الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ملك عمرو بن العاص مصر ومقتل محمد بن أبى بكر ووفاة الأشتر وما يتصل بذلك
قد ذكرنا فى أخبار على رضى الله عنه استعماله محمد بن أبى بكر على مصر، وما كان بينه وبين أهل خربتا [1] وقتلهم ابن مضاهم، ثم خرج معاوية بن حديج السّكونى، ودعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه ناس وفسدت مصر على محمد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليا، فاستدعى الأشتر، وكان قد توجّه إلى نصيبين بعد صفّين، فحضر إليه فأخبره خبر أهل مصر، وقال له:«ليس لها غيرك، فاخرج إليها، فإنى لو لم أوصك اكتفيت برأيك، فاستعن بالله، واخلط الشّدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، وتشدّد حين لا يغنى إلا الشّدة» فخرج الأشتر إلى مصر، فبلغ معاوية ذلك، فعظم عليه، وكان قد طمع فى مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان عليه أشد من محمد بن أبى بكر رضى الله عنه، فبعث معاوية إلى المقدّم على أهل الخراج بالقلزم وهو الجابستار [2] وقال له: إن الأشتر وقد ولى مصر فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت. فخرج الجابستار حتى أتى القلزم وأقام به.
وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله ذلك الرجل فعرض عليه النزول، فنزل عنده، فأتاه بطعام فأكل وأتاه بشربة من عسل قد جعل فيه سما فسقاه إياه، فلما شربها مات.
[1] انظر ما سبق فى «خربتا» .
[2]
كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 71 «الجايستار» .
وأقبل معاوية يقول لأهل الشام: إنّ عليّا قد وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله عليه فكانوا يدعون عليه [1] .
وأقبل الذى سقاه إلى معاوية فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية خطيبا، ثم قال: أمّا بعد، فإنه كانت لعلىّ يمينان، قطعت إحداهما يوم صفّين- يعنى عمّار بن ياسر-، وقطعت الأخرى اليوم- يعنى الأشتر-.
فلما بلغ ذلك عليا قال: لليدين وللفم [2] ! [وكان ثقل عليه لأشياء نقلت عنه، وقيل: إنه لما بلغه قتله][3] استرجع [4] وقال:
ثم كتب إلى محمد بن أبى بكر باستقراره على عمله، وأوصاه.
وقيل: إنه إنما ولى الأشتر بعد قتل محمد بن أبى بكر.
قال: ولما كان من الحكمين ما كان، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة، لم يكن له همّ إلّا مصر، وكان يهاب أهلها [لقربهم منه و][6] لشدّتهم وما كان من رأيهم فى عثمان، وكان يرجو أنه إذا ظهر [7] عليها ظهر على حرب على رضى الله عنه لعظم خراجها، فدعا
[1] ذكر ابن جرير وابن الأثير أنهم كانوا يدعون الله عليه كل يوم.
[2]
- هذه كلمة تقال للرجل إذا دعى عليه بالسوء، معناه: كبه الله لوجهه، أى خر إلى الأرض على يديه وفيه.
[3]
الزيادة من الكامل لابن الأثير ج 3 ص 178.
[4]
استرجع: قال «إنا لله وإنا إليه راجعون» .
[5]
قال ابن الأثير فى الكامل عقب هذا: «وهذا أصح، لأنه لو كان كارها له لم يوله مصر» .
[6]
الزيادة من الكامل.
[7]
ظهر: غلب.
معاوية عمرو بن العاص، وحبيب بن أبى مسلمة، وبسر بن أرطاه، والضحّاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد، وأبا الأعور والسّلمى، وشرحبيل بن السّمط الكندى، فقال لهم: أتدرون لم جمعتكم؟
فإنى جمعتكم لأمر لى مهمّ. فقالوا: لم يطلع الله على الغيب أحدا، ولم نعلم ما تريد.
فقال عمرو بن العاص: لتسألنا عن رأينا فى مصر، فإن كنت جمعتنا لذلك، فاعزم واصبر، فنعم الرأى رأيت فى افتتاحها، فإن فيه عزّك وعزّ أصحابك، وكبت عدوك، وذلّ أهل الشقاق عليك.
فقال معاوية: أهّمك يا بن العاص ما أهمكّ. وذلك أن عمرا صالح معاوية على قتال على رضى الله عنه على أن له مصر طعمة ما بقى.
وأقبل معاوية على أصحابه وقال: أصاب أبو عبد الله، فما ترون؟
قالوا: ما نرى إلّا ما رأى عمرو.
ثم كتب معاوية إلى مسلمة ابن مخلّد ومعاوية بن حديج السّكونى- وكانا قد خالفا عليّا- يشكرهما على ذلك، ويحثهما على الطلب بدم عثمان، ويعدهما المواساة فى سلطانه. وبعثه مع مولاه سبيع.
فلما وقفا عليه أجاب مسلمة بن مخلّد الأنصارى عن نفسه وعن ابن حديج: «أمّا بعد، فإن الأمر الذى بذلنا له أنفسنا، واتبعنا أمر الله نرجو به ثواب ربنا، والنّصر على من خالفنا، وتعجيل النّقمة على من سعى على إمامنا؛ وأما ما ذكرت من المواساة فى سلطانك، فبالله إن ذلك أمر ما له نهضنا، ولا إيّاه أردنا، فعجّل علينا [1] بخيلك
[1] كذا جاء فى المخطوطة وتاريخ ابن جرير الطبرى، وجاء فى الكامل:«إلينا» .
ورجالك، فإنّ عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن يأتنا مدد يفتح الله عليك، والسلام.
فجاءه الكتاب وهو بفلسطين، فدعا أولئك النفر وقال لهم:
ما ترون؟ قالوا: نرى أن تبعث جندا. فأمر عمرو بن العاص ليتجهز إليها، وبعث معه ستة آلاف رجل، وأوصاه بالتؤدة وترك العجلة.
وسار عمرو حتى نزل أدانى أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبى بكر:«أما بعد، فتنحّ عنّى بدمك يا بن أبى بكر، فإنّى لا أحب أن يصيبك منى ظفر؛ إنّ الناس بهذه البلاد قد أجمعوا على خلافك وهم مسلموك فاخرج منها، إنى لك من الناصحين» وبعث إليه [بكتاب معاوية] فى المعنى، ويتهدده بقصده حصار عثمان.
فأرسل محمد الكتابين إلى على رضى الله عنه، ويخبره بنزول عمرو بأرض مصر، وأنه رأى التثاقل ممن عنده، ويستمده.
فكتب إليه يأمره أن يضم شيعته إليه، ويعده إنفاذ الجيوش إليه ويأمره بالصبر لعدوّه وقتاله.
وقام محمد فى الناس فندمهم إلى الخروج إلى عدوّهم مع كنانة بن بشر، فانتدب معه ألفان، وخرج محمد بن أبى بكر بعده فى ألفين، وأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا منه سرّح الكتائب كتيبة بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبة إلا حمل عليها، فألحقها بعمرو، فلمّا رأى ذلك بعث إلى معاوية بن خديج، فأتاه فى مثل الدّهم [1] ،
[1] الدهم: العدد الكثير.
فأحاطوا بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فنزل كنانة عن فرسه ونزل معه أصحابه، فقاتل بسيفه حتّى قتل، وبلغ قتله محمد بن أبى بكر، فتفرّق عنه أصحابه، وأقبل عمرو بجمع، ولم يبق مع محمد أحد.
فخرج محمد يمشى فى الطريق، فانتهى إلى خربة فأوى إليها، وسار عمرو بن العاص حتّى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبى بكر، فانتهى إلى جماعة على قارعة الطريق فسألهم عنه، فقال أحدهم: دخلت تلك الخربة فرأيت فيها رجلا جالسا، فقال ابن حديج: هو هو. فدخلوا فاستخرجوه وكاد يموت عطشا، وأقبلوا به نحو الفسطاط.
ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر رضى الله عنهم إلى عمرو وكان فى جنده، وقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه. فبعث إليه يأمره أن يأتيه بمحمد، فقال:
قتلتم كنانة بن بشر وأخلّى أنا محمدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ
[1]
هيهات هيهات! فقال لهم محمد بن أبى بكر رضى الله عنه: اسقونى ماء. فقال ابن حديج: «لا سقانى الله إن سقيتك قطرة أبدا؛ إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنّك حتى يسقيك الله من الحميم والغسّاق» . فقال له محمد: «يا ابن اليهودية النّسّاجة، ليس ذلك إليك، إنّما ذلك إلى الله، يسقى أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وأمثالك، أما والله لو كان
[1] الآية 43 من سورة القمر.
سيفى بيدى ما بلغتم منّى هذا» . قال له: أتدرى ما أصنع بك؟
أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار. فقال محمد: «إن فعلت بى ذلك فطالما فعلتم ذلك بأولياء الله، وإنى لأرجو أن يجعلها الله عليك وعلى أوليائك ومعاوية وعمرو نارا تلظّى، كلّما خبت زادها الله سعيرا» . فغضب منه وقتله، ثم ألقاه فى جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار.
فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت عليه جزعا شديدا، وقنتت فى وتر [1] الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، وأخذت عيال محمد إليها، وامتنعت عائشة بعد ذلك أن تأكل شواء حتّى ماتت.
وقد قيل: إن محمد بن أبى بكر قاتل عمرا ومن معه قتالا شديدا، فقتل كنانة وانهزم محمد، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدلّ عليه معاوية ابن حديج، فأحاط به، فخرج إليه محمد فقاتل حتى قتل. وكان ذلك فى سنة ثمان وثلاثين.
قال: وأما علىّ رضى الله عنه، فإنه لما أتاه كتاب محمد ندب الناس إلى الخروج، فتثاقلوا فخطبهم وحثهم على الخروج ووبخهم على الثتاقل، فقام إليه كعب بن مالك الأرحبيىّ [2] فقال: يا أمير المؤمنين: اندب الناس؛ لهذا اليوم كنت أدخر نفسى، ثم قال:
أيها الناس، اتقوا الله وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته، وقاتلوا
[1] كذا جاء فى المخطوطة، وجاء فى تاريخ ابن جرير الطبرى ج 4 ص 79 والكامل لابن الأثير ج 3 ص 180 «فى دبر الصلاة» .
[2]
كذا جاء فى المخطوطة والكامل لابن الأثير. وجاء فى تاريخ ابن جرير ج 4 ص 81- 82 «مالك بن كعب الهمدانى ثم الأرحبى» وسيأتى قريبا أن عين التمر فيها «مالك بن كعب» .
عدوّه وأنا أسير إليه، فخرج معه ألفان. فقال له على رضى الله عنه:
سر فو الله ما أظنّك تدركهم حتى ينقضى أمرهم، فسار بهم خمسا.
ثم قدم الحجّاج بن غزيّة من مصر فأخبره بالخبر، وأتاه عبد الرحمن بن شبيب الفزارى من الشام وكان عينه هناك فأخبره أن البشارة من عمرو وردت بقتل محمد وملك مصر وسرور أهل الشام بقتله، فقال على؛ أما إن حزننا عليه بقدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافا:
وأرسل إلى الجيش فأعادهم.
وقام فى الناس خطيبا فقال: «ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم، الذين صدّوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا، ألا وإن محمد بن أبى بكر استشهد، فعند الله نحتسبه، أما والله إنه كان- ما علمت- لممّن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدّى المؤمن، والله لا ألوم نفسى على تقصير، وإنى بمقاساة الحرب لجد خبير، وإنى لأقدم على الأمر، وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم يا لرأى المصيب، وأستصرخكم معلنا، وأناديكم نداء المستغيث، فلا تسمعون لى قولا، ولا تطيعون لى أمرا، حتّى تصير الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض بكم الأوتار، ودعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة، فتجرجرتم جرجرة [1] الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليست له نيّة فى جهاد العدوّ، ولا اكتساب
[1] الجرجرة: صوت يردده البعير فى حنجرته، والمراد الضجة والصياح.