الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القبض على الوزير جمال الدين محمد بن على ابن منصور الأصفهانى ووفاته وشىء من أخباره وسيرته
وفى سنة ثمان وخمسين وخمسماية قبض قطب الدين على الوزير جمال الدين واعتقله، فتوفى فى اعتقاله فى شعبان سنة تسع وخمسين [ولعمرى ما كان يستحق أن يعتقل، وهو الذى عمل على إثبات الملك فى البيت الأتابكى بعد قتل الشهيد أتابك زنكى، على ما قدمنا فى أخبار سيف الدين غازى]«1» قال بن الأثير الجزرى رحمه الله فى تاريخه الكامل: حكى لى إنسان صوفى يقال له أبو القاسم؛ كان مختصا بخدمته فى الحبس، قال:«لم يزل مشغولا فى محبسه بأمر آخرته، وكان يقول كنت أخشى أن أنقل من الدست إلى القبر، فلما أن مرض قال لى فى بعض الأيام: يا أبا القاسم إذا جاء طائر أبيض إلى الدار فعرفنى» قال: «فقلت فى نفسى قد اختلط عقله» فلما كان الغد أكثر السؤال عنه، وإذا طائر أبيض لم أر مثله قد سقط، فقلت:«قد جاء الطائر» فاستبشر ثم قال: «جاء الحق» وأقبل على الشهادة، وذكر الله تعالى إلى أن توفى. فلما توفى طار ذاك الطائر، فعلمت أنه رأى شيئا فى معناه» .
ودفن بالموصل عند فتح [الكرامى]«2» رحمة الله عليهما نحو
سنة، ثم نقل إلى المدينة، فدفن بالقرب من حرم النبى صلى الله عليه وسلم فى رباط بناه لنفسه. وقال لأبى القاسم:«بينى وبين أسد الدين شيركوه عهد من مات منا قبل صاحبه حمله إلى المدينة فدفنه بها فى التربة التى عملها، فإذا أنا مت فامض إليه وذكره» .
فلما توفى سار أبو القاسم إلى شيركوه فى المعنى، فقال له شيركوه:
«كم تريد» فقال «أريد أجرة جمل يحمله، وجمل يحملنى وزادى» فانتهره وقال: «مثل جمال الدين يحمل هكذا إلى مكة» وأعطاه مالا صالحا ليحمل معه جماعة يحجون عن جمال الدين، وجماعة يقرءون بين يدى تابوته إذا حمل وإذا أنزل عن الجمل. فإذا وصل إلى مدينة يدخل أولئك القراءون ينادون للصلاة عليه، فيصلى عليه فى كل بلد يجتاز بها، وأعطاه أيضا مالا للصدقة فصلى عليه فى تكريت وبغداد والحلة فيد «1» ومكة والمدينة، وكان يجتمع له فى كل بلد من الخلق ما لا يحصى، ولما أراد الصلاة عليه بالحلة صعد شاب على موضع مرتفع وأنشد بأعلا صوته:
سرى نعشه «2» فوق الرقاب وطالما
…
سرى جوده فوق الركاب ونائله
يمر على الوادى فتنشنى «3» رماله
…
عليه وبالنادى فتثنى أرامله
فلم ير باكيا أكثر من ذلك اليوم، وطافوا به حول الكعبة، وصلوا
عليه بالحرم الشريف، وبين قبره وقبر النبى صلى الله عليه وسلم خمسة عشر ذراعا.
وأما سيرته رحمه الله فكان [الوزير جمال الدين محمد بن على] أسخى الناس وأكثرهم بذلا للمال، رحيما بالخلق متعطفا عليهم عادلا فيهم، فمن أعماله الحسنة أنه جدد بناء مسجد الخيف «1» بمنى وغرم عليه أموالا كثيرة، وبنى الحجر بجانب الكعبة، وزخرف الكعبة وأذهبها وعملها بالرخام. ولما أراد ذلك أرسل إلى المتقى لأمر الله هدية جليلة، وطلب منه ذلك، وأرسل إلى الأمير عيسى أمير مكة هدية كبيرة، وخلعا ثنية، منها عمامة شراها بثلثماية دينار، حتى مكنه من ذلك. وعمر أيضا المسجد الذى على جبل عرفات، والدرج الذى يصعد فيها إليه، وكان الناس يلقون شدة فى صعودهم. وعمل بعرفات أيضا مصانع للماء، وأجرى الماء إليها عن نعمان فى طرق معمولة تحت الأرض. وأخرج على ذلك مالا كثيرا وكان يجرى الماء فى المصانع فى كل سنة أيام الحج. وبنى سورا على مدينة النبى صلى الله عليه وسلم. وعلى فيد.
وكان يخرج على باب داره فى كل يوم للصعالك والفقراء ماية دينار أميرى؛ هذا سوى الإدرارات والتعهدات للأئمة والصالحين وأرباب البيوت. ومن أبنيته العجيبة التى لم ير الناس مثلها الجسر الذى
بناه على دجلة عند جزيرة ابن عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص والكلز فقبض قبل أن تكمل عمارته وبنى أيضا جسرا كذلك على النهر المعروف بالأرفاد، وبنى الربط. وقصده الناس من أقطار الأرض. وكانت صدقاته وصلاته من أقاصى خراسان إلى حدود اليمن، وكان يشترى الأسرى فى كل سنة بعشرة آلاف دينار، هذا من الشام حسب، سوى ما يشترى من الكرج.
وقال ابن الأثير: أيضا حكى لى والدى عنه قال كثيرا ما كنت أرى جمال الدين إذا قدم إليه الطعام يأخذ منه ومن الحلوى ويتركه فى خبز بين يديه. فكنت أنا ومن يراه نظن أنه يحمله إلى أم ولده على. فاتفق أنه فى بعض السنين جاء إلى الجزيرة مع قطب الدين، وكنت أتولى ديوانها، وحمل جاريته أم ولده إلى دارى لتدخل الحمام، فبقيت فى الدار أياما. فبينما أنا عنده فى الخيام، وقد أكل الطعام فعل كما كان يفعل. ثم تفرق الناس فقمت فقال:
«اقعد» فقعدت. فلما خلا المكان قال لى: «قد آثرتك اليوم على نفسى، فإننى فى الخيام ما يمكننى أن أفعل ما كنت أفعله. خذ هذا الخبر واحمله أنت فى كمك فى هذا المنديل، واترك الحماقة من رأسك، وعد إلى بيتك، فإذا رأيت فى طريقك فقيرا يقع فى نفسك أنه مستحق، فاقعد أنت بنفسك وأطعمه هذا الطعام» قال: ففعلت ذلك، وكان معى جمع كثير ففرقتهم فى الطريق لئلا يرونى أفعل ذلك، وبقيت فى غلمانى، فرأيت فى موضع إنسانا أعمى وعنده أولاد له وزوجته، وهم من الفقر على حال شديد، فنزلت عن دابتى إليهم وأخرجت الطعام وأطعمتهم إياه. وقلت للرجل تجيىء غدا بكرة إلى دار فلان، أعنى دارى- ولم أعرفه نفسى- فإننى آخذ لك