الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
في عقده مجلس
الإملاء
، ووظائفه السَّنِيَّة مِنْ تدريس، وإفتاءٍ، ومشيخةٍ، ونظرٍ، وخُطبة، وخزن كتب، وقضاه، وغير ذلك، وكذا ما عُرض عليه من المناهصب والوظائف التي (1) أعرض عنها، ونبذة من وقائعه في الولاية، والإشارة لمحنته، وغير ذلك.
[الإملاء]
أما الإملاء، فأوَّل ما شَرَعَ فيه في سنة ثمانٍ وثمانمائةٌ إملاء كتاب "الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السَّماع من حديثه عن (2) شيوخه" في ستة عشر مجلسًا بالشَّيخونية، وبعضها بمنزله بمصر على شاطىء النيل، وذلك باستملاء المحدِّث الأوحد شهاب الدين أحمد بن أبي بكر البوصيري الشافعي.
ثم أملى بعدها "عشاريات الصحابة المسماة بالإصابة". ابتدأها -كما قرأته بخطه- في شُهور سنة تسع وثمانمائة بالشَّيخونية أيضًا، فأملى منها مجالس استملاها عليه شيخُنا العلامة العز عبد السلام البغدادي الحنفي، وكذا أملى منها بالمدرسة الجمالية المستجدَّة برحبة العيد أوَّل ما فُتحت باستملاء العلامة كمال الدين محمد الشَّمُنِّي المالكي. وكان ابتداء
(1) في (ط): "الذي".
(2)
في (أ): "من".
إملائه (1) بالجمالية في ثاني عشر رجب سنة إحدى عشرة وثمانمائة، وبالمدرسة المنكوتمرية المجاورة لمنزل سكنِه، وكان ابتداءُ إملائه بها في يوم الجمعة بعد صلاتها مُستهلَّ جمادى الآخرَة سنة اثنتي عشرة وثمانمائة باستملاء البوصيري أيضًا، وبعض ذلك بالخانقاه البيبرسية باستملاء الفخر ابن دِرْباس، حتَّى استكمل بالأمكنة المذكورة من "العشاريات" المشارِ إليها -فيما ظنَّه شيخُنا- زيادة على مائة مجلس. قال: لأنِّي وجدت عندي من المجالس سبعة وسبعين مجلسًا، وضع باقي ذلك، فما أمكن تجديده.
فلما استقرَّ في القضاء بالدِّيار المصرية، عقد المجلس الحافل للإملاء بالخانقاه البيبرسية في يوم الثلاثاء ثامن صفر سنة سبع وعشرين وثمانمائة، فأملى بها المجالس المطلقة التي لم يتقيِّد فيها بكتاب، بل في الغالب يحرِصُ على المناسبات في الأزمان والوقائع، حتى أكمل مائة وخمسين مجلسًا في مجلد، كان فراغُها في يوم الثلاثاء خامس عشري شوال سنة ثلاثين وثمانمائة، باستملاء شيخنا المحدت الحانظ الزين أبي النَّعيم رضوان العقبي، وربَّما استملى في غيبته شيخنا العلامة المفنَّن المحقق أبو إسحاق إبراهيم بن خضر العثماني.
ثمَّ شرع في إملاء تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في "مختصر ابن الحاجب الأصلي"، حتى أكمله في يوم الثلاثاء سابع عشر رجب سنة ست وثلاثين وثمانمائة، وجاءت عدَّةُ مجالسه مائتين وثلاثين (2) مجلسًا في مجلد.
ثم سافر عقبه صحبة الأشرف إلى آمد كما تقدم، فأملى بدمشق عند المرور بها مجلسًا حافلًا بجامع بني أمية في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان من السَّنة، باستملاء برهان الدين العجلوني كما تقدم.
وأملى بحلب أيضًا سبعة (3) مجالس باستملاء العلَّامة القاضي نور الدين
(1) في (ط): "الإملاء".
(2)
في (أ، ب): "مائتان وثلاثون"، والمثبت من (ط، ح).
(3)
في (ب): "ستة".
علي بن سالم المارديني، ابتدأ فيها يوم الثلاثاء خامس عشر رمضان مِنَ السَّنة، وختمها في يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة منها، وأنشد فيها من نظم القاضي بدر الدين ابن جماعة:
ارْضَ مِنَ اللَّه ما يُقَدِّره
…
أراد منكَ المُقَامَ أو رَحلكْ
وحيث ما كنت ذا رفاهيةٍ
…
فاسكُن، فخيرُ البلاد ما حملكْ
ومن قوله مذيِّلًا على هذين البيتين:
وحسِّن الخُلق واستقِمْ، ومتى
…
أسات أحْسِنْ ولا تُطِلْ أمَلَكْ
من يتَّق اللَّه يؤته فَرَجًا
…
ومَنْ عصاه ولا يتوبُ هَلَكْ
ثم رجع إلى وطنه وقد انقطع الإملاء بالقاهرة نصف سنةٍ، فشرع في إملاء تخريج أحاديث "الأذكار" لولي اللَّه تعالى أبي زكريا النَّووى بالبيبرسية على عادته قبل سفره. وكان الابتداءُ في يوم الثلاثاء سابع صفر سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، واستمر فيه حتَّى بلغت مجالسه -إلى يوم الثلاثاء خامس عشري ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة ستمائة وستين مجلسًا، وكان قد ابتدأ به الوَعْكُ قبلُ بيسير، فانقطع لأجله، واستمر حتَّى مات.
وكان المستملي لها الشيخ رضوان المذكور، ربما يغيبُ (1) أحيانًا، فيستملي عِوَضَه العلَّامة ابن خضر، إِلَّا أنَّ [المجلس الذي كان إملاؤه في خامس شعبان سنة خمس وأربعين قرأت بخط الشهاب ابن تمريّة أنَّه كان باستملاء إبراهيم البقاعي، واللَّه أعلم، والأصحُّ](2) المجالس الأخيرة -وهي اثنا عشر مجلسًا- كانت باستملاء الإمام المحدِّث شمس الدين ابن قمر، لكون كلِّ واحدٍ مِنَ المذكورين أولًا كان قد توفّي، وسعى غيره في ذلك، فما أُجيب.
(1) في (ح): "وربما تغيِّب".
(2)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
وكذا كان جميعُها بالبيبرسية، إِلَّا بعضها -وهو مائة وأربعة عشر مجلسًا- ابتداؤها يوم الثلاثاء رابع جمادى الآخرة سنة تسع وأربعين وثمانمائة، وانتاؤها يوم الثلاثاء ثاني ربغ الثاني سنة اثنتين وخمسين، فبدارِ الحديث الكاملية.
فجملة ما أملى رحمه الله ألف مجلس ومائة وخمسون مجلسًا، تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا على ما تقدم، وقد بلغت عدَّة مجلدات "الأمالي" كلِّها في بعض النُّسخ عشر مجلدات يُمليها رضي الله عنه مِنْ حفظه مهذَّبة محرَّرة مُتقنة كثيرة الفوائد الحديثية، ويتحرَّى فيها العُلُوَّ، مستفتحًا مجلسه بقراءة سورة الأعلى، والصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والدُّعاء له وللحاضرين والأئمة الماضين.
قلت: وقد سُئل عن الحكمة (1) في خصوص سورة الأعلى دُون غيرها، فقال: قد تبعتُ في ذلك شيخنا العراقي، وفيها من المناسبة قوله:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} ، وقوله:{فَذَكِّرْ} ، وقوله:{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
وكان في الأمالي (2) يُنشد كثيرًا مِنْ نظمه. فممَّا أنشده قوله:
ياربِّ ذكْرني فقد قدَّرتني
…
من يوم مبدأ إنشائي نسَّاءَ
وإذا خطوت إلى الخَطا فاغفرهُ لي
…
كرمًا فأنت خلقتني خطَّاءَ
ومِنْ ذلك قوله:
إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات في
…
كلِّ أمر أمكَنَتْ فرصته
فانوِ خيرًا أو اعملِ الخيرَ
…
فإن لم تُطِفهُ أجزأت نيَّتُه
وأنشد في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين وثمانمائة عند قطعه الإملاء لأجل دُخول رمضانَ على عادته:
يقول راجي إله الخلق أحمد
…
من أملى حديث نبيِّ الحقِّ متَّصلا
(1) في (أ): "الحكم".
(2)
في (ط): "الإملاء" وفي (ح): "الأمالي المطلقة".
تدنُو مِنَ الألف إن عُدَّت مجالسه
…
فالسُّدْسُ منها بلا قيدٍ لها حَصَلا
يتلوه تخريجُ أصل الفقه يتبعُها
…
تخريجُ أذكارِ ربِّ قد دنا وعلا
دنا برحمته للخلق يرزُقُهم
…
كما علا عن سماتِ الحادثات عُلا (1)
في مدة نحو"كجٍّ" رحتُ أحسُبها
…
ولي من العُمر في ذا اليوم قد كَملا
ستًا وسبعين عامًا قد مضت هملًا
…
مِنْ سُرعة السِّير كالساعات يا خجلا
إذا رأيتُ الخَطايا أوبَقَتْ عملي
…
في موقِفِ الحشر لولا أنَّ لي أملا
توحيدُ ربي يقينًا والرَّجاءُ له
…
وخدمتي ولإكثاري الصَّلاة على
محمَّد في صباحي والمساءِ وفي
…
خطِّي ونُطقي عساها تمحَقُ الزَّللا
فأقرَبُ النَّاس منه في قيامته
…
مَنْ بالصَّلاةِ عليه كان مُشتغلا
يا ربِّ حقِّق رجائي والأولى سمعُوا
…
منِّي جميعًا بعفوٍ منك قد شملا
وقد رؤي النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس الإملاء مرارًا كما ذكره لي بعض مَنْ يُوثق بدينه وفضله (2)، ويكون المجلس غاصًّا بالأئمة والعلماء والفُضلاء مِنَ الطلبة، وهم في الغالب زيادة على مائة وخمسين نفسًا.
وممَّن كتب عنه الإملاء -كما رأيته- الكمال المجذوب [أحد المعتقدين](3)، وافتتح كتابة المجلس بقوله -كما قرأته بخطه-: قال الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ الحديث، سيدنا وقدوتُنا المحدِّث عن
(1) قول ابن حجر رحمه الله: "دنا برحمته" وقوله: "علا عن سمات الحادثات" تأويل لصفات اللَّه سبحانه وتعالى، وهذا خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة من السلف الصالح، إذ صفات اللَّه تعالى تُمَرُّ كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل.
(2)
من يوثق بدينه وفضله هذا، إما أن يكون واهمًا أو قد لُبِّس عليه، فلم يؤثر عن أهل إلى مِنْ والفضل أنهم رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ولو أُثر عن أحد منهم، لكان أولى الناس برؤيته وأحقهم صحابته رضوان اللَّه عليهم، والعجب من المصنِّف كيف يورد هذا ويعتقده. أم أن غلوَّه في حبِّ شيخه دفعه إلى ذلك؟!.
(3)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب) يزيد في هامش (ح) بخط المصنف.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الشيخ شهاب الدين ابن حجر، نفعنا اللَّه ببركته وبركة علومه في الدُّنيا والآخرة. انتهى.
وكان في آخر عمره -حين كثر في مجلسه حضور مَنْ لا يُحسِن ولا يَضْبطُ- شديد الحرص على أن يجعل في كلِّ جهة بعض نُبَهاء جماعته ليختبر كتابتهم (1)، ويلاحظهم فيما يقع لهم مِنْ تحريف ونحوه، فما تيسَّر له ذلك، ويقع فيه مِنَ الأبحاث والفوائد المهمَّة، والنكت النَّفيسة ما يفوقُ الوصفَ، وعليه مِنَ الوقار والهيبة والخَفَر والجلالة ما لا أراه في غيره من مجالس العُلماء.
والذي أعتقده: أن به كان يدفعُ اللَّه عَنْ هذه الأمة كثيرًا مِنَ البلاء والآفات، فيا سعدَ مَنْ كان مِنْ ملازميه، ويا ندامة مَنْ هو قاليه. ولعمري، إنَّ انقطاعه كان افتتاحًا للأنكاد، ومنعًا من المسرَّات لخيار العباد، ومقدمة الوباء، وارتفاع أسعارِ الأقوات، وتذكُّرًا لقوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155]، لأن (2) فُشُوَّ الموت بالطاعون قد أعقبه، وكذا غلوُّ الأسعر الذي كان توقَّفُ النيل في سنة أربع وخمسين وثمانمائة قد أوجبه، حتَّى صار الغنيُّ فقيرًا، والفقير لِمَا حَلَّ به كسيرًا، وخرج النَّاس إلى الصَّحراء أفواجًا، وأكثروا (3) التجاءً لخالقهم وارتجاجًا، إلى أن عمَّ فضلُ اللَّه الخلائقَ عندما التجؤوا إليه، وقطعوا دونه العلائق، فاللَّه يحسن عزاء المسلمين في هذه النَّازلة، ويَمُنُّ على صاحب الترجمة بالرَّحمة المتواصلة، بمنه وكرمه.
قلت: ولمَّا انقطع الإملاء بالدِّيار المصرية، يسَّر اللَّه -وللَّه الحمد- بإملاء تسعة وخمسين مجلسًا، تقيَّدت (4) فيها بالأزمنة والوقائع، ووقع السَّفر إلى مكة المشرفة، فأمليتُ بها في الكلام على "حديث تنزُّل الرّحمات على
(1) في (أ): "كفايتهم"، وفي (ط):"كاتبهم".
(2)
"لأن" ساقطة من (أ).
(3)
في (أ): "وأكثر".
(4)
في (أ): "تعددت" تحريف.
مكة"، إجابة لملتمس ذلك أربعة مجالس، ووصلتُ إلى القاهرة، فحصل الشروع في إكمال تخريج "الأذكار" [وزادت عدَّة مجالس ما أمليتُه منه إلى حين كتابتي هذه الأحرف في أثناء سنة سبع وسبعين على المائتين، ثم انتهت إلى أزيدَ مِنْ ثلاثمائة في أواخر سنة تسع وسبعين](1) يسَّر اللَّه إكمالها.
[وكان المشير عليَّ بذلك شيخُنا العلَّامة المفنَّن التَّقيُّ الشُّمُنِّي، واعتذرت له بفقد المُقبلين على هذا الشأن، فلم يعذُرني، بل صرَّح بقوله: كنّا نحصر عند صاحب الترجمة مع الوالد في عددٍ يسير جدًا، دون عشرة أنفُس، وربما لم نَزِدْ على ثلاثة، ثم فتح اللَّه بما فتح كما تقدَّم](2).
ومن رام التفضيل بين مجالسه ومجالس شيخه (3)، فلينظرهما، فالذي عندي -مع اعتقادي جلالة شيخه علمًا وعملًا وإتقانًا- أنها أمتن وأتقن، وكان يتَّفق له فيها نظيرُ ما حكاه الشيخ ولي الدين عن والده: أنه ربما لا يشتغل بتخريجها إِلَّا ليلة الثّلاثاء، ولا تكمُل إِلَّا صبيحة يوم الثلاثاء، فيكون زمن اشتغاله بحفظها (4) لحظة لطيفة مِنْ أول النَّهار قبل الإملاء، وما هذا إِلَّا إعانةٌ مِنَ اللَّه عز وجل، وتأييدٌ لهما.
قلت: ولم يكن حفظُه كما أسلفتُه مِنَ ابتداءِ أمره إلى انتهائه في الأمالي والخطب وغيرهما كالأشعار، إِلا تأمُّلًا، فرحمه اللَّه وإيانا.
ولقد سألته قُبيل وفاته بيسير: أبَلَغَت عدَّةُ مجالس الإملاء للمتقدمين هذا العدد؟ فقال: وأكثر مِنْ ذلك، لكن لم أتحقَّق هل كان ذلك حفظًا أو من كتاب.
وقد قال الشيخ ولي البهمِن في ترجمة والده: وما تيسَّر لأحدٍ هذا العدد من الإملاء -وهو أربعمائة مجلس وستة عشر مجلسًا- بعد الحافظ
(1) و (2) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب) وأضافها المصنف بخطه في هامش (ح).
(3)
في (ط): "مشايخه".
(4)
"بحفظها" ساقطة من (أ).