشى فى ديوانه ص 111، 107 وجاء أولهما بلفظ:
لا يرفع الناس ما أوهى وإن جهدوا
…
طول الحياة ولا يوهون ما وقعا
وجاء ثانيهما بلفظ:
أغر أبلج يستسقى الغمام به
…
لو صارع الناس عن أحلامهم صرعا
[6]
الوكل: البليد الذى يكل أمره إلى غيره.
[7]
الحول: البصير بالحيل وتحويل الأمور. والقلب: البصير بتقلب الأمور. والأريب: العاقل.
قال فأفاق معاوية وقال: يا بنى إنّى صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج لحاجته، فاتبعته بإداوة [1] ، فكسانى أحد ثوبيه الذى يلى جلده، فخبّأته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من أظافره وشعره ذات يوم، فأخذته وخبّأته لهذا اليوم، فإذا أنا متّ فاجعل ذلك القميص دون كفنى ممّا يلى جلدى، وخذ ذلك الشعر والأظافر فاجعله فى فمى وعلى عينى ومواضع السجود منى، فإن نفع شى فذاك، وإلّا فإن الله غفور رحيم.
وهذه الرواية تدل على أن يزيد أدركه قبل وفاته، وقد قيل: إنه أوصى بها غير يزيد [2] والله أعلم.
قال ابن الأثير: وتمثل معاوية عند موته بشعر الأشهب بن زميلة [3] النّهشلى [4] :
[1] الإداوة: إناء صغير من جلد.
[2]
ذكر الطبرى فى إحدى روايات تاريخه ج 4 ص 242 أن معاوية مات ويزيد بحوارين.
وكانوا اكتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه ودعا له، ثم أتى منزله، وانظر ما يأتى.
[3]
كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير «زميله» بالزاى، كما نص عليه العينى فى شواهده الكبرى ج 1 ص 482 تابعا للمرزبانى فى معجم الشعراء، وفى أكثر الكتب «رميلة» بالراء، كما نص عليه صاحب خزانة الأدب ج 2 ص 509 وتراه فى تاريخ الطبرى وأمالى القالى وسمط اللالى والبيان والتبيين والحيوان، وانظر ترجمة الأشهب بن رميلة فى الأغانى ج 9 ص 269 (طبع دار الكتب المصرية) والإصابة ج 1 ص 107.
[4]
قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 241: شعر الأشهب بن رميلة النهشلى يمدح به القباع.
إذا متّ مات الجود وانقطع النّدى
…
من الناس إلّا من قليل مصرّد [1]
وردّت أكفّ السائلين وأمسكوا
…
من الدّين والدنيا بخلف مجدّد [2]
فقالت إحدى بناته: كلّا يا أمير المؤمنين بل يدفع الله عنك.
فقال متمثّلا:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها......
(البيت) وقال لأهله:
اتّقوا الله فإنه لا واقى لمن لا يتّقى الله! ثمّ قضى [3] وأوصى أن يردّ نصف ماله إلى بيت المال [4] .
وأنشد لما حضرته الوفاة:.
إن تناقش يكن نقاشك يا ربّ
…
ب عذابا، ولا طوق لى بالعذاب
أو تجاوز فأنت رب صفوح
…
عن مسيىء ذنوبه كالتراب
قال: ولمّا مات خرج الضحّاك بن قيس حتّى صعد المنبر، وأكفان معاوية على يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إنّ معاوية كان
[1] مصرد: مقلل، ففيه مبالغة فى القلة.
[2]
الخلف: ضرع والفرس والناقة ونحوهما، والمجدد: الذاهب اللبن، والمعروف بهذا المعنى فى هذه المادة «الأجد» و «المتجدد» .
[3]
قضى: مات.
[4]
قال الطبرى فى تاريخه ج 4 ص 242 وابن لأثير فى الكامل ج 3 ص 260 «كأنه أراد أن يطيب له الباقى، لأن عمر قاسم عماله» .
عود [1] العرب، وحدّ [2] العرب، وجدّ [3] العرب، قطع الله به الفتنة، وملّكه على العباد، وفتح به البلاد، ألا إنه قد مات، وهذه أكفانه ونحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلّون بينه وبين عمله، ثمّ هو البرزخ إلى يوم القيامة! فمن كان يريد أن يشهده فعند الأولى» .. قال: وصلى عليه الضحاك لغيبة يزيد، وكان بحوّارين [4] فقدم بعد دفنه فصلّى على قبره.
وكان ملكه تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيّاما تقريبا منذ خلص له الأمر.
وكان عمره خمسا وسبعين سنة، وقيل: ثلاث وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل توفى وهو ابن خمس وثمانين سنة.
وكان أوّل من اتخذ الخدام الملازمة [5] فى الإسلام. وأوّل من علّق الستور واتخذ الحرس وأرباب الشّرط. واستخدم الحجاب وركب الهماليج [6] ، وقيدت بين يديه الجنائب [7] ولبس الخزّ والوشى الخفيف، وعمل الطّراز بمصر واليمن والرّها والإسكندرية.
[1] العود: الجمل الكبير المدرب، ويشبه به الرجل كذلك.
[2]
الحد: البأس والفاصل بين شيئين.
[3]
الجد: الحظ والسعادة والغنى.
[4]
حوارين، بتشديد الواو: من قرى الشام، وهى غير «حوارين» بتخفيف الواو التى فى الجزيرة.
[5]
كذا جاء فى النسخة (ن)، وجاء فى النسخة (ك) :«الأزمة» وجاء فى الاستيعاب «أول من اتخذ الخصيان فى الإسلام.
[6]
الهماليج: جمع هملاج، وهو البرذون الحسن السير، ويسمى «الرهوان» .
[7]
الجنائب: جمع جنيبة وهى الدابة تقاد إلى جنب، والناقة يعطيها الرجل القوم ليمتارو عليها له.