الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وظيفة المشيخة:]
وأما المشيخات، فكان رحمه الله قد ولي مشيخة البيبرسية ونظرها، رغب له عن ذلك العلاء الحلبي في ثالث ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، وكان العلاء استقرَّ فيها عوضًا عن شمس الدين أخي الجمال الاستادار، ثمَّ سعى الشمس المذكور إلى أن اشترك مع شيخنا في المشيخة، ثم انتزعها منه كلَّها في سنة ست عشرة وثمانمائة، بعد أن كان كُتب لشيخنا توقيع بها في مستهل جُمادى الأولى سنة خمس عشرة وثمانمائة مِنَ الخليفة حملًا على [ما بيده من](1) المستندات الشرعيَّة، ثم أُعيدت لشيخنا في سنة ثمان عشرة زمن المؤيَّد عَقِبَ كائنة الهروي، وكتب توقيعه بذلك في ثاني عشر ربيع الآخر من السنة، ولبس الخُلعة، كما سيأتي شرحُ ذلك.
واستمرت بيده إلى أن قرَّر الظاهرُ فيها العلامة شمس الدين القاياتي في يوم الثلاثاء العشرين مِنْ جُمادي الأولى سنة تسع وأربعين وثمانمائة، وبها حمِدَ له العقلاءُ ذلك، حتَّى شافهه العلامة فريد الوقت الأمين (2) الأقصرائى بقوله: ما حجَّتُك في الاستقرار فيها وانتزاعها من متولِّيها؟ فسكت. وكذا تألَّم شيخ الوقت أبو عبد اللَّه الغمري (3) صاحب الجامع الذي بقرب سوق أمير الجيوش (4)، وصرَّح بعتبه عليه لذلك، لكونه أخرج عياله ونحو ذلك. [ولهذا لمّا سأل شيخنا العز السُّنباطي منكرًا على أهل الوقت: أهل سمعت قائلًا يقول: إن إخراجها -أعني البيبرسية- عني لا يحلُّ؟ أجابه بقوله: ما رأيت أحدًا قاله سوى الغمري، أو كما قال، ولكن الظاهر أن شيخنا إنَّما أراد من يبرّر بالإنكار] (5). وحضرها القاياتي في يوم الولاية ومعه جماعة،
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
(2)
في (أ): "الأمير"، تحريف.
(3)
هو شمس الدين محمد بن عمر بن أحمد، المتوفى سنة 849 هـ. الضوء اللامع 8/ 238 - 240.
(4)
في (أ): "الحوش"، تحريف.
(5)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب، ط).
منهم ولي الدين بن تقي الدين البلقيني، وهو الذي حسَّنَ له المجيء، وإِلا فقد كان القاضي كمال الدين بن البازي أشار عليه بعدم الحضور، والتثبت حتى يراجع السلطان، فإنَّ الصواب عدم انتزاعها منه، ووافق على ذلك، ثم في الحال [بعد مفارقة الكمال](1) انثنى عزمه عنه بواسطة المذكور، وتوجه إليها وهو معه، فحسَّن له أيضًا حينئذٍ النداء لجماعة الصوفية بزيادة الثلث في معلومهم، فأمر بذلك بعد توقفه وقوله حتى نعلم ارتفاع الوقت ومصرفه أوَّلًا، فقال: إذا لم يَفِ بذلك، بعتُ قاعتي وأثاثي وغلَّقت، ففعل. واجتهدوا في سدِّ ذلك بزيادة إجارة البلد، وبإضافة ما كان يأخذه بعض المباشرين للقبض، وهو على كل نخلة شيء مع زيادته، وبإلزام كاتب الغيبة بالتشديد في الكتابة، وبغير ذلك، حتى أنشدني بعضُ صوفيتها لنفسه:
عزَّ الشِّهاب فجاءتنا الشياطينُ
…
وغابتِ الأسدُ فاعتزَّ السَّراحينُ
وقد تواصَوْا على ما لا به سددٌ
…
ففي وصيتهم ضاع المساكينُ
واتفق أنهم ظفروا بغلَّاية نحاس كبيرة، شرط الواقف أنها تُملأ في الشتاء لمن يحتاج إلى الوضوء أو الاغتسال منها، وأُهْمِلَ أمرُها لعجز الوقف عن القيام بها، فاجتهد وليُّ الدين المذكور في إبرازها بجانب الفسقية وملئها.
وكذا اجتهد في عمل حلوى تُفرَّق على الصوفية في ليالي الجُمع مِنْ رجب واللَّذَيْن يليانه، وصار يتولى ذلك بنفسه قصدًا لتأييد العزل، وكان [يذكرُ لفعله ذلك وغيره [من تلك الأفاعيل](2) أسبابًا، منها: أنه رُفع له قُصَّة] (3) يلتمس فيها معلومَهُ بجامع طولون، فكتب له بهامشها: فلان يحاسبه بثمن المدورين الرخام اللذين اختُلسا مِنْ قاعة الزفتاوي، يعني التي كان المذكور سكن بها مدَّة، وفقدا منها في تلك المدة، وقدَّر اللَّه تعالى بعد مدة أن المذكور باع قاعته بعد أن كان وقف نصفَها على مدرسته، ونزل عَنْ
(1) و (2) ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
(3)
من قوله: "يذكر" إلى هنا ساقط من (أ).
وظائفه كلِّها، وبذل أكثر ذلك لأهل الدولة، حتى ولَّوه قضاء الشام، وقاسى أهوالًا، [وصرف بأحد تلامذة صاحب الترجمة القاضي قطب الدين الخيضري، وقد غُبِنا](1). نسألُ اللَّه السَّلامة.
والذي عندي أن صاحب الترجمة كان يتأول بأن يبر بالزائد -إن كان- طلبة العلم، لأن الكثير من الصوفية من غيرهم، ولهذا كان يستنزل بعضهم ممَّن لا طلب عنده ولمن يكون طالبًا، ويزن عنه مِنْ ماله، ويمكن أن يكون وزنُه ذلك مِنْ فائض الوقف.
وأيضًا فكان اشتغالُه بالعلم الذي تعيّن عليه القيام به يمنعه عن تولِّي هذا ونحوه بنفسه، فلهذا دخل عليه الدَّخيل، والأعمال بالنِّيات.
وبعد عزل شيخنا منَ البيبرسية، حوَّل مجلس إملائه إلى الكاملية، وأمر بتبييضها، وقرأ الشيخُ حسين الفتحي، أحد تلامذته، من تلقاء نفسه أول يوم مِنْ إملائه بها سورة الصَّف بصوت شجيٍّ، مع كونه بارعًا لي القراءات، فبكى النَّاسُ، وكانت ساعةً مهولةً، وتأثر جماعة القاياتي من ذلك، وراموا إيقاع تشويش بالقارىء، فما ظفَرُوا بمقصودهم.
وفي ذاك اليوم أيضًا أهدى إمامُها العلامة كمال الدين له قُمقمًا فيه ماءُ زمزم، واتَّفق دخول القاياتي بعد ذلك إلى الكاملية في جنازة الشيخ شمس الدين الحجازي، وما تيسَّر للكمال إهداءُ شيءٍ إليه، فيقال إنه تأثَّر مِنْ فلك، خصوصًا وقد حكى له الكمال أنَّه أهدى لصاحب الترجمة ماء زمزم، وقال القاياتي: هديةٌ عظيمة، أو كما قال.
ولما توفِّي القاياتي، استقرَّ ولدُه الصغير أحمد في المشيخة، والأمير الدوادار دولات باي المؤيدي في النَّظر. ولم يزل كل واحد منهما يباشر وظيفته حتَّى أكيد شيخُنا إلى الخانقاه على جاري عادته في أوائل ربيع الثاني في سنة اثنتين وخمسين.
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
وحصل السُّرور بذلك، وحضرنا في خدمته على عادته، وعاد إلى الإملاء بها، واستمرَّ على ذلك أيامًا، ثم التمس ولده عمل (1) الحساب في المدة التي كانوا منفصلين عنها، واستحضر المزارعين لبلد الخانقاه، ورام كتابة محضرِ الدُّخول، فاجتهد سعد الدين القبطي، المعروف بابن عُويد السَّراج مباشر الأمير، في ذلك وغيره، وقرَّر عند أستاذه أنَّ قصدهم طلبُ الحساب في مدَّته، وحرَّك عزمَه حتى أعلم الظَّاهر بهذا، فقال: أنا لم أقرِّرْه إِلَّا في المشيخة خاصّة، وما عزلتك عن النظر، فتألَّم شيخُنا واحبابُه لذلك، وكان تدبير ولده هو السبب، فلله الأمر.
وساعد الأمير حينيذٍ ولد القاياتي حتى أعيد إلى المشيخة، ثم اتفق (2) طلوعه إلى السلطان في بعض القضايا، فأظهر صاحبُ الترجمة ما عنده مِنَ التأثُّر، وشافه الظاهر بقوله: أعطيت وظيفتي مَنْ لا يدري الإسلام، وكذا نهر ابن البارزي ودولات باي، لكونه تكلَّم مع السلطان حينيذٍ بالتُّركي، وانزعج السلطانُ مِنَ ذلك كلِّه، حتى صارت رُكبته تهتزُّ، وأظنه كان سببًا لعزله من [المشيخة أيضًا، بل من](3) وظيفة القضاء عَنْ قُرب، وذلك في جمادى الثاني مِنَ السَّنة بعد سبعة وسبعين (4) يومًا مِنْ حين ولايته للخانقاه والقضاء، بل ما كفَّه عنه إِلَّا اللَّه عز وجل، وما صدرَ كلُّ هذا من شيخنا إِلا وقد بلغت الرُّوحُ التُّرقُوة، وقال حينيذٍ لبعض جماعته: لو استقبلت مِنْ أمري ما استدبرتُ، كنت عزلت نفسي من القضاء (5) عقِبَ إخراج نظر الخانقاه. واستمر يُملي بها وليس باسمه فيها سوى درس الحديث.
وبسبب مباشرة شيخنا نظر الخانقاه المذكورة، ترتَّب ديوان الجيش وكثير من مستحقي المدارس ونحو ذلك على حروف المعجم، وكانوا قبل
(1) في (ط): "علم"، تحريف.
(2)
في (ب): "وباشر الأمير النظر وشيخنا المشيخة خاصة حتى اتفق. . . ".
(3)
ما بين حاصرتين لم يرد في (أ، ط).
(4)
في (ب): "بعد سبعين يومًا".
(5)
"من القضاء" ساقطة من (ب).