الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ملكه الموصل
وفى سنة ست وستين وخمسماية ملك الموصل بعد وفاة أخيه قطب الدين، وأقر عليها سيف الدين غازى بن قطب الدين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى فى أخبار غازى. وأطلق نور الدين سائر المكوس بالموصل وبسائر البلاد. وجاءته الخلع من الخليفة المتسنصر بالله، فلبسها، ثم خلعها على سيف الدين غازى ابن أخيه. وأمر ببناء الجامع النورى بالموصل، فبنى وأقام بالموصل عشرين يوما وعاد إلى الشام.
ذكر وفاته رحمه الله وشىء من أخباره وسيرته
كانت وفاة الملك العادل نور الدين محمود فى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسماية، بعلة الخوانيق، ولقب بعد موته بالشهيد. ومولده فى سنة إحدى عشرة وخمسماية، فيكون عمره نحوا من ثمان «1» وخمسين سنة، ومدة ملكه منذ وفاة أبيه ثمانيا وعشرين سنة وستة أشهر وستة أيام. ومن العجب أنه ركب إلى الميدان الأخضر بدمشق فى ثانى شوال، ونصب فيه قبقا «2» ،
فسايره الأمير همام الدين مودود، وقال له:«أترى هل نكون ههنا فى مثل هذا اليوم من العام المقبل؟» فقال له نور الدين: «لا تقل هكذا، قل هل نكون ههنا بعد شهر؟ فإن السنة بعيدة» ورجع إلى القلعة، وختن ابنه وأصابته العلة، فمات بعد عشرة أيام.
ومات الأمير همام الدين قبل استكمال الحول. ودفن نور الدين بقلعة دمشق، ثم نقل إلى مدرسته التى بناها بجوار سوق الخواصين بدمشق وقبره هناك مشهور.
وأما سيرته وأفعاله رحمه الله تعالى فانه أفرغ وسعه فى الجهاد، واستنقذ من أيدى الفرنج ما ذكرناه. وكان ثابتا فى حروبه، وبنى المدارس والمساجد والربط والبيمارستان والخانات والطرق والجسور، وجدد القنى وأصلحها، وأوقف الوقوف على معلمى الخط لتعليم الأيتام، وعلى سكان الحرمين الشريفين، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات حتى كفوا عن التعرض إلى الحاج. وبنى أسوار المدن والحصون التى هدمتها الزلزلة التى ذكرناها فى أخبار الدولة العباسية.
وكان رحمه الله مواظبا على الصلاة فى الجماعة، حريصا على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصدا فى الإنفاق والمطاعم والملابس، لم تسمع منه كلمة فحش فى رضاه ولا فى سخطه وعاقب على شرب الخمر قال الشيخ عز الدين أبو الحسن على بن عبد الكريم الجزرى المعروف بابن الأثير رحمه الله: «قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين
ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه» قال: وكان رحمه الله لا يفعل فعلا إلا بنية حسنة. كان بالجزيرة رجل من الصالحين العباد، وكان نور الدين يكاتبه ويراسله فيرجع إلى قوله، فبلغه أن نور الدين يدمن اللعب بالأكرة «1» فكتب إليه يقول:«ما كنت أظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة» فكتب إليه نور الدين بخطه يقول: «والله ما يحملنى على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنما نحن فى ثغر، العدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع الصوت فنركب فى الطلب ولا يمكننا أيضا ملازمة الجهاد ليلا ونهارا شتاء وصيفا. إذ لا بد من الراحة للجند ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت حماما لا قدرة لها على إدمان السير فى الطلب، ولا معرفة لها بسرعة الانعطاف فى الكر والفر فى المعركة فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب، فيذهب حمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها فى الحرب. فهذا والله الذى بعثنى على اللعب بالكرة» .
قال: وحكى عنه أنه حمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهبة، فلم يحضرها عنده، فوصفت له، فلم يلتفت إليها؛ فبينما هم معه فى حديثها إذ جاءه رجل صوفى فأمر له بها. فقيل له إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطى غيرها كان أنفع له. فقال:
«أعطوها له، فانى أرجو أن أعوض عنها فى الآخرة» فسلمت إليه.
قيل والذى أعطيها شيخ الصوفية عماد الدين بن حمويه، فبعثها إلى همذان، فبيعت بألف دينار.
قالوا وكان عارفا بالفقه على مذهب أبى حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان يعظم الشريعة المطهرة، ويقف عند أحكامها، فمن ذلك أنه كان يلعب بالكرة عند دمشق، فرأى إنسانا يحدث آخر ويومئ إليه بيده، فأرسل يسأله عن حاله، فقال:«لى مع الملك العادل حكومة، وهذا غلام القاضى ليحضره إلى مجلس الحكم يحاكمنى على الملك الفلانى» فلما قيل ذلك له ألقى الجوكات من يده وخرج من الميدان وتوجه إلى القاضى كمال الدين بن الشهرزورى وأرسل إليه يقول: «انى قد جئت فى محاكمه فاسلك معى ما تسلكه مع غيرى.» فلما حضرا، ساوى خصمه وحاكمه، فلم يثبت قبله حق، وثبت الحق لنور الدين. فعند ذلك أشهد على نفسه أنه وهب الملك للذى حاكمه، وقال:«كنت أعلم أن لاحق له عندى، وإنما حضرت معه لئلا يظن بى أنى ظلمته، فحيث ظهر أن الحق لى، وهبته له» .
قال: وهو أول من بنى دار الكشف وسماها دار العدل. وكان يجلس فيها فى الأسبوع يومين، وعنده القاضى والفقهاء لفصل الحكومات بين القوى والضعيف. وكان شجاعا حسن الرأى والمكيدة فى الحرب، عارفا بأمور الأجناد. وكان إذا حضر الحرب أخذ قوسين. وتركشين «1» ، وباشر القتال بنفسه. وكان يقول:
«طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها» .
قال: ومن أحسن الآراء ما كان يفعله مع أجناده. كان إذا توفى
أحدهم وخلف ولدا، أقر الإقطاع عليه: فإن كان كبيرا استبد بتدبير نفسه، وإن كان صغيرا رتب معه رجلا عاقلا يثق إليه يتولى أمره إلى أن يكبر. فكان الأجناد يقولون هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها، وكان ذلك سببا عظيما للنصر فى المشاهد والحروب. قال: وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، فمنها حلب وحماه وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنيج، وغيرها من القلاع والحصون، وأخرج عليها الأموال الكثيرة التى لا تسمح النفوس بمثلها. وبنى المدارس بحلب وحماه ودمشق وغيرها. وبنى الجوامع فى كثير من البلاد، فمنها جامعه بالموصل، إليه النهاية فى الحسن والإتقان وفوض عمارته والخرج عليه للشيخ عمر الملا، وكان من الصالحين. فقيل له إنه لا يصلح لمثل هذا العمل، فقال:
«إذا وليت بعض أصحابى من الأجناد والكتاب، أعلم أنه يظلم فى بعض الأوقات، فلا يقى عمارة الجامع بظلم رجل مسلم، وإذا وليت هذا الشيخ غلب على ظنى أنه لا يظلم، فإن ظلم كان الاثم عليه لا على» وبنى أيضا بمدينة حماه جامعا على نهر العاصى من أحسن الجوامع وأنزهها، وجدد فى غيرها من عمارة الجوامع ما كان قد تهدم بسبب زلزلة وغيرها. وبنى البيمارستانات فى البلاد، ومن أعظمها وأشهرها البيمارستان الذى بناه بدمشق، وقفه على كافة المسلمين من غنى وفقير، وبنى الربط والخانقاهات «1» للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأدر عليهم الإدرارات الصالحة.