الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر تسليم الحسن بن على الخلافة إلى معاوية بن أبى سفيان
قال [1] : كان على بن أبى طالب رضى الله عنه قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت، وتجهز لقصد الشام لقتال معاوية فقتل قبل ذلك.
فلما بايع الناس الحسن تجهز بهذا الجيش، وسار من الكوفة فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وذلك عند ما بلغه مسير معاوية إليه فى أهل الشام.
ووصل الحسن إلى المدائن، وجعل قيس بن سعد بن عيادة على مقدمته فى اثنى عشر ألفا، وقيل: بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبيد الله [2] بن عباس، فجعل عبيد الله [2] على مقدمته فى الطلائع قيس بن سعد.
ووصل معاوية مسكن [3] .
فلما نزل الحسن المدائن نادى مناد فى العسكر: ألا إنّ قيس ابن سعد قتل فانفروا. فنفروا. وأتوا سرادق الحسن، وانتهبوا [4]
[1] ابن الأثير فى الكامل ج 3 ص 203.
[2]
كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى الكامل لابن الأثير ج 3 ص 203 «عبد الله» ، وانظر ما سبق فى فراق عبد الله بن عباس للبصرة.
[3]
فى الاستيعاب ج 1 ص 370: «وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض للسواد بناحية الأنبار» وسيأتى نقل المؤلف لذلك.
[4]
تبع المؤلف ابن جرير وابن الأثير فى قصة الانتهاب، وروى أبو الفرج الأصفهانى فى مقاتل الطالبين ص 63 أن الحسن لما نزل ساباط خطب خطبة قال فيها:
«إن ما تكرهونه فى الجماعة خير لكم مما تحبون فى الفرقة» فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا:
ما ترونه يريد بما قال؟ وركبتهم الظنون، وثاروا، فشدوا على فسطاطه فانتهبوه
…
الخ، وكذلك ذكر بن أبى الحديد فى شرحه لنهج البلاغة ج 4 ص 10.
ما فيه، حتّى نازعوه بساطا كان تحته، وأخذوا رداءه من ظهره، ووثب عليه رجل من الخوارج من بنى أسد يقال له ابن أقيصر [1] بخنجر مسموم فطعنه به فى أليته، ووثب الناس على الأسدى فقتلوه.
فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا، ودخل المقصورة البيضاء بالمدائن [2] ، وكان الأمير على المدائن سعد بن مسعود الثقفى، عم المختار بن أبى عبيد، فقال له المختار وهو شاب: هل لك فى الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: تستوثق [3] من الحسن وتستأمن به إلى معاوية. فقال له عمه: «عليك لعنة الله! أثب على ابن بنت رسول الله وأوثقه؟ بئس الرجل أنت!» فلما رأى الحسن رضى الله عنه [تفرق الناس عنه][4] كتب إلى معاوية وشرط شروطا، وقال: إن أعطيتنى هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفى لى به. وقال لأخيه الحسين وعبد الله ابن جعفر: إننى قد أرسلت إلى معاوية فى الصلح. فقال له الحسين: أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك! فقال له الحسن:
اسكت أنا أعلم بالأمر منك.
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى مقاتل الطالبين ص 64: فقام إليه رجل من بنى أسد من بنى نصر بن قعين يقال له «الجراح بن سنان» فلما مر فى مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، ثم طعنه، فوقعت الطعنة فى فخذه
…
الخ، ويشبهه ما جاء فى جمهرة أنساب العرب ص 184 حيث ذكر ابن حزم بنى نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ومنهم «جراح بن سنان الذى وجأ الحسن بن على رضى الله عنه بالحنجر فى مظلم ساباط» .
[2]
وأقام عند أميرها يعالج نفسه.
[3]
كذا جاء فى المخطوطة مثل الكامل لابن الأثير، وفى تاريخ ابن جرير:
«توثق الحسن» .
[4]
ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) ، وسقطت من النسخة (ك) .
فلما انتهى كتاب الحسن إلى معاوية أمسكه، وكان قد أرسل عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن جندب إلى الحسن قبل وصول الكتاب إليه، ومعهما صحيفة، بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترط فى هذه الصحيفة التى ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. فلما أتت الصحيفة إلى الحسن اشترط أضعاف الشروط التى سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده.
فلما سلم الحسن رضى الله عنه الأمر لمعاوية، طلب الحسن أن يعطيه الشروط التى اشترطها فى الصحيفة [التى ختم عليها معاوية][1] فأبى ذلك، وقال: قد أعطيتك ما كتبت تطلب.
قال: ولما اصطلحا قام الحسن رضى الله عنه فى أهل العراق فقال: «يا أهل العراق إنه سخّى بنفسى عنكم ثلاث: قتلكم أبى وطعنكم إياى وانتها بكم متاعى» ..
قال: وكان الذى طلب الحسن من معاوية أن يعطيه ما فى بيت مال الكوفة (ومبلغه خمسة آلاف ألف. وقيل: سبعة آلاف ألف) وخراج دار بجرد (من فارس) وأن لا يشتم علىّ. فلم يجبه إلى الكفّ عن شتم علىّ، فطلب أن لا يشتم وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك، ثم لم يف له به أيضا. فأما خراج دار بجرد فإن أهل البصرة منعوه منه وقالوا: هو فيئنا، لا نعطيه أحدا. وقيل: كان منعهم بأمر معاوية أيضا وقيل: إن معاوية أجرى على الحسن رضى الله عنه بعد ذلك فى كل سنة ألف ألف درهم.
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) .
وتسلم معاوية الأمر لخمس بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين. وقيل: فى شهر ربيع الآخر. وقيل: فى جمادى الأولى فى النصف منه.
وقيل: إنما سلم الحسن الأمر إلى معاوية؛ لأنه لما راسله معاوية فى تسليم الخلافة إليه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامه بالعداوة والصبر بالجزع، وكنتم فى مسيركم إلى صفّين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، وأما الباقى فخاذل، وأما الباكى فثائر، ألا وإن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفه، فإذا أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، فإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا» . فناداه الناس من كل جانب:
البقية البقية، فأمضى [1] الصلح.
فلما عزم على تسليم الأمر إلى معاوية خطب الناس فقال: «أيها الناس، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيكم عليه الصلاة والسلام الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهرهم تطهير» وكرر ذلك حتى ما بقى فى المجلس إلّا من بكى حتى سمع نشيجه، وأرسل إلى معاوية وسلّم إليه الأمر.
فكانت خلافة الحسن على قول من يقول [ «سلّم الأمر فى ربيع
[1] فى الكامل ج 3 ص 204 «وأمض الصلح» .
الأول» خمسة أشهر ونصف شهر، وعلى قول من يقول «فى ربيع الآخر» ستة أشهر وأياما، وعلى قول من يقول [1]] «فى جمادى الأولى» سبعة أشهر وأياما.
وحكى أبو عمر بن عبد البر [2] رحمه الله أن الحسن رضى الله عنه لما [قتل أبوه بايعه أكثر من أربعين ألفا، كلهم قد كانوا بايعوا أباه عليّا قبل موته على الموت، ثم [3]] خرج لقتال معاوية وخرج معاوية لقتاله، فلما تراءى الجمعان- وذلك بموضع يقال له مسكن من أرض السواد بناحية الأنبار- علم أنه لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية أنه يصير الأمر إليه، على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشىء مما كان فى أيام أبيه، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلّا أنه قال: أمّا عشرة أنفس فلا أؤمّنهم، فراجعه الحسن فيهم، فكتب إليه يقول: إنى آليت أنى متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده. فراجعه الحسن: أنى لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه. فاصطلحا على ذلك، واشترط عليه الحسن رضى الله عنه: أن يكون له الأمر من بعده، فالتزم ذلك كلّه معاوية، فقال له عمرو بن العاص: إنه قد انفلّ [4] حدّهم وانكسرت
[1] ثبتت هذه العبارة فى النسخة (ن) مثل الكامل، وسقطت من النسخة (ك) .
[2]
فى الاستيعاب ج 3 ص 370.
[3]
الزيادة من الاستيعاب.
[4]
انفل: انثلم وانكسر، والحد: اليأس والقوة.
شوكتهم. فقال له معاوية: «أما علمت أنه قد بايع عليا أربعون ألفا على الموت؟ فو الله لا يقتلون حتّى يقتل أعدادهم من أهل الشام، وو الله ما فى العيش خير بعد ذلك» . فاصطلحا على ما ذكرناه.
وكان الحسن رضى الله عنه كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ابنى هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [1] »
قال: ولما بايع الحسن معاوية كان أصحاب الحسن يقولون له:
يا عار المؤمنين. فيقول: العار خير من النار.
وروى أبو عمر بسنده [2] إلى أبى الغريف [3] قال: كنا فى مقدمة الحسن بن علىّ رضى الله عنهما على اثنى عشر ألفا بمسكن مستميتين، تقطر أسيافنا من الجدّ [4] والحرص على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمر طه [5] ، فلما جاءنا صلح الحسن كأنما كسرت ظهورنا من الغيظ والحزن، فلما جاء الحسن رضى الله عنه الكوفة أتاه شيخ منّا يكنى أبا عامر سيفان بن ليلى، فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين. فقال: «لا تقل هذا يا أبا عامر، فإنى لم أذل المؤمنين، ولكنّى كرهت أن أقتلهم فى طلب الملك» .
[1] الحديث رواه البخارى فى صحيحه- رقم 3500-
عن أبى بكرة سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح
…
الخ
، انظر شرح الكرمانى ج 15 ص 21 ورواه أيضا الترمذى وغيره.
[2]
فى الاستيعاب ج 1 ص 372.
[3]
أبو الغريف: هو عبيد الله بن خليفة الهمدانى.
[4]
كذا جاء «الجد» فى النسخة (ك) بالجيم، وجاء فى (ن)«الحد» بالحاء.
[5]
فى جمهرة أنساب العرب ص 401: «أبو العمر طه عمير بن يزيد بن عمرو ابن شراحيل بن النعمان بن المنذر بن مالك بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، شيعى، قاتل مع حجر بن عدى، وولى ابنه الحسين بن أبى العمر طه شرطة الحجاج» .
قال أبو عمر: ولا خلاف بين العلماء أن الحسن إنما سلم الخلافة لمعاوية حياتة، لا غير، ثم تكون له من بعده، وعلى ذلك انعقد بينهما ما انعقد فى ذلك الوقت، ورأى الحسن ذلك خيرا من إراقة الدماء فى طلبها، وإن كان عند نفسه أحقّ بها.
قال [1] : ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يأمر الحسن بن على فيخطب الناس، فكره ذلك معاوية وقال: لا حاجة لنا بذلك: فقال عمرو: «ولكنى أريد ذلك ليبدو للناس عيّه، فإنه لا يدرى هذه الأمور ما هى» ولم يزل بمعاوية حتى أمر [2] الحسن رضى الله عنه أن يخطب، وقال له: يا حسن قم فكلّم الناس فيما جرى بيننا. فقام الحسن رضى الله عنه فتشهد وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال فى بديهته: أمّا بعد أيّها الناس فإن الله هداكم بأوّلنا وحقن دماءكم بآخرنا، وإنّ لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله عز وجل يقول: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
[3]
. فلما قالها، قال له معاوية: اجلس. ثم قام معاوية فخطب الناس، ثم قال لعمرو: هذه من رأيك.
ومن رواية [4] عن الشعبى أن الحسن خطب فقال: «الحمد لله
[1] أبو عمر بن عبد البر فى الاستيعاب بسنده عن ابن شهاب ج 1 ص 373.
[2]
انظر مروج الذهب ج 2 ص 52 ومقاتل الطالبين ص 72 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 204.
[3]
من الآيات 109، 110، 111 فى سورة الأنبياء.
[4]
فى الاستيعاب ج 1 ص 374.
الذى هدا بنا أوّلكم وحقن بنا دماء آخركم، ألا إن أكيس الكيس التّقى، وأعجز العجز الفجور، وإنّ هذا الأمر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا أن يكون أحقّ به منّى، وإما أن يكون حقى فتركته لله تعالى وإصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم» .
ثم التفت إلى معاوية فقال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
. ثم نزل، فقال معاوية لعمرو: ما أردت إلّا هذا. وحقدها معاوية على عمرو.
ولحق الحسن رضى الله عنه بالمدينة، بأهل بيته وحشمه، والناس يبكون عند مسيرهم من الكوفة.
والحسن رضى الله عنه آخر الخلفاء حقيقة،
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة ثلاثون ثم تكون ملكا وملوكا» [1]
. فكانت هذه المدة من خلافة أبى بكر رضى الله عنه وإلى آخر أيام الحسن.
ولم يزل الحسن رضى الله عنه مقيما بالمدينة إلى أن مات على ما نذكره إن شاء الله فى حوادث سنة تسع وأربعين.
وحيث ذكرنا الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، وذكرنا أخبار من مات أو استشهد من العشرة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أثناء أخبار الخلفاء، فلنصل هذا الباب بذكر من بقى من العشرة، وهما: سعد بن أبى وقّاص وسعيد بن زيد، ليكمل عدّة العشرة فى هذا الباب، وإن كانت وفاتهما فى غير أيام الخلفاء.
[1] الحديث الذى رواه أحمد وغيره: «الخلافة بعدى فى أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» وفى رواية: «ثم يكون ملكا بعد ذلك» ، وجاء فى النهاية ثم «يكون ملك عضوض» بفتح العين، أى يصيب الرعية فيه عسف وظلم، ثم جاءت فيها رواية أخرى:«ثم يكون ملوك عضوض» بضم العين جمع عض وهو الخبيث الشرس.