المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر الإشارة إلي محنته التي شارك فيها غيره من السادات بسبب ولده - الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر - جـ ٢

[السخاوي]

فهرس الكتاب

- ‌ الإملاء

- ‌[وظائفه]

- ‌[وظيفة التفسير:]

- ‌[وظيفة الوعظ:]

- ‌[وظيفة الحديث:]

- ‌[وظيفة الفقه:]

- ‌[وظيفة الإفتاء:]

- ‌[وظيفة المشيخة:]

- ‌[وظيفة الخطابة:]

- ‌[وظيفة خزن الكتب:]

- ‌[دروس ابن حجر:]

- ‌[التفسير:]

- ‌[فتاويه:]

- ‌[خُطَبُه:]

- ‌[القضاء:]

- ‌[آفات القضاء]

- ‌[بعض أعماله في القضاء:]

- ‌ذكر الإشارة إلي محنته التي شارك فيها غيره من السادات بسبب ولده

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌الباب الخامسفيما علمته من تصانيفه ومَنْ حصَّلها مِنَ الأعيان وتهادي الملوك بها إلى أقصى البلدان وما كتبه بخطه مِنْ تصانيف غيره ليظهر حسن قصده وعظم خبره

- ‌[مصنفات ابن حجر]

- ‌الأربعينات

- ‌المعاجم والمشيخات

- ‌تخريجه لشيوخه وغيرهم

- ‌الطرق

- ‌الشروح

- ‌علوم الحديث

- ‌فنون الحديث

- ‌الرجال

- ‌[صفات المؤرخ]

- ‌الفقه

- ‌أصول الدين

- ‌أصول الفقه

- ‌العروض والأدب

- ‌[اعتناء الملوك بتصانيف ابن حجر]

- ‌[مشاهير من نسخ مصنفات ابن حجر]

- ‌[وليمة فتح الباري]

- ‌[مَنْ كَتَبَ فتح الباري]

- ‌[شروح البخاري]

- ‌فصل

- ‌الباب السادسفي سياق شيء من بليغ كلامه نظمًا ونثرًا وفيه فصول

- ‌[تقريظ كتاب نزول الغيث للدماميني]

- ‌[تقريظ بديعيه الوجيه العلوي]

- ‌[ما كتبه على قطعة لابن ناهض]

- ‌[تقريظ سيرة ابن ناهض]

- ‌[تقريظ بديعية ابن حجّة]

- ‌[تقريظ آخر على بديعية ابن حجّة]

- ‌[وقد قرض شيخنا لابن حجّة قصيدته الثانية التي امتدح بها البدري بن مزهر حسبما أشار إليه النواجي في "الحجة"، فينظر]

- ‌[تقريظ عجاله القرى للتَّقي الفاسي]

- ‌[تقريظ الزهور المقتطفه من تاريخ مكة المشرقة للتقي الفاسي]

- ‌[تقريظ تحفة الكرام للتقي الفاسي]

- ‌[تقريظ مجموع تقي الدين الكرماني]

- ‌[تقريظ ديوان الملك الأشرف]

- ‌[تقريظ ديوان الملك الكامل]

- ‌[تقريظ الرد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي]

- ‌[تقريظ شرح عقود الدرر في علوم الأثر لابن ناصر الدين]

- ‌[تقريظ وجهة المختار لابن سويدان]

- ‌[تقريظ شرح منهاج البيضاوي لابن إمام الكاملية]

- ‌[تقريظ الأربعين لجلال الدين البلقيني]

- ‌[تقريظ نزهة القصَّاد للشريف النسَّابة]

- ‌[تقريظ الغيث الفائض في علم الفرائض للحسيني]

- ‌[تقريظ مسألة الساكت للسوبيني]

- ‌[تقريظ في منظومة الشغري في النحو]

- ‌[تقريظ البرهان الواضح للناس لابن أبي اليُمن المكي]

- ‌[تقريظ زهر الربيع في شواهد البديع لابن قرقماس]

- ‌[تقريظ الجامع المفيد في صناعة التجويد للسنهوري]

- ‌[تقريظ تحفة الأنفس الزكية لأبي حامد القدسي]

- ‌[تقريظ كتب السخاوي]

- ‌[تقريظ مرثية لابن الغرز]

- ‌[تقريظ موشح]

- ‌[تقريظ على درج الجمال ابن حجاج]

- ‌[تقريظ نظم لعبد السلام البغدادي]

- ‌الفصل الثاني فيمن عرض محافيظه عليه أو كتب له إجازة ممن تردَّد إليه

- ‌[الكتب المعروضة علي ابن حجر]

- ‌[إجازات ابن حجر]

- ‌ رسائله

- ‌الفصل الرابع في‌‌ المقترحاتوالمطارحات والألغاز البديعة الإيجاز

- ‌ المقترحات

- ‌[المطارحات]

- ‌الألغاز

- ‌[مقاطيعه]

- ‌الفصل الخامس فيما ورد عليه من الأسئلة المنظومة وجوابه عنها بفكرته المستقيمة

- ‌الفصل السادس في نبذة مِنْ فتاويه المهمة المتلقاة بالقبول بين الأئمة

- ‌ المكيات:

- ‌ المدنيات:

- ‌ القدسيات:

- ‌ اليمنيات:

- ‌ الشاميات:

- ‌[حديث الجسَّاسة]

- ‌فصل

- ‌[ترجمة الكسائي]

- ‌فصل

- ‌[بيان الحديث الحسن]

- ‌ الحلبيات:

- ‌ المصريات:

- ‌[بدعة الزيادة في الأذان]

- ‌ القاهريات:

- ‌[تضعيف حديث الماء المشمس]

- ‌[حديث: مَنْ مَلَكَ ذا رحم محرم فهو حرّ]

- ‌[حديث فضل الصلاة في المسجد النبوي]

- ‌[حكم لبس الأحمر]

- ‌[زنة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌[حديث بريدة في خاتم الحديد]

- ‌[حديث الظالم عَدْلُ اللَّه في الأرض]

- ‌[حديث لا يدخل الجنة ولد زنا]

- ‌[حديث مَنْ كان ذا مال ولم يحج]

- ‌[المفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما]

- ‌[هل أذَّن الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌[المراد بالأحرف السبعة]

- ‌[رواية الحسن البصري عن علي]

- ‌[خرقة التصوف]

- ‌[الشيخ عبد القادر الكيلاني]

- ‌[حديث ازهد في الدنيا يحبك اللَّه]

- ‌[هيئة الخطوة المفسدة للصلاة]

- ‌[تفسير قوله تعالي: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى]

- ‌[توثيق الإمام أبي حنيفة]

- ‌ معنى قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} [

- ‌[السيدة نفيسة بنت الحسن والإمام الشافعي]

- ‌[ترجمة السيدة نفيسة]

- ‌[قبر الحسين]

- ‌[بدع القرّاء]

- ‌[حكم الغلط في النسخ]

- ‌[الاعتراض علي القاضي عياض]

- ‌[شروط العمل بالحديث الضعيف]

- ‌ أصول الفقه:

- ‌ أصول الدين:

- ‌[تعقبه على النووي في الأذكار]

- ‌[اختياراته:]

الفصل: ‌ذكر الإشارة إلي محنته التي شارك فيها غيره من السادات بسبب ولده

‌ذكر الإشارة إلي محنته التي شارك فيها غيره من السادات بسبب ولده

وأصلها أن شمس الدين محمد بن الشهاب أحمد بن صالح الشَّطنوفي المباشر بجامع طولون وغيره، والمتوفى والدُه سنة إحدى وأربعين، رفع إليه قُصَّة يطلبُ فيها معلومَ المباشرة بالجامع المذكور عن مدة، فكتب له: يُصرف له عن المدة التي باشرها، فاغتاظ بسبب ذلك، وجاء إليه، فاجتمع به وهو بالمحمودية، وعرَّفه أن علمه بذلك مِنْ أكبر مقاصده، فقال له: جزاك اللَّه خيرًا، اطلب من البدر بن عبد العزيز حساب المدَّة وانظر فيه، فشرع في ذلك، فإذا البلاء -كما قال- كلُّه من ابن عبد العزيز، آذى نفسه ورفقته وولد شيخ الإسلام، وله في ذلك شائبة كبيرة مما لا شعور لأبيه بشيءٍ منه. قال: وشيخ الإسلام ليس في جهته شيءٌ من مالِ الوقف المذكور. غايته أنه وُكل الأمر في ذلك لمن لم ينصحه، واشتغل هو بما كان بصدده من العلم والإقراء ونحو ذلك.

قال: ولمَّا نظرت الحساب، وجدت فيه بواقي صيَّرها ابنُ عبد العزيز باسم نفسه، كان إذا تأخَّر على المستأجرين من الخراج شيءٌ، كتبه عليهم بمساطير، ويستخرج ذلك في السنة المستقبلة، ثم صار يستأجر طينًا ويزرعه، ويخصم في الحساب بخسارة زرعه، إلى غير ذلك مما لا تلبس عليه الثياب.

واتفق أن الشطنوفي المذكور -كما حكى لي- دخل الجامع الأزهر

ص: 640

لبعض الصلوات، ووضع الحساب، وكان معه بين يديه، والقاياتي قل أن يلي القضاء بجانبه، فأخذه ونظره وفهم ما فيه، فلما وَلِي القضاء، وأغرَوْه بشيخ الإسلام، وألحَّ عليه الأعداء في ذلك بعد أن كان سلَّم كل واحدٍ منهما على الآخر أوَّل الولاية كما تقدم قريبًا، وتوجه شيخنا إليه مرة بعد أخرى، وفعل القاياتي معه في المرة الأولى منهما ما يليق به من الإكرام والاحترام، بحيث أجلسه موضعه، ولامه بعض من آذاه على ذلك، ولم يلبث أن حضر إليه ثانيًا، فلم يمش على طريقته الأولى، وكان معه في المرة الأولى القاضي كمال الدين بن البارزي، وقال له القاياتي في إحدى المرتين: يا مولانا قاضي القضاة، ليس الغرض إلا براءة الذمَّة، فقال: واللَّه ما في ذمَّتي لجامع طولون شيءٌ، وإن أردت المباهلة باهلتُك، فقال له القاياتي: معاذ اللَّه. لكن قال بعض جماعة شيخنا: إنَّه لعله باهَلَهُ بالحال، وأنكر الناس على القاياتي ذلك، ومنهم ابن البارزي المذكور، لكن كان صاحب الترجمة نفسه يعتذر عنه بقوله: أعرف أنه تجمل في أمور كثيرة، فبالجهد [حتى يتحرك لبعضها.

ولم يكن ذلك بمانع لشيخنا عن الثناء على القاياتي] (1) حتى بعد وفاته رحمهما اللَّه، بل رفع إليه سْخص سؤالًا منظومًا في وسط ولايته، وذكر فيه أنه التمس من القاياتي الجوابَ عنه نظمًا، وأنه أقام عنده مدَّةً ثم أُعيد بدون جواب، فأجابه صاحب الترجمة، وتعرَّض للرد على السائل فيما أشعر به كلامه من التنقيص كما سيأتي في الفصل الخامس من الباب السادس (2).

وقال في ترجمته بعد وفاته من كتابه "إنباء الغمر"(3): إنه امتنع من لُبس الخلعة تورُّعًا وأنه باشر بنزاهةٍ وعفَّة، ولم يأذن لأحدٍ مِنَ النُّواب إلَّا لعدد قليل وتثبّت في الأحكام جدًا وفي جميع أموره.

(1) ما بين حاصرتين ساقط من (أ).

(2)

ص 861.

(3)

5/ 343.

ص: 641

قلت: وبذلك يظهر لك علوّ شأن صاحب التَّرجمة وإنصافه، والسَّبب في امتيازه بميل النَّفس إلى مقاله. أما من يَصف شخصًا في حال صحبته له بالأوصاف الحميدة، ثم يُناقِضُ نفسه بعد تسبُّبه فيما يقتضي الاستيحاشَ، كما عُرف ذلك بالاستقراء مِنْ صنيعه في جمٍّ غفيرٍ، فهذا لا يُقبلُ له قول في الطَّرفين.

وقد أشرتُ إلى بعض صنيع هذا المهمل عند ذكر تاريخ صاحب الترجمة في أسماء تصانيفه مِنَ الباب الآتي نسأل اللَّه التوفيق، لكلمة الحق في السّخط والرِّضا] (1).

وكان مجيءُ شيخنا إلى القاياتي في كلا المرتين بعد أن كان طلب ولده مع جماعة من المباشرين، وألزمهم بحساب الجامع المذكور، وأقاموا في الطيبرسية أيامًا، وكان السفطي يمرُّ حينئذٍ بهم، فيتأوَّه لولدِ شيخ الإسلام وهو على هذه الحالة، وربما بكى، ولم يُنتج ذلك غير امتهان أولاد العلماء، بل أظهروا حسابًا فيه لشيخنا خمسمائة دينار.

وكان القاضي تاج الدين البلقيني توسَّط بين صاحب الترجمة والقاياتي باختيار كل منهما له في أن يسكت عَنِ المطالبة بها كما يسكت عن مزيد الفحص في العمارة.

هذا ما يتعلق بصنيع القاياتي في القضاء.

وأما الخانقاه البيبرسية، فإن الأعداء حسَّنوا له إيصال أمرها بالسلطان، والتماسه منه الإذن له في عمل الحساب، ليظهر ما في جهته من المال، وسمَّوا قدرًا كبيرًا استكثره السلطان وكلُّ من سمعه، فسكت وفارقه القاياتي.

فلما كان في بعض الأيام، قال السلطان للقاضي زين الدين

(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب) وورد في هامش (ح) بخط المصنف.

ص: 642

عبد الرحمن بن عبد الغني بن الجيعان سرًّا فيما بينهما -وكان بلغه أن المباشرة معه- أُحبُّ منك أن تعلمني بارتفاع المكان وخصمه، فقال له: إن الوظيفة إنما اشتريتها (1) للولد ليتمرَّن في المباشرة بها، فانا أنظر ذلك مِنْ دفتره وأطالعكم به، فقال: أحب المبادرة مع الكتمان، ففعل وأعلم السلطان بما فيه النفع لصاحب الترجمة [بعد أن رتبه الزيني عبد الباسط فيه](2) فقبل السلطان ذلك منه، وعمل بمقتضاه، فإن القاياتي راجعه في عمل الحساب، فما أجاب، وصار القاياتي لا يدري ما الموجب لتوقفه.

وقد جُوزِيَ الزين المذكور رحمه الله بصنيعِه ذلك، بأن صار ولدُه هو المشارَ إليه في تدبير أمر الخانقاه، بل رُؤي بعد موته في حالةٍ حسنة كما أخبرني به القاضي شهابُ الدين بن يعقوب الأزهري رحمه الله، بسبب نفعه لصاحب الترجمة، والأعمالُ بالنيات.

ولما ولي السفطي، أخذ مقتديًا بالقاياتي فيما يتعلق بجامع طولون، بل فعل أشدَّ مما فعله بعد أن كان يُنكر عليه كما تقدم، وألزمهم بعمل الحساب من سنة إحدى وأربعين، وتوجَّهوا لقاضي المالكية البدر بن التنسي، لينظر في ذلك، فقيل لهم: إن الاقتصار على عمل الحساب في هذه المدَّة حَيْفٌ، والأولى أن تعمل مدة القاضي علم الدين حين مباشرته، فاستحسن ذلك، وأخذوا فيه، فأخبرني الشطنوفي أنه وجد ما لا خيرَ لي في ذكره.

وآل الأمرُ إلى أن طلع السَّفطي بالشَّطنُوفي المذكور إلى السُّلطان، وبالغ في وصفه بالدِّين ونحوه، فقال له السلطان: اعلم أنه لا غرضَ لي في غير الحق، وأحبُّ مساعدة القاضي فيه، وأمر. بعمل الحساب عند الدوادار الكبير قانباي الجركسي، فنزلوا مجتهدين في ذلك، وأقاموا هم وولدُ شيخنا عنده مدَّةً، ولم يتحرَّر من ابن عبد العزيز أمر كلُّ ذلك والسفطي يؤنِّب

(1) في (أ): "استنزلتها".

(2)

ما بين حاصرتين ساقط من (ب).

ص: 643

ويؤلِّب، ويصيح ويجتهد في بلوغ مقصده، إلى أن ظهر لقانباي الحيفُ في ذلك، لكنه ما استطاع مدافعةَ القائم في معارضته.

هذا وقانباي كان في نفسه من صاحب الترجمة، لكونه حكم عليه في واقعة، ومع ذلك فما مال عليه، لظهور الأمر عنده.

وراسل شيخُنا السَّفطيَّ يسأله الحكم في الواقعة بما يتبيَّن له، أو يأمر أحدًا من نوَّابه بذلك، فما جسر عليه، وراسله مرة أخرى قبل ذلك يَعْتِبُه في إيصال القضية بالسلطان، فقال: واللَّه ليس عندي أعظم من شيخ الإسلام، غير أن ولده هو الذي تلقى عن ابن عبد العزيز بقوله: أنا المتصرف، وإلا فما كان الكلام إلا مع ابن عبد العزيز، ولقد رام السلطان ضربه، فمنعته وقلت: هذا شيخ كبير، أخشى أن يموت ويضيع مال جامع طولون، وكان ابن عبد العزيز جلدًا ثابتًا.

وآل أمر قانباي إلى أن دفع القضية عن نفسه، وأمر بتوجههم إلى ناظر الخواص الجمالي يوسف ابن كاتب جكم، فساس القضية بحُسْنِ تدبيره إلى أن التمت، وكانوا -أعني ولد شيخنا وجماعته- عنده مكرمين، وصار في رمضان يخرج لهم بالعشاء الملائم ونحو ذلك. هذا بعد أن حضر شيخ الإسلام إلى الجمالي المذكور وعرَّفه أن القول قولُ النَّاظر، وأمروا ابن الطولوني بكشف عمارة الجامع بالمهندسين، ثم أمر بتوجه ابن شيخنا إلى بيته بعد أن باع حينئذٍ شيئًا مِنْ أملاكه، وكان -فيما قال لي ابن الشطنوفي- صولح لجهة الرقف بدون ألف دينار بعد أن كان ابن شيخنا رام أن يقف بجميع المستحقين (1) وغيرهم إلى السلطان ممن استكتبهم بالتعليق لجوامِكهم، فعارض الشطنوفي في ذلك، وهو القائم بأعباء هذه الكائنة، ومع ذلك فما أبدت (2) إلا القهر لصاحب الترجمة بسب ولده، فإنه كان في ضيق صدر زائدٍ وألم شديد بسببه، وتأوُّهٍ كبير، فكل يوم يسمع مِنَ الأخبار ما لم يسمعه بالأمس، وكان يتوجَّه إليه في الجمعة يومًا أو أكثر إلى المكان الذي يكون

(1) في (ح): "بمجمع من المستحقين".

(2)

في (ط): "أثرت".

ص: 644

فيه، فيرجع آخر ذلك النَّهار وهو مسرورٌ لما يرى مِنْ ثبات ولده وقوَّة قلبه وشجاعته وانتظام كلامه ومهارته في ذلك. وأظن أنَّه لم يُمكَّن مِنَ المجيء إلى أهله في عيد الفطر، بل لو لم يقصِدْهُ أبوه للمكان الذي هو فيه، ما تمكن من الاجتماع به. كل هذا ولم يظفروا منه بما كان أملهم فيه ببركة والده.

وعمل حينئذٍ في رجب سنة إحدى وخمسين جزءًا سماه "ردع المجرم عن سبِّ المسلم"، افتتحه بقوله:"أما بعد حمد للَّه الذي عظّم قدْرَ مَنْ آمنَ به وأسلم، والصلاة والسلام على نبيه الذي شرع لأمَّته سُنن الدّين، وبيَّن لهم سَنَن المهتدين وعلَّم، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا يتلقَّون أمره بالقَبُول وسلَّم. فهذه أربعون حديثًا منتقاة مِنْ كتب الصحاح والسُّنن في تعظيم المسلم، والزجر عن سبّه وظنِّ السُّوء به، وتعمُّد ظُلمه في سِلْمِه وحربه، كتبتُها عِظَةً لمن بسط لسانه ويده في المسلمين، مع قلَّة علمه واعوجاجه، وتعرّض لسخط ربّه، واغترَّ بحلمه واستدراجه، انتهاكًا لأعراضهم، واستكثارًا مما يصير إليه من جواهرهم وأعراضهم، عسى اللَّه أن يرزقه التوبة والإنابة، فيقتدي بالسلف الصالح من الصحابة وأتباع الصحابة، واللَّه يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء".

قلت: ولمَّا أبرز لنا صاحب الترجمة هذا الجزء، قلت له: خطر لي أن أسوق أحاديثه بأسانيد للمشار إليه، وأتوجَّه لقراءتها بين يديه، فقال: لا يفيد هذا المقصود، سامحه اللَّه وإيانا.

وكانت هذه الكائنة سببًا لزهد شيخنا بعدُ في المنصب، وكتب لبعض جماعته في أثناء هذه المدة في ضمن رسالة:"والعبد الآن في أقصى غايات الراحة، وكلَّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها اللَّه". انتهى.

وضُبط عنه حينئذٍ أنه قال عن السَّفطي: واللَّه إنه لا يتم سنة. فكان كذلك، بل لم يلبث أن امتحن السفطي بما هو أبلغ في أنواع المحن بالنسبة لمثله، فإنه أدخل حبس أُولي الجرائم، إلى غير ذلك مِنَ العظائم، حسبما بينته في ترجمته من ذيلي على "قضاة مصر".

وكذا قوصِصَ ابنُ الشَّطنوفي في ذلك، فإنه أُقعد بمنزله مدَّةً طويلة

ص: 645

حتى مات في صفر سنة ثلاث وسبعين، ومات له قُبيل ذلك ولد كان يرجو بقاءه بعده ليحُوز جهاته، فاشتد جزعُه عليه. وقد اجتمعت بالشطنوفي وهو في هذه الحالة مرارًا، فرأيتُه يبالغ في الترحُّم على شيخنا، وأنه ليس عنده أعظم منه ولا أرفع. قال: وليس -واللَّه- في جهته شيءٌ، وما أفسد ذلك سوى ابن عبد العزيز وابنه، عفا اللَّه عنهما، وإيانا.

وكان رسول القاياتي يطلب ولد صاحب الترجمة من أبيه الشرف يحيى ابن الشيخ محب الدين البكري أحد المستقرِّين في النقابة عند القاياتي، وأنكر الناسُ مجيئه في هذا الأمر، خصوصًا وهو ممَّن قرأ على شيخنا نحو النِّصف من "البخاري"، وكان والده مِنْ خواصِّه الملازمين عنده مجلسَ الإملاء، وكأنه ما علم أنَّ "أبرَّ البرِّ أن يصلَ الرجلُ أهل ودِّ أبيه" [وفي لفظ:"مِنْ أبر البرِّ أن تصل صديق أبيك". وكذا في الحديث: "احفظ ودَّ أبيك لا تطفئه فيطفىء اللَّه نورك" في أشباه هذا] (1)، وأنَّ شيوخ المرء آباءٌ له في الدِّين. رحمهم الله أجمعين.

[ونحو ذلك حكاية العزِّ الكناني قاضي الحنابلة لي غير مرَّة أنه لو لم يخذل البقاعي بباب القاياتي في كائنته مع الولوي البلقيني التي انجرَّ الخوضُ فيها إلى الإحاطة بالخنجر الذي جرت عادتُه بحمله، حيث أبرزه له بيده، كما وقع له مع ابن أبي السعود، بَرَكَ عليه والخنجرُ بيده، لكونه جلس فوقه، كما أوضحتُ ذلك في محلِّه، لكان أكبر المنارعين لشيخنا عنده، ولكن كان ذلك مِنْ كرامات صاحب الترجمة](2).

ومما كتب به صاحبُ الترجمة لبعض مَنْ قام بتأييد ولدِه في هذه الكائنة، ثم رام منه الأعداءُ العدول عن ذلك قوله:

قل للذي أبدى الجميل سماحا

فأمالَهُ الحُسَّادُ لما ارتاحا

حتى محا إحسانَه بخلافه

فتبدَّلت أفراحُنا أتراحا

واللَّه يشهدُ أنَّني لك شاكرٌ

ما أعقبت أمساؤنا أصباحا

(1) و (2) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).

ص: 646

قلَّدْتَ جيدي حُلْيَ (1) بِرِّكَ فانثنى

لا يستطيعُ عَنِ الثَّناءِ براحا

هكذا قرأته بخطِّ صاحب الترجمة، وكتب ذلك مرة أخرى، فقال:

يا محسنًا أبدى الجميلَ سماحا

فغدا بحُسْنِ صنيعه مرتاحا

فأمالَهُ الحسَّادُ عَنْ مملوكه

فتبدَّلت أفراحُنا أتراحا

وذكرها. . .

ولمَّا امتُحن شيخُنا، بسبب ولده، أيَّامَ القاياتي وغيره، اتَّفق مرورُه في المطالعة بأبياب لابن دقيق العيد يتغزل فيها، وهي:

يا مُنيتي أملي ببابك واقف

والجودُ يأبى أن يكون مُضاعا

أشكو إليك صبابةً قد أترَعت

لي في الهوى كأس الرَّدَى إتراعا

ونِزاعُ شوقٍ لم تزل أيدي النَّوى

تنمي بها حتَّى استحال نِزَاعا

لا أستلذُّ بغير وجهك منظرًا

وسوى حديثك لا ألذ سماعا

لم يبقَ لي أملْ سواك فإن يفُت

ودَّعت أيَّام الحياة ودَاعا

فحفظها صاحب الترجمة، وصار يترنم بها، إلى أن صيَّرها للشكاية لربّه فيما ناله من غريمه، والتضرع إلى اللَّه تعالى، فقال:

يا مالكي أملي ببابك واقفٌ

والفضل يأبى أن يكون مُضاعا

أشكو لك (2) النفسَ التي قد أترعت

لي بالهوى كأس الرَّدى إتراعا

ونزاع خوفي سيِّء العمل اعتدى

يُنميه لي حتى استحال نزاعا

لم يبقَ لي أملٌ سواك فإن يَفُت

ودَّعت أيامَ الحياة وداعا

في وجه عفوكَ جُلُّ قَصدِيَ منظرًا

وسوى كلامِك لا ألذَّ سَمَاعا

(1) في (ب): "حلة"، خطأ.

(2)

في (أ): "إليك"، خطأ.

ص: 647