الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس فيما ورد عليه من الأسئلة المنظومة وجوابه عنها بفكرته المستقيمة
فمن ذلك ما كتب إليه إبراهيم بن عمر البقاعي (1)، ونصُّه:
الحمد للَّه العليِّ (2) الأمجَدِ
…
الجاكمِ العدلِ الجليل السَّيِّدِ
ثم الصلاة مع السلام على الرَّ
…
سولِ وآلِهِ والصَّحب أهْلِ السُّؤْدُدِ
ما قولُ شيخِ العصْرِ حافظِ وقته
…
أستاذِ أهلِ الدَّهر نجمِ المهتدي
زين الزَّمان طرازِه سلطانِه
…
مَلكِ العلوم به الأئمة تقتدي
علَّامةِ الدُّنيا ضِيَا أيامِها
…
عين العبادِ إمامِ كلِّ مُوَحِّدِ
جبلِ الفحول وحَبرهم بل بحرهم
…
قاضي القضاة شهاب ملَّةِ أحمدِ
في ناظرٍ ولَّى عميًّا جاهلًا
…
تدريسَ أخبارِ النبيِّ محمَّدِ
ثمَّ ارتماه حين حقَّق جهله
…
وأقرَّ من يرضى لهذا المقصِدِ
ثم ارتضى الغمرَ الغبيَّ فردَّه
…
وأقرّه مِنْ بعدِ عَزْلِ الأرشدِ
(1) في (ب): "الشيخ بو الحسن إبراهيم. . . ."، وقد كانت هكذا في (ح)، ثم محاها المصنف غفر اللَّه له، وأبدلها بما هو موجود هنا، فانظر إلى خلاف القُرناء ماذا يصنع! نسأل اللَّه السلامة.
(2)
في (ط): "الأعلى".
هل كان تقرير الجهُولِ محرّمًا
…
بَدْءًا عليه عند كلِّ مُسَدَّدِ
وهل التَّفَحُّصُ كان عنه واجبًا
…
قَبْل الولاية يا كريمَ المحتدِ
أو فاسقٍ هو مِنْ وظائف دينه
…
عزل بتقرير الجهول المُعْتَدِ
وبما يُؤدِّبُ ذا العَريّ بفعله
…
إن مَدَّهُ في سَعْيه بتمرُّدِ
لا سيما مع عزل الآهل ومنعه
…
مِنْ غير جُرْمِ ناله يا سيِّدِي
وهل السُّكوتُ لقادِر عن زجرِهِ
…
جُرْمٌ يؤدي للشَّقاوةِ في غدِ
ومن المصادف صحّة تقريره
…
يا منقذَ الحيرى وأحسنَ مرشدِ
فانظم بجدِّك شملَ عبدٍ وانثرن
…
أهلَ الضَّلالةِ بالكلامِ الأحمدِ
فأجابه بعد أن غيَّر في السُّؤال عدَّة ألفاظٍ، وكذا غيَّر غيره ممَّن أخذ عني الشَّطر الأول مِنَ البيت الثالث:
أثني على ربِّي بحمدٍ سرمدي
…
دَأبًا يرُوحُ مع الحياةِ ويغتدي
ثمَّ الصَّلاةُ مع السَّلام الأكملا
…
ن الأطيان على النَّبي محمَّدِ
والآل والصَّحبِ الكرامِ ومَنْ على
…
آثارِهِم مِنْ مُقْتَفٍ أو مقتدي
هذا وإن الناسَ ذا الوقت اقتدَوا
…
في أمر دينهمُ بغير المهتدي (1)
لا يعرِفُون الحقَّ بل هو عندهم
…
كالنَّوم قد فَقَدَتْه عينُ الأرمَدِ
بعضٌ على بعضٍ مشى لكن على
…
طُرُقِ الضَّلالِ وسادَ غير مُسَوَّدِ
وتراأَسَ الأنذالُ فيهم فانْثَنى
…
مَنْ كان ذا تقوى بقلبٍ مُكْمَدِ
وتغيَّرت أحوالُهم فالدِّينُ عا
…
دَ كما بدا في غُربةٍ وتوحُّدِ
يا قلبُ دَعْ هذا وعُدْ لجواب مَنْ
…
وافاك يسأل عَنْ فِعالِ المعتدي
رَكِبَ الهوى فهوى وأقلع نادِمًا
…
ثمَّ ارتمى في غيِّه المتردِّدِ
مَنْ يرتضي الغَمْرَ السَّفيه ويعزلُ الـ
…
ـحُرَّ الرَّشيدَ فذاك غيرُ الأرْشَدِ
(1) هذا البيت لم يرد في غير (ح).
فمتى تعمَّدَ فعلَ ذاكَ وقد درى
…
تحريمه وأصرَّ في الفعلِ الرَّدِي
يفسق ويُعْزَلُ مِنْ وظائِفه وفي
…
تعزيرِه بالعزلِ أقصى المقصِدِ
حتَّى يتوبَ عَنِ اللَّجاجِ وينتهي
…
فيعودُ فيما كان فيه ويبتدي
يا بُؤسَ كلِّ معاندٍ في الحقِّ بَلْ
…
نِعْمَ المساعدُ ثم سَعْدُ المُسْعِدِي
هذا جوابي عاجلًا نظَّمتُه
…
متبلِّدًا عن خاطرٍ مُتَبدِّدِ
وعلى النَّبيِّ مِنَ المليكِ صلاتُه
…
وسلامُه دَأْبي أُتِمُّ وأبتدي
قلت (1): وممَّن أجاب ناظم هذه المسألة عن سؤاله بحاصل ما أجابَهُ بِه صاحبُ الترجمة في مقالهِ جماعة، وهم: مِنَ الشَّافعية: البُلقيني، ومِنَ الحنفية: ابن الدّيري، كلاهما نثرًا ثمَّ نظمًا، وكذا مِنَ الحنفية: العيني، ومن المالكيَّة: الشهاب بن تقي والعلم الأخنائي والبدر بن التَّنسي، أربعتهم نظمًا. ومن الحنابلة: المحبُ بن نصر اللَّه نثرًا ثم نظمًا، وتقرَّرَ عنده الحكمُ منهم.
ثم بعد أزيدَ مِنْ أربعين سنة بَسْبَسَ ووسوس في الوقوع في أشد مما سأل عنه، مع كونه ممَّن لا اعتداد بموافقته ولا مخالفته. ولكن كُلٌّ يعملُ على شاكلته.
إذا رَضِيَتْ عنِّي خيارُ عشَيرتي
…
فلا زالَ غضبانًا عليَّ شِرارُها
وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أعانَ في خُصومةٍ بباطلٍ، لم يَزَلْ في سَخَطِ اللَّه حتَّى ينزعَ". نسأل اللَّه العافية مِنْ كلِّ بليَّةٍ.
وكتب إليه الشهاب أحمد السُّنباطي ما نصُّه، وهو مِنْ نظم القاضي شمس الدين ابن كُمَيل المنصوري كما علمتُه بعد:
يا أيُّها الحبرُ الإمامُ المطلبُ
…
يا فاتحًا أقفالَ ما يُستصْعَبُ
يا قامعًا أهلَ الضَّلال ودامغًا
…
أهلَ المُحَالِ وللجهالةِ مُذْهِبُ
يا مَنْ لعُمْدَةِ عصرنا إنسانُها
…
ولجِلَّةِ العصرِ الطرازُ المُذْهَبُ
أنتَ الشِّهابُ المستضاءُ بنورِهِ
…
فيكَ استضاءَ مَشَرِّقٌ ومُغرِّبُ
(1) مِنْ هنا إلى قوله: "مِنْ كل بليه" لم يرد في (ب) وأضافه المصنف بخطه في هامش (ح).
ما قولُكم في مسلمٍ متزوِّجٍ
…
ثنتينِ للأولى (1) يميلُ ويقرُبُ
وإذا أراد جماعَ الاخرى عاقهُ
…
عُدْمُ انتشارٍ فهو عنها يُحْجَبُ
هل للتي لا يُستطاع جماعُها
…
طلبُ انفساخٍ أم له لا تطلُبُ
إنْ قيل إنَّ لها انفساخًا (2) كيف ذا
…
مع وَطْئِه الأولى وهذا مُعْجَبُ
نرجوا الجوابَ معلَّلًا بدليله
…
مِنْ سُنَّةٍ أو مِنْ قياسٍ يُصْحَبُ
أو مِنْ كتابٍ مُسنَدٍ لأئمةٍ
…
ألفاظُهم بين الورى تُسْتَعْذَبُ
ولك الثَّوابُ عن الجواب إذا بدا
…
يومَ القيامةِ كلُّ هولٍ مُصْعَبُ
عِشْ سالمًا لا فُضَّ فوكَ ولا هنا
…
عيشٌ لمَنْ يجفوك يا ذا المطلبُ
ثمَّ الصَّلاةُ على النَّبيِّ وآلِه
…
ما زَمْجَرَتْ رعدٌ ووافى صيِّبُ
وكتب السَّائل في ظهر السؤال ما حاصله: إنَّه سأل عنه الشيخَ شمس الدين القاياتي، وكان إذ ذاك قاضي القضاة، فلم يُجب عنه بعد أن أقام عنده نحو الخمسين يومًا، لعجزه عَنِ النظم. وألحَّ على صاحب التَّرجمة في الجواب، فكتب، وأُخبرتُ أن ذلك ارتجالًا:
مِنْ بعد حمد اللَّه مَنْ لا يعزُبُ
…
عَن علمِه بادٍ ولا مُسْتَغرَبُ
ثمَّ الصَّلاةُ على النَّبيِّ محمَّدٍ
…
والآل والأتباع ممَّن يُصحَبُ
قال الفقير العبد أحمد مِنْ (3) غدا
…
بين الأنام العسقلاني (4) يُنْسَبُ
العلم أفضل ما اقتناه مكلَّفٌ
…
لا سيَّما الشَّرعي (5) فهو المطربُ (6)
(1) في (ط): "الأولى".
(2)
في (ط): "انفساخ"، خطأ.
(3)
في (أ): "ابن مِنْ"، خطأ.
(4)
في (ب، ط): "العسقلان".
(5)
في (أ): "الشرع".
(6)
في (ط): "المطلب".
الفقهُ والتَّفسير والخَبَرُ الذي
…
يُروى فذاك الموردُ المستَعْذَبُ
وسوى الثَّلاثةِ آلةٌ للمُنْتَهي
…
فيها اللَّسان مِنَ العقول (1) يُهَذَّبُ
وفضيلة المنظوم إن تَكُ فضلةً
…
تُحْمَد وإلا فهو ما لا يعجبُ
ولقَدْ وقفتُ على سؤال مهذَّبٍ
…
في النَّظم يقرُب مِنْ عُلاه الكوكبُ
مستكشِفًا عَنْ حُكم مسألة لها
…
غَوْرٌ وعلةُ حُكمِها قد تَصْعُبُ
إن كان ذو (2) الزوجين يُحْجبُ عنهُما
…
أو كان عَنْ إحداهما يتَحجَّبُ
فالأوَّلُ العِنِّينُ والثاني كذا
…
فالحكمُ للأخرى التي لا تُقرَبُ
ودليلُه حكمُ القياس لنظمِ ذا
…
مع تلك في ققد التِذاذٍ يُطرِبُ
ولأجل ذا ثبتَ الخِيَارُ لها إذا
…
جلّ البلا لهما وعزَّ المطْلَبُ
والرَّافعيُّ مصرِّحٌ بالحكمِ في
…
هذا ومِنْ بعد "الوجيزِ""المطلبُ"
هذا جوابُ العبد أحمدَ راجيًا
…
بعد القَبُولِ العفوَ عَنْ ما يُذْنِبُ
وكتب إليه عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن العديم، [ثم أخبرني الخطيب تقي الدين عبد الرحمن السَّمَنُّودي -وهو ثقة- أنها لوالده شرف الدين يحيى بن شرف الدين موسى بن محمد العسَاسِّي (3) السَّمَنُّودي الخطيب، وأن والده قدَّمها لصاحب الترجمة يوم عَرَضَ ولدُه (المخبِرُ) (4) المذكور عليه "المنهاج"، فأجابه عنها مي الوقت بالجواب المذكور، وهو عنده بخط المجيب، والمسجد بسمنُّود، والكائنةُ معروفةٌ بين أهلها](5):
ما قول سيدنا (المولى)(6) الإمام أبي الـ
…
ـعباس قاضي القُضاة العلم والعَمَلِ
(1) في (ط): "القؤول".
(2)
في (ب، ط): "ذا".
(3)
العساسِّي، ضبطه المصنف في "الضوء اللامع" 10/ 262، فقال: بمهملات أولاها مفتوحة والثانية مشدَّدة. وقد أشار إلى ما ورد هنا.
(4)
و (6) مِنْ (ط).
(5)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
مفتي الأنام ومِصباح الظَّلام ومَنْ
…
له سماءُ الفضل بين النَّاس والدُّوَلِ
في مسجدٍ بسَمَنُّود (1) يؤمُّ به
…
شخصٌ ويأكل رُبْعَ الوَقْفِ لم يُبَلِ
وقد تداعى بناهُ مِنْ جوانبه
…
وناظرُ الوقفِ أمسي عنه في شُغُلِ
فهل يقدِّمُ إصلاحَ المكان على
…
إمامةٍ وبنا ما كان مِنْ خَلَلِ
أم يأخذُ الرُّبعَ والإصلاح يتركُه
…
ويجعلُ الأمرَ موقوفًا على العِلَلِ
أفتي بعلمِكَ ماجورًا تُثابُ على
…
فعلِ الجميلِ وخلِّصنا مِنَ الزَّلَلِ
فأجابه:
الحمد للَّه هادي مَنْ يشاء إلى
…
صراطه المستقيمِ الواضحِ السُّبُلِ
ثمَّ السَّلامُ الذي يتلو الصَّلاة على
…
محمَّدٍ خاتم الأنبياء والرُّسُلِ
وبعدُ، فالأمرُ بالمعروف عزَّ ومَنْ
…
يأتي المناكِر عند النَّهي لم يُبَلِ
عِمَارةُ الوقفِ ما زالت مقدَّمةً
…
إن قالها واقفٌ أو كان لم يَقُلِ
وفي الإمامةِ ما بين الأئمة منْ
…
قبل اختلاف بجَعْلِ الجُعْلِ لم يزَلِ
فلا تقدِّم ما فيه الخلافُ على
…
ذي الاتِّفاقِ فهذا فعلُ ذي خَطَلِ
هذا جوابُ سؤالِ الحَبْرِ سطَّره
…
بخطِّه العبدُ طوعًا أحمدُ بنُ علي
قلت: وقد قال شيخنا أبو النَّعيم رضوان المستملي -فيما قرأته بخطه-: لو قال السائل:
مِنْ بعدِ حَمْدِ إلهي خالقِ الدُّولِ
…
ثم الصَّلاة على مَنْ سادَ في الرُّسلِ
ما قولُ سيِّدِنا قاضي القضاة [أبي الـ
…
ـفضلِ] (2) الذي شهدت بفضله فضَلاء العِلْمِ والعَمَلِ
(1) في (ب، ط) ومختصر السفيري: "بدمنهور".
(2)
ما بين حاصرتين ساقط مِنْ (ط)، ركب المصنف بخطه في هامش (ح):"لعله: ما قول سيدنا الحبر الذي شهدت".
لسَلِمَ مِنْ كُنيته (1) بأبي العباس، ولأتى بالسُّنَّة في البداءة بالصَّلاة والسَّلام على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكتب إليه الزَّينُ عبدُ اللطيف بن الشمس محمد بن جمال الدين عبد اللَّه الجَوْجَري:
قاضي القُضاة وصاحبَ الجاهِ الوفي
…
قلبي يحدِّثُني بأنَّك مُنصفي
هذا سؤال غيرَ بابِكَ لم يَزُرْ
…
أحدًا وكيف يزورُ مَنْ لم يعرفِ
في حالفٍ بطلاقه وعِتاقه
…
ابن النُّباتةِ فاق أشعار الصَّفي
فأجابه رجلٌ بمثل يمينه
…
أن الصَّفيَّ زلالهُ العذب الصَّفي
وله "البديعة" والبديع بنثره
…
وبنظمه خلقٌ بغيرِ تكلُّفِ
فأبِنْ بفضلٍ عن سؤالي (2) شافيًا
…
فلعلَّ نارَ جوانحي أن تنطفي
فأجابه بقوله:
يا مَنْ يُسائِلُني عن ابنِ نُباتةٍ
…
وعَنِ الصَّفي الحلِّيِّ كيما يَصْطَفِي
اسمع مقالة عادلٍ في حُكْمِهِ
…
بالذَّوف لا يُصغي لِمَنْ لم يُنصِفِ
مصرِيُّنا في نظمه أحلى ومَنْ
…
رام انسجامًا راقه شِعْرُ الصَّفي
وطريقةُ الحِلِّيِّ شارَكهُ بها
…
مَنْ ليس يُحصى مِنْ شهيرٍ أو خفي
وجمالُنا سَلَكَ الطَّريق الفاضِليَّـ
…
ـةَ فاكتسى منها الجمالَ اليوسُفِي
في نظمه الزَّاهي وفي منثُورِه الـ
…
ـباهي وفي الحظِّ القويِّ وفي وفي
ويقال: إنَّ الشَّيخ سعد الدين بن الدَّيري سُئل عن ذلك أيضًا، ولم يكن حينئذٍ قاضيًا، وأنَّه ابتُدىء السؤال بقوله: شيخ الشيوخ، فأجابه بقوله:
يا سائلي عن حالِفَيْنِ تجاذبا
…
طَرَفيْ نقيضٍ مع ألِيَّة مسرفِ
(1) في (ط): "تكنيته".
(2)
في (أ، ب): "سؤال"، والمثبت مِنْ (ط، ح) و"جمان الدرر" و"مختصر السفيري".
قد حادَ كلٌّ عن سواء مَحَجَّةٍ
…
إذ أطلق التَّفْضيل للمستوصِفِ
إني وقد عزَّ (1) التَّفاضل فيهما
…
في الجانبين فمن بقي لم يعرفِ
ولئن سما نظمْ لنَجْلٍ نُباتةٍ
…
بتغزُّلٍ وترفُّقٍ وتألُّفِ
وقريحةٍ شقَّت معاني أنبأتْ
…
عَنْ حُسْنِ مأخذ مُنْشِىءٍ أوْ مَقْتفِي
فلكَمُ جَنَتْ (2) أيدي البديع جنًى دَنَا
…
وصفا لمُشْتَارٍ مِنَ الدُّرِّ الصَّفي
إن لم يكن كلٌّ بدا متأوِّلًا
…
فالحِنْثُ حَتْمٌ لازمٌ لا يختفي
لكن أعم نظام الأوَّل فائقٌ
…
عند الأعمِّ فبَرُّ ناويه وفي
ولربَّما اقتضت البواطنُ ضدَّ ما
…
اقتضيتِ الظَّواهرُ فاحكُمَنْ بتوقُّفِ
هذا وتركُ الخوضِ في أمثال ذا
…
أولى وأسلمُ منْ شباكِ الموقفِ
وكتب إليه التَّاجُ عبد الوهاب بن شَرَف (3) ما سمعته منه، فقال:
يا مَنْ قطفتم مِنَ الآداب أزهارًا
…
ومِنْ علوم النُّهي والنَّقْلِ أثمارا
ماذا تقُولُون في أمرِ الوباءِ إذا
…
نجمُ الثُّريا بدا مِنْ بعدِ ما غارا
وما المُرادُ مِنَ الغُفْرانِ تسألُه
…
عنِ الصِّغار وما فارَقْنَ أوزارا
فاغنَم ثوابَيْنِ مِنْ أجل ابنِ مسألةٍ
…
فقد تركت (4) له سمعًا وابصارا
فأجاب:
إذا الثُّريَّا صَبَاحًا حين تطلُع لا
…
يخشي على (5) الزَّرْعِ مِنْ عاهاته عارا
(1) في (ب، ط): "عرف".
(2)
في (أ): "جنى".
(3)
هو عبد الوهاب بن محمد بن محمد الجوهري، ترجمة المؤلف في الضوء اللامع 5/ 110 - 112، وأشار إلى هذه المسألة التي هنا.
(4)
في (ب، ط): "تركن".
(5)
في (أ): "مِنْ".
كذا روى الطبراني في "الصغير" وعن
…
أبي حنيفة جا التَّقييدُ أثمارا
وجاء عامًا بلفظ النَّجم في السُّنَنِ الـ .... ـشَّهير عند أبي داود أذكارا
وحكمة الغُفْرِ للأطفال قد بَلَغَتْ
…
سَبعَ احتمالاتٍ جلَّ اللَّه غَفَّارا
قلت (1): النَّجمُ: هو الثُّريَّا، كما بينه الطبراني في "الصَّغير" عَقِبَ روايته، وطلوعُها صباحًا يقع في أوَّل فصلِ الصَّيف، وذلك عند اشتداد الحرِّ في بلاد الحجاز، وابتداء نضج الثِّمار (2).
وقد ذكر شيخُنا المسألة في بيع الثمار قبل أن يبدُو صلاحُها مِنْ "شرح البخاري" ولفظ الحديث، وهو عند أبي داود مِنْ طريق عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة، رفعه:"إذا طلع النَّجمُ صباحًا، رُفِعَتِ العاهةُ عَنْ كلِّ بلدة"، وكذا هو عند أبي حنيفة عن عطاء، مع اقتضاء النظم لخلافه.
نعم. قال أبو يوسف صاحبه: تفسير العاهة أن تُرْفَعَ عَنِ الثِّمار. قال: والنَّجم الثريا.
وروى أحمد مِنْ طريق عثمان بن عبد اللَّه بن سُراقة، قال: سألتُ ابنَ عمر عن بيع الثِّمار، فقال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الثِّمار حتَّى تذهبَ العاهَةُ. قلت: ومتى ذلك؟ قال: حتى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا.
لكن قد عزا شيخُنا في "شرحه" لفظ "رفِعَتِ العاهةُ عنِ الثمار" لرواية أبي حنيفة عن عطاء، وهو موافق لما في النَّظم، إلا أني لم أقف عليه كذلك، فيُحَرَّر.
ولا بأس بذكر الاحتمالات المشار إليها هنا لتتمَّ الفائدة.
(1) مِنْ هنا إلى قوله: "فيحرره" لم يرد في (ب) وقد أضافه المصنف بخطه في هامش (ح).
(2)
في (ط)، "النهار"، وهو تحريف.
قال صاحب الترجمة، وقد سئل عن قولهم في الصَّلاة على الجنازة:"اللهم اغفِرْ لحيِّنا وميِّتِنا وكبيرِنا وصغيرنا"، هل هو أمرٌ نسبىٌّ، وكلاهما مكلَّف، أو المراد بالصَّغير غيرُ المكلَّف؟ في نصه: يحتمل أوجُهًا:
أحدها: أن يكونَ المراد ما أشير إليه في السؤال، وهو اختصاص ذلك بالبالغين، والصَّغير والكبير فيهما نسبي.
ويحتمل أن يكون أيضًا خاصًا بهم، والصَّغير والكبير في الصفات لا في الأعمال.
ويحتمل أن يكون على عمومه في البالغ وغير البالغ، لكن مَنْ لم يبلُغ منهم يكون المرادُ بطلب المغفرةِ له تعليقها ببلوغه إذا بلغ، وفعل ما يحتج إلى المغفرة.
ويحتمل أيضًا أن يكون طلبُ المغفرة لغيرِ البالغ ينصرف إلى والديه، أو أحدهما، أو إلى مَنْ ربَّاه.
ويحتمل أن ينصرف إليه برفع منزلته مثلًا، كما في البالغ الذي لا ذنب له إذا فرض، كمن مات بعد بلوغه بقليل، أو بعد إسلامه الخالص بقليل.
ويحتمل أيضًا أن يتخرَّج على أحدِ أقوال العلماء في الأطفال، وعلى أحد أقوال العلماء في المراهق، وكذلك مَنْ بلغ العشر مِنَ السِّنين، فإنَّ كلَّ ذلك محتملٌ، لأن المسألة اجتهاديَّةٌ، فيحسُنُ الدُّعاءُ لهم باعتبارِ ذلك.
وهذا ما فتح اللَّه به مِنْ جواب هذا السؤال، ولم أقف على مَنْ جمع في هذا الجواب بين هذه الاحتمالات، واللَّه سبحانه وتعالى المانُّ بفضله. انتهى.
وحكي لي أن هذا الناظم لم يكتفِ بجوابِ صاحبِ التَّرجمة، وأنَّه كتبَ للبدر العينيِّ ما نصه:
ماذا يرى عين الورى العَينيُّ في
…
حُكْمِ الوَبا إذا به النَّجْمُ الخَفِي
وسؤالنا الغفرانَ عندَ دُعائِنا
…
لصغيرنا ونراه غيرَ مكلَّفِ
فاغنم إجابةَ سائل مُتَضَرِّعٍ
…
يا أيُّها البحر العبابُ الحَيْرَفي
إني اهتديتُ بِسُؤْلِ غيرِكَ ضِلَّةً
…
فظفرت مِنْ سؤلي بغيرِ معرِّفِ
فامتنع البدرُ مِنْ الجواب كما حكاه لي مَنْ كان عنده. وقال: إذا كان هذا المقول في فلان، فماذا يقولُ فينا، أو في غيره، أو كما قال.
وكتب إليه المذكور أيضًا، كما قرأته بخطه:
يا مَنْ يقولُ النَّثرَ درًا أزهرا
…
والنَّظمَ ياقوتًا توقَّدَ أحمرا
ماذا يصحُّ روايةً ودِرايَةً
…
فيما حكوه (1) مِنَ السَّماء إلى الثَّرى
فأجاب:
قد صحَّ خمس مِئن رواه الترمذي
…
وإلى أبي ذرٍّ عزاه مقرَّرا
أو عشر سبع مِئنْ وثنتان روى
…
هذا أبو داود فيما حبّرا
والجَمْعُ أنَّ الخمس للسِّير البَطِي
…
والسبع (2) للثاني والأوَّل شهرا
قلت: وما نسبه إلى الترمذي في خصوص كونه مِنْ حديث أبي ذر أشهر. والذي في الترمذي -وكذا عند أحمد- إنما هو مِنْ حديث الحسن عن أبي هريرة رفَعَهُ: "إنَّ بينَ كل سماء وسماءٍ خمسمائة عامٍ، وإنَّ سُمْكَ كلِّ سماءٍ كذلك، وإنَّ بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ خمسمائة عامٍ".
نعم، حديث أبي ذرٍّ أخرجه إسحاق بن راهويه والبزَّار في "مسنديهما"، ولم يبين شيخنا صحابى حديث أبي داود، وهو عنده، وكذا الترمذي وابن ماجه جميعًا مِنْ حديث العبَّاس بن عبد المطَّلِب مرفوعًا:"بين كلِّ سماء وسماء إحدى أو اثنان وسبعون سنة".
(1) في (ط): "رويت".
(2)
في (ب، ط): "والسعي".
وجُمع بينهما -كما أشار إليه شيخُنا- بأن اختلاف المسافة بينهما باعتبار بطء السير وسرعته. انتهى.
وقد سأل عن هذا السؤال بعينه -لكن نثرًا- الشيخ جلال الدين المحلي، وأجابه صاحب الترجمة عنه بما أثبته في موضع آخر، واللَّه المستعان.
وكتب إليه الشريف صلاح الدين محمد بن أبي بكر الأسيوطي يوم ختم "شرح البخاري" وهم بالتَّاج ما نصه: ما يقول شيخ المُحَدِّثين الأقدمين والمُحدَثين، فائق الكمال والإكمال بتهذيبه وتقريبه، غُنْيَةُ الطَّلبَة، كفاية الطَّلِبَة، نهاية الأرب في فنون الأدب، علَّامة ذوي الألمعية، قاضي قضاة الشافعية، أدام اللَّه مسراته، وحفظه وسراته، في قول القائل، وإن لم يكن طائل:
لك الهنا بفضل منك يشمَلُنا
…
معنًى وحسًّا بموجودٍ ومعدومِ
كم للبخاريِّ مِنْ شرحٍ وليس كما
…
قد جاء شرحُكَ في فضلٍ وتتميمِ
شروحُها الذَّهبُ الإبريزُ ما حَظِيَتْ
…
بمثلِ ذا الخَتْمِ في جمعٍ وتكريمِ
وشرحك الرائح المصريُّ بهجتُها
…
وهل يوازَنُ إبريزٌ بمختُومِ
وفي هذا الثاني العاني بما اشتمل مِنَ المعاني:
أقاضي (1) قُضاة الدِّين حقًا بليغَهم
…
ومَنْ هو في أوج (2) المعاني كلامُهُ
شروح البخاري مُذْ سُقِينَا رحيقَها
…
أتى شرحُك الوافي ومِسْكٌ ختامُهُ
هل بينهما تواخِي، أم لأحدهما عن الآخر تراخي؟ وهل صاحب هذه البيوت في قصور، أم حام حول خام مَنْ عليه الحُسْنُ مقصور؟ وهل له في مجاري الأدب أدنى يُنبوع، وما بحكم به الذَّوقُ السليم المطبوع؟
(1) في (ب): "أيا قاضي".
(2)
في (أ): "أوجي"، وفي (ط):"أرج".
فإن تفضَّلتم الآن بجواب، فغيرُ بِدْع أنَّه يومُ الإجابة، مِنْ عدَلْتُم للاسترواح إلى غدٍ، فذاك عينُ الإصابة، ورأيُكم العالي أعلى، وحسبُنا اللَّه ونعم الوكيل.
فكتب ما نصه: أسألُ اللَّه حُسْنَ الخاتمة. ذقتُ حلاوة هذه الممالَحَةِ، وشرَحْتُ صدري بلطافة هذه المطارحة، وتبيِّن أن ناظِمَها واحدٌ حِسًّا ومعنى، بل أوحدُ في حُسْنِ التَّلطُّفِ وزيادةِ الحسنى، وهما يتجاذبان الجَوْدَةَ مِنْ هنا وهنا كالفرقدين، إذا تأمل ناظر. . . إلى آخره.
وكتب له الكاتب لي (1) بالإجازة الإمام شمس الدين محمد بن الخضر بن المصري من القدس الشريف ضمن مطالعة ما نصه:
يا حَافِظَ العَصْرِ ويا مَنْ له
…
تُشَدُّ مِنْ أقصى البلادِ الرِّحَالْ
ويا إمامًا للورَى أمَّةً
…
محطُّ آمالِ الثِّقاتِ الرِّجالْ
ابن العمادِ الشَّافعيِّ ادَعى
…
رودَ ما فَاهَ بِهِ في المَقَالْ
"شراركم عزَّابكم" إنه في الـ
…
الخَبَرِ المرويِّ حقًّا يُقَالْ
فهل أتى مِنْ مُسْنَدٍ ما ادّعى
…
أو أثرٍ يَرويه أهلُ الكمالْ
بَيِّن رعاكَ اللَّه يا سيِّدي
…
جوابَ ما ضمَّنْتُه في السُّؤالْ
لا زلت يا مولى لنا دائمًا
…
في الحال والماضي كذا في المآلْ
فأجابه بقوله:
أهلًا بها بيضاءَ ذاتَ اكتحالْ
…
بالنَّقْشِ يزهُو ثوبُها بالصِّقالْ
مَنَّتْ بوَصْلٍ بعد بُعْدٍ شفى
…
مِنْ ألمِ الفُرقة بعدَ اعتلالْ
تسألُ هَلْ جاء لنا مُسْنَدًا
…
عَنْ مَنْ له في المجدِ شأوُ الكَمَالْ
ذمُّ أُولي العُزْبَةِ قلنا: نعم
…
مَنْ مال عَنْ إلْفٍ وفي الكَفِّ مالْ
(1) في (أ): "له"، خطأ. وقد ترجمه المصنف في "وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام" 2/ 556 وقال: أجاز لي.
أخرجه أحمد والموصلي
…
والطبراني الرحَّال الصَّوَّالْ (1)
أراذلُ الأمواتِ عُزَّابُكم
…
"شرارُكم عُزَّابكم" يا رِجالْ
مِنْ طُرُقٍ فيها اضطرابٌ ولا
…
تخلُو مِنَ الضَّعف على كلِّ حالْ
وكتب إليه ابن المصري مِنَ القدس أيضًا ما نصه:
أسيدنا قاضي القُضاةِ ومَنْ غدا
…
يُفيد طُلَّابَ العِلْمِ كلَّ غريبِ
حديثًا روينا في "ابنِ ماجَةَ" مسندًا
…
بلفظ أبي الدَّرداء خيرِ حبيبِ
فمعناه خيرُ الرُّسْلِ لم يخْشَ فقرَنا
…
يصدِّقُ هذا قلبُ كلِّ مُنيبِ
سوى صَبَّةِ الدُّنيا علينا تزيغُنا
…
إلهيَّة في الزِّيغِ زَيغُ عجيبِ
فكُلٌّ نَحَا في النُّطق فيه مخالفًا
…
لصاحبه معناه غيرُ قريبِ
فبيِّنْ رعاكَ اللَّه تحريرَ متنِه
…
وألفاظِه بالقَوْلِ قولَ مصيبِ
فلا زلت يا مولى (2) لكل ملمة
…
فأنتَ إمامي في الورى ومُثيبي
فأجابه بقوله:
سألتَ رعاكَ اللَّه يا شَمْسَ دينِه
…
لتُشْرِقَ إشراقًا بغيرِ غُروبِ
وتُبدي لطُلَّاب العلوم فضائلًا
…
بأسئلة تَسْمُو (3) لكلِّ مُجيبِ
فلبَّيْكَ ألفًا عن دعائِكَ مُسْرِعًا
…
ولو كنت بالأقصى فخيرُ قريبِ
وإنَّ التي قد (4) أشكَلَتْ جملةٌ جرى
…
بها قلمٌ ما كان خطَّ أريبِ
فإلا للاستثناء مِنْ بعدِ هاهيَه
…
تلى هِيَ هاءُ سكت وغيرُ غريبِ
بقارِعَةِ القُرآن قد سُكِّنَتْ إذا
…
وقفت ودَمْجًا عندَ كلِّ أديبِ
(1) في (ط): "الثقات الرجال"، وفي هامش (ح):"لعله الرحلة".
(2)
في (ب): "مأمولًا"، وفي (ط):"يا مولانا".
(3)
"تسمو" ساقطة مِنْ (ب).
(4)
في (ط): "وإن الذي".
ومِنْ دَونِ هاءِ السَّكْتِ جاءت روايةٌ
…
فلَمْ يَبقَ شكٌّ بعدَها لمُرِيبِ
وكتب إليه ابن المصري أيضًا:
أسيِّدنا قاضي القضاة ومَنْ له
…
علينا أيادِ لا تَنَاهى تَعَدُّدَا
سؤال طرا: في أي موطنٍ قد أتت
…
حياةٌ لميْتٍ بعدما كان مُلْحَدَا
بأمرِ الذي لولاه ما عُرِفَ الهدى
…
ولا أتهَمَ السَّاري إليه وأنْجَدَا
وهذا "الشِّفا"(1) فيه دليلٌ وإنَّما
…
يَرُوم زيادات بحفظك يُقتَدَى
فبيِّنْ -رعاك اللَّه- يا حافظًا حوى
…
مِنَ السُّنَّةِ الغَرَّاءِ صدرًا ومَوْرِدَا
فأجابه:
نعم عاش أمواتٌ بدعوَةِ مَنْ أتى
…
مِنَ اللَّه للأحياء بالنُّور والهُدَى
فمنها ابنُ مَنْ قَد هاجَرَت ودعت
…
وقد قَضى عاشَ عَيْشًا حيًّا طيبًا ومُرْغِدَا
ومنها التي ماتت بوادٍ فخُيِّرَتْ
…
ومنها ذراعُ الشَّاة تنهى عَنِ الرَّدى
فهذا الذي يحوي "الشفا"، وبغيره
…
إعادةُ إبراهيمَ مِنْ بعدِ ما ارتدا
ومثلُ ذراعُ الشَّاة شاةُ الَّتي دعت
…
إلى دارِها قالت: أُخذتُ بلا فدا
وأصرَحُ مِنْ كلٍّ شُوَيْهَةُ جابرٍ
…
دعا فلقد كادت تُلَبِّي له النِّدا
وأصدَرها للبيتِ مِنْ بعدِ ذبحِها
…
عليه سلامُ اللَّه مثنى وموحدا
ثم قال السائل: فهذه سبعةُ أشياء ما بين بهيمةٍ تنطقُ بعد الموت وإنسانٍ كذلك، واحدٌ بالفعلِ وآخرُ بالقوَّة، وما بينَ مَنْ عاش بعد الموتِ، إمّا إنسانٌ وإمّا بهيمة، وشرحُ ذلك:
أما القصة الأولى، فذكرها عياضٌ عَنْ أنسٍ، أنَّ شابًا مِنَ الأنصار توفي وله أمُّ عجوزٌ عمياء. قال: فسجيناه وعزَّيناها (2)، فقالت: مات ابني؟
(1) أي: كتاب الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض رحمه الله.
(2)
في (أ): "وعزيناه".
قلنا: نعم. قالت: اللَّهُمَّ إن كنتَ تعلمُ أنِّي هاجرتُ إليك والى نبيك رجاءَ أن تُعينَني على كلِّ شدَّةٍ،، فلا تحملنَّ عليَّ هذه المصيبة. قال: فما بَرِحْتَا أن كشفَ الثَّوبَ عَنْ وجهه، فطَعِمَ وَطَعِمْنا.
وأمَّا قصَّةُ ذراعِ الشَّاة التي سُمَّتُ بخيبر، فأصلها في الصحيحين وغيرهما مِنْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفطه عَنْ أبي داود: أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخيبرَ شاةً مَصليَّةً سمَّتها، فأكل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم منها وأكلَ القومُ، فقال:"ارْفَعوا أيدِيَكم، فإنَّها أخبرتني أنها مسمومة".
ورواه البزار مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه بلفظ: "إنَّ عُضْوًا مِنْ أعضائها يُخبرني أنَّها مسمومةٌ". ورواه مِنْ حديث أبي سعيد رضي الله عنه ونحوه.
وفي حديث جابر رضي الله عنه: "أخبرتني هذه الذراع".
ومن حديث كعب بنِ مالك رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم للمرأة:"هل سَمَمْتِ هذه الشاة"؟ قالَت: مَنْ أخبرك؟ قال: "هذا العظمُ"، لساقها، وهو في يده. قالت: نعم. أخرجه الطبراني.
وأما قصة الذي وَأَدَ بنتَه، فذكرها عياضٌ عَنِ الحسن مرسلًا، قال: جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنَّه طرح بُنَّيةً له في وادي كذا، فانطلق معه إلى الوادي، فقال لها باسمها:"يا فلانة، احْيي بإذن اللَّه"، فخرجت وهي تقول: لبَّيكَ وسعدَيْكَ، فقال لها:"إن أبويك (1) قد أسلما، فإنْ أحبَبْتِ أن أرُدِّك عليهما". قالت: لا حاجة لي فيهما، فقد وجدتُ اللَّه خيرًا لي منهما.
وأما قصة إبراهيم، فرواها أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نُبَيط بن شُريط (2) في "نسخته" المشهورة عن أبيه، عن جده إبراهيم، وكان قد أدركَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فمات عنده، فبعث النبىُّ صلى الله عليه وسلم إلى أمِّه الفُرَيعَة (3) بنتِ جابر أنَّ
(1) في (أ): "أبواك" خطأ ..
(2)
في (ط): "شريك"، خطأ.
(3)
في (أ، ح): "العذيقة" وقد أوردها الحافظ ابن حجر في الإصابة 8/ 168، فقال: فريعة أم ابراهيم بن نبيط. . .
ابنَك إبراهيم قد مات، فقالت: الحمد للَّه. اللهم إنِّي قد هاجرتُ إليك وإلى نبيِّكَ، ليكون لي عندَ كلِّ مصيبةٍ، فلا تحمل عليَّ هذه المصيبة اليوم. قال: فأحياه اللَّه عندَ ذلك، وأكلَ وطَعِمَ بين يدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وهذه تُشبه القصَّة الأولى، إلا أنَّه قال في الأولى: إنَّ الشَّابَ مِنَ الأنصار، وإبراهيم بنُ نُبَيْطٍ أشجعي، فالظَّاهرُ التَّعدُّدُ.
وأما قصة تخيير والدِ الميت، فرواها أبو نعيم في "الدلائل" مِنْ طريق مَيْسَرٍ الحلبي، عن عتبة بن ضُمَيْرَة، قال: سمعت والدي يقول: كان لرجل صِرْمَةٌ مِنْ غنم، وكان له ابنٌ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدحٍ مِنْ لبنٍ إذا حَلَبَ. ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم افتقده، فجاء أبوه، فأخبره أنَّ ابنه هلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتريدُ أن أدعَوَ اللَّه تعالى أن ينشُرَهَ لك، أو تصبر. فيُدَّخَرَ لك إلى يوم القيامة، فيأتِيَك فيأخُذَ بيدك، فينطلق بك إلى باب الجنَّةِ، فتدخُل مِنْ أيِّ أبوابها شئت"؟ فقال الرجل: ومَنْ لي بذلك يا رسول اللَّه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لك ولكلِّ مؤمنٍ".
وأما قصَّة المرأة التي دعتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى طعامٍ، فقدَّمَتْ بينَ يديه شاةً، فلما أراد أن يأكُلَ، قال:"إنَّ هذه لشاة أُخِذت بغيرِ حقٍّ"، فأصلها في "سنن أبي داود" وغيره.
وذكرها صاحب "شفاء الصدور" بلفظ: أنَّ امرأةً رأتِ النبىَّ صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن تُطعِمَه شيئًا، ولم يكن عندها شيءٌ، فذكرتْ عند جارتها عَنَاقًا، وكانت جارتُها غائبةً، فقالت: إنَّها لا تمنَعُني، فذَبَحَتْها، ثمَّ شوتها وقدَّمتها بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن هذه العَناقَ لتُخبرني أنَّها أُخِذت بغيرِ حقٍّ"، فقالت المرأة: قد كان ذلك.
وأما قصة شاةِ جابرٍ رضي الله عنه، فأخرجها أبو نعيم في "الدَّلائل" مِنْ طريق أبي البدَّاح بنِ سهل، عن أبيه سهل بن عبد الرحمن، عن أبيه عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك الأنصاري، قال: أتى جابرُ بنُ عبد اللَّه رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليه السلام. قال جابر: فرأيتُ في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تغيرًا (1)، وما أحسبه تغيَّر إلا مِنَ الجوع، فقلت
(1) ساقطة مِنْ (أ).
لامرأتي: هل عندَكِ مِنْ شيءٍ؟ قالت: واللَّه ما لنا إلا هذه الدَّاجنُ وفَضْلَةٌ مِنْ زاد نعلِّلُ بها الصِّبيانَ، فقلت لها: هل لك أن تذبحي هذه الدَّاجن، وتصنعين ما عندك، ثم نحمِلُه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أفعل ما أحببتَ مِنْ ذلك.
قال: فذَبَحت الداجن، وصنعت ما كان عندها، وطحنَتْ وخبَزَتْ وطبخت، ثم ثرَدَتْها في جفْنَةٍ لنا، فوضعتُ الدَّاجِنَ، ثم حملتها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوضعتُها بين يديه، فقال:"ما هذا يا جابر"؟ قلت: يا رسول اللَّه، ظننتُ أنَّ وجهَك لم يتغيَّر إلا مِنَ الجُوعِ، فذبحتُ داجنًا كانت لنا، ثمَّ حملتُها إليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يا جابرُ، اذهبْ فادعُ لي قومك". قال: فأتيتُ أحياءَ الأنصارِ، فلم أزل أجمعُهم، فأتيتُه بهم، ثم دخلتُ إليه، فقلت: يا رسول اللَّه، هذه الأنصار قد اجتمعت. قال صلى الله عليه وسلم:"أدخلهم عليَّ أرسالًا". فكانوا يأكلون منها، فإذا شبعَ قومٌ، خرجوا ودخل آخرون، حتَّى أكلُوا جميعًا، وفَضَلَ في الجَفْنَةِ شِبْهُ ما كان فيها.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "كلوا ولا تَكْسِرُوا عظمًا". ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جَمَع العظام في وسط الجَفْنَةِ، فوضع يده عليها، ثم تكلَّم بكلامٍ لم أسمَعْه، إلَّا أنِّي أرى شفتَه تتحرك، فإذا الشَّاةُ قد قامت تنفُضُ أذُنيها، فقال لي:"خذ شاتك يا جابر، بارك اللَّه لك فيها"، فأخذتها ومضيت، فإنها لتُسارعني بأذنها، حتى أتيتُ بها البيتَ، فقالت لي المرأة: ما هذا يا جابر؟ قلت: هذه شاتُنا التي ذبحناها لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، دعا اللَّه، فأحياها لنا. قالت: أشهد أنه رسول اللَّه. انتهى.
وأصل هذا في الصحيح باختصار بدون قصَّةِ إحياءِ الشَّاة، وهذا الإسناد لا بأس به، وهو أصرحُ ما رأيتُ في هذا الباب، واللَّه أعلم.
وكتب إليه قاضي صفد ثم دمشق حسام الدين بن بريطع الحنفي، وهو محمد بن عبد الرحمن بن العماد ابن قاضي غزة، بعد أن قرأ على صاحب الترجمة شيئًا مِنْ شرح "ألفية الحديث" للعراقي ما نصه:
ماذا يقولُ إمامُ العصر سيِّدُنا
…
قاضي القضاة أدامَ اللَّه أيامَهْ
هل صحَّ نقل بأنَّ الشَّافِعيَّ لَقِي
…
يعقُوبَ بعدَ بُلوغِ الحَبْرِ أحلامَهْ
وابن الحسن معه عند الرَّشيدِ وهل
…
أبدى السُّؤالَ الذي استشكلا أحكامَهْ
وهل هما عجزا فيما سأله فجُدْ
…
بالرَّدِّ فأنت وحيدُ الدَّهْرِ علاْمَهْ
فأجابه بقوله:
ما صح لُقْيَا الإمام الشَّافعي أبا
…
يوسف (1) يومًا ببغدادٍ ولا شامَهْ
وما روى البلويُّ في رحلةٍ شُهِرَتْ
…
قد ردَّه ونفاه كلُّ علَّامَهْ
ولائحٌ أثرُ الوضع المنمَّقِ في
…
تلكَ المسائلِ لا برضاهُ فهَّامَهْ
هذا جواب محبٍّ في الجميع غدا
…
مُنَاهُ أن يغفِرَ الرَّحمن آثامَهْ (2)
(1) في (ط): "لنا يعقوب"، وقد كتب المصنف في هامش (ح):"لعله: لنا يعقوب".
(2)
قال السفيري في "مختصر الجواهر والدرر" بعد إيراد جواب الحافظ ابن حجر: قلت: وقد أوضح ذلك صاحب الترجمة في كاتب مناقب الشافعي، المسمى بكتاب "توالى التأنيس بمعالى ابن إدريس" فقال: وأما الرحلة المنسوبة الى الشافعي المروية مِنْ طريق عبد اللَّه بن محمد البلوي، فقد أخرجها الآبري والبيهقى وغيرهما مطولة ومختصرة، وساقها الفخر الرازي في "مناقب الشافعى" بغير إسناد، معتمدًا عليها، وهي مكذوبة، وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفَّق مِنْ روايات مفرَّقة، وأوضح ما فيها مِنْ الكذب قوله فيها: إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرَّضا الرشيد على قتل الشافعي. وهذا باطل مِنْ وجهين:
أحدهما: أن أبا يوسف لما دخل الشَّافعي بغداد كان مات، ولم يجتمع به الشافعي.
والثاني: أنهما كانا أتقى للَّه مِنْ أن يسعيا فى قتل رجل مسلم، لا سيما وقد اشتهر بالعلم، وليس له إليهما ذنب إلا المدلة على ما آتاه اللَّه مِنْ العلم، وهذا مما لا يُظَنُّ بهما وإن علمهما وجلالتهما وما اشتهر مِنْ دينهما ليصُدَّ عن ذلك.
والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة أن قدوم الشافعى بغداد أول ما قدم كان سنة أربع وثمانين، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك مِنْ الحجاز، وأخذ عنه ولازمه، فكان محمد بن الحسن يبالغ في إكرامه والتأدُّب معه والاغتباط به.
قلت: وقد أورد البصروي في "جمان الدرر" مثل ذلك، ونقل مثله أيضًا عن النووي في "تهذيب الأسماء واللغات".
وكتب إليه بعض الطلبة ما نصه:
جوابكم يا حافظَ العصرِ والذي على
…
عذبه الصَّافي يسوغُ التَّيمُّمُ
ويا مُزْنةً مِنْ رَحْمَةِ اللَّه أُرسِلَتْ
…
قوابِلُها الهامي علوم وأنعم
إذا أثبتَ القاضي ثُبوتًا مجرَّدًا
…
وما عنده مِنْ مانع فيه يعلمُ (1)
ولم يحكم القاضي ولا غيرُه به
…
فذو الحقِّ مدفوعٌ عَنِ الحقِّ مُعْدَمُ
فهل دفْعُه عَنْ صاحبِ الحقِّ حقَّه
…
ولا مانعٌ في الشَّرع فعلٌ محرَّمُ
فأجابه:
يقول الفقير العبدُ أحمدُ ذو الغِنَا
…
بربٍّ قويٍّ حمدُه مُتَحَتِّمُ
إذا الحاكم استوفى الشُّروطَ فمنعُه
…
مِنَ الحُكْمِ مِنْ بعدِ الثُّبوتِ تحكُّمُ
ولا سيما أن طالِبَ الحقِّ جاءه
…
فقال له: احكُمْ فالدِّفاع محرَّمُ
وأما إذا كان الثَّنائي لمقتضٍ
…
فلا لَوْمَ فيما يقتضيه التَّلوُّمُ
فهذا جوابي مع شواغِلَ أوجَبَتْ
…
تأخُّرَه يومين واللَّه أعلمُ
وكتب إليه بعض الطَّلبة أيضًا يلتمسُ منه الجواب عن السُّؤال المشهور الذي أجاب عنه العلاء (2) القونويُّ شارح "الحاوي"، وهو مِنْ نظم بعض الزَّنادقة، قاله على لسانِ بعض يهودِ الشَّام، وهو:
أيا علماءَ الدِّين ذِمِّيّ دينِكم
…
تحيَّر دُلُّوه بأوضح حُجَّةِ
إذا ما قضى ربُي بكُفري بزعمِكُم
…
ولم يرضَهُ مني فما وَجْهُ حيلَتي
قضى بضلالي ثمَّ قال: ارْضَ بالقَضَا
…
فهل أنا راضٍ بالذي فيه شِقْوَتي
دعاني وسدَّ البابَ دُوني، فهل إلى
…
دخولي سبيلٌ بيِّنوا لي قضيَّتي
(1) هذا البيت ساقط مِنْ (ط).
(2)
في (أ): "العلامة"، وهو علاء الدين علي بن يوسف بن إسماعيل القونوي، المتوفي سنة 729 هـ مترجم في الدور الكامنة 3/ 24 - 29.
إذا شاء ربِّي الكفرَ مِنِّي مشيئةً
…
فهل أنا عاصٍ باتِّباعِ المشيئةِ
وهل لي اختيارٌ أن أخالف (1) حُكمَه
…
فباللَّه فاشْفُوا بالبراهين غُلَّتي
فكتب ما نصه:
يقول الفقير العسقلانيُّ أحمدٌ الذي
…
لم يَصِلْ في الفهم للرتبة التي (2)
ولكنَّه يُثْني على اللَّه حامدًا
…
له ويُثَنِّي بالصَّلاة الحميدةِ
على أحمد الهادي البشيرِ وآلِه
…
وأصحابِهِ الزَّاكينَ خيرِ البريَّةِ
ويُثني إلى هذي المسائل عاطفًا
…
إلى حلِّها مِنْ عُقدِها بالحقيقةِ
لئن كنتَ يا هذا تقرُّ بأنَّه
…
تعالى له مُلْكُ الوُجودِ بقُدْرَةِ
فمهما يشاء اللَّه يفعَلُ في الذي
…
يراهُ ويُمضي حُكْمَه في الخليقةِ
فسلِّمْ له تَسْلم ودِنْهُ تَفُزْ فَمَنْ
…
له يعتَرِضْ يذهب إلى حَيْثُ ألقتِ
وكتب بعد الجواب ما صورته: ويُقسم باللَّه جلت قدرتُه أنه كتب هذا الجواب مرتجلًا في حالة يخَيَّلُ له فيها أن ثمَّ مِنْ يمليه عليه، بحيثُ لم يشطُب في مُسَوَّدَتِها إلَّا على ثلاثة ألفاظ، وعمدتُه في هذا الجواب شيئان:
أحدهما: أن الخطابَ مع مَنْ يقِر بالتَّوحيد ووجودِ الإله الحقِّ الذي ابتدأ الوجود، لا مع مَنْ يعطِّل.
والثاني: أنه تعالى يفعلُ ما يشاء، ولا يُسألُ عمَّا يفعل، ومَنْ توقَّف في هذا، فإنَّه يستند إلى قياسِ الغائب على الشاهد وهو قياسٌ فاسد لفقد الجامع، واللَّه أعلم.
وكتب له بعض العامَّة، ويقال: إنه القيم محمد بن علي بن محمد الفالاتي، عم صاحبنا الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن علي، يسأله عن معنى الكرد فقال:
سردت كلَّ علوم الناس أوفى سَرْدْ
(1) في (ط): "أفارق".
(2)
في (ط): "لم يصل يومًا إلى الرتبة التى".
يا شيخ الإسلام أفتينا وزِيحَ الطَّرْدْ
الكَرْدُ ما هو فخبرنا (1) صفات الكردْ
يا واحدَ العصر يا كامِل مُفَنَّنْ فَرْدْ
فأجابه:
الكَرْدُ بالفتح والإسكان مِثْلُ الطَّرْدْ
وزنه ومعناه قالوا راح يَكْرُدُ كَرْدْ
والكتفْ عند العَرَبْ أيضًا يُسَمَّى الكَرْدْ
خذ فائدة مِنْ "صحاح" الجوهري يا فَرْدْ
وكتب إليه آخر يسأله عن أديبين نظما مطلَعَيْ زجل، أحدُهما قال:
دار عذار الآس بوجه الرَّوْض
…
وأمس خدّ الورد مِنُّو خالْ
والشَّقيق فوق وجنَتُه نقطة (2)
…
يحسب العنبَرْ عليها خالْ
وقال الآخر:
وجه روضي فيه عُيونْ تجري
…
للورود كَفُّو الزَّهر يا خَالْ
والذي كفاه وساق نَهَرُه
…
خطّ في خَدِّ الشَّقائِقْ خالْ
فكتب ما نصُّه: العزة للَّه جميعًا. لقد أجادَ كلٌّ منهما في صفة الروض، وزيَّنا وجهَ السكن الخال بالخدِّ والحال، ولكن الأول أرشق، وناظمه عند ذي الذَّوق أذوق، والعلم عند اللَّه تعالى.
وكتب إليه بعضُ الفُضلاء يسألُه عن قول علي بن الجهم الشاعر الشهير:
ربما عالج القوافي رجالٌ
…
تلتوي بهم (3) تارة وتلينُ
(1) في (ط): "فأخبرنا".
(2)
في (أ): "يقطفه".
(3)
"بهم" ساقطة مِنْ (ب)، وفي (ط، ح): "تارة بهم".
طاوعَتْهُم عَيْنٌ وعَيْنٌ وعَيْنٌ
…
وعصَتْهُم نونٌ ونونٌ ونونُ
ما المراد بالطاعة والعصيان؟ وأنَّ الصَّفِيَّ الحِلّي أجاب عنه بقوله:
كفم مع دم خمسة أعين الَّفظات
…
منها حرفُ الرويِّ يكونُ
ودواةٌ وحرفُ خطٍّ وحوتُ اليم
…
يعصي الرَّوِيَّ والكلُّ نونُ
فأجاب بما سمعته مِنْ لفظه: نِسْبَةُ البيت لمن ذُكر فيه نظر، والنسبةُ لمَنْ أجابَ صحيحة، وقد أجاب عنهما قبل الصَّفِيِّ الحِلِّي الأستاذ أبو عمرو بن الحاجب، لكنَّ نظمه: فيه قَلَقٌ كعادته، ونَظْمُ الحليّ منسجم.
وأما الجواب عَن المراد بالطَّاعة والمعصية، فهو ظاهر في النظم المسؤول عنه، وذلك (1) أنَّ العينَ لفظٌ مشترك في ثلاثة معاني، وكذلك النون، [فأما العين](2) فأطاعت في لفظها ومعناها في الرَّوِيِّ، فإنَّ النُّونَ لفظُها والميمَ معناها، وكلاهما رويُّ النُّون، فأطاعت بلفظها، وعصت بمعناها؛ لأنَّ لفظَها مُتَّفِقٌ وهو النون، ومعناها مختلفٌ، وهو الهاء والفاء والياء؛ لأنَّ الثلاثةَ عَيْنُ الفعلِ مختلف لفظًا، واللَّه أعلم.
وكتب إليه بعضُهم مِنْ بيت المقدس يسأله عَنْ قول القائل:
كَيْدُ حسودي وهَنَا
…
فلي سرورٌ وهَنَا
"الحمدُ للَّه الذي
…
أذْهَبَ عنَّا الحَزَنا"
وقول الآخر:
قلبي إلى الرشد يَسِيرْ
…
وعِنُدَه النَّظْمُ يَسِيرْ
"الحمدُ للَّه الذي
…
فضَّلنا على كثيرْ"
(1) مِنْ هنا إلى قوله "فلم يتيسر لي. . . " ص 953 في هذا الجزء سقط مِنْ (ط) حيث فقد مِنْ أوراقها قرابة كراسة.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط مِنْ (أ).
أيهما أولى؟ فقال: المقدَّم مؤخَّر.
قلت: وأظن المقتضي لتأخُّرِه الإتيان بألف الإطلاق، بخلاف الثاني، فقد جاء بالآية على وجهها.
وسئل عن قول بعضهم:
حبي الذي سادُوا رِقَاب الأعادي دَاسْ
والقَلْبْ في شاطْ بَحْرِ العِشْق لأجْلُو طَاشْ
لو قَدْ قَدْ سام غُصن البَان لمَّا ماسْ
إذا سعى شام طرفي في بدر مِصْري ماسْ
ولو ترى ساق يحلي الماء وقَلْبُو قاسْ
عشقي له شاع بل غيري بوَصْلُو عَاشْ
كم شابْ مُذْ سارْ مِنْ هجر وصَدْ وراسْ
واللَّحظ لو شان كالهندي ويُوقِدْ ناس
وقول الآخر:
حبي الذي ماس سوء البُعْدْ قلبي سامْ
والعِشْقْ لو نار تَغْشَى القَلْبْ لاجْلُو رانْ
والوَصْلْ ما ناح مِنْ جارحْ لحَاظُو حامْ
وكم (مِنْ)(1) فتى ناح مِنْ هَجْرُو وحَتْفُو خانْ
والقدْ قَدْ مَالْ والعاذِلْ بجَهْلُو لامْ
هذا وقد نال ميل الغُصْنْ لمَّا لانْ
والرِّدْف قَدْ ماجْ لما أن تعاطى حامْ
والدَّهر لو ناب يوقد غُصني بانْ (2)
(1) ساقطة من (ح).
(2)
في (ب): "مذ بان".
فكتب ما صورته: للَّه الأمر. الذي يشهد به الذَّوْق السَّليم أنَّ كلًا منهما في النَّظم مستقيم، وليس لهما في قسم البلاغة قسيم، إلا أنَّ الثاني أبعدُ في إيجابه مِنَ السلب، وأقربُ في آدابه إلى القَلْب، وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليم.
ويلتحق بهذا أنَّ الشيخ شهاب الدين الأبشيطي نزيلَ المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاةِ والسلام، سألَ فقيه الوقتِ الشَّرفَ يحيى المناوي عَنْ بعضِ الأسئلة نظمًا، وأجابه المشارُ إليه كذلك نظمًا، وأرسل بالجوابِ لصاحب الترجمة، ليقفَ عليه، ويقرِّضَه، فكان في ذلك عدَّةُ أبياتٍ امتدح الشرف بها صاحبَ التَّرجمة، علمتُ منها الآن قوله:
إمامَ الهدى غَيْظَ العِدَا صَيْبَ النَّدى
…
حَلِيف الجدى مُجلِي الصَّدى أوحدَ العَصْرِ
لأجْعَلَ منه جوهرَ اللَّفْظِ حِلْيةً
…
على جيد قولي فهو في الحُسْنِ كالدُّرِّ
فكتب صاحب الترجمة رحمه الله ما نصُّه -مع أنَّه لم يكن القَصْدُ أن يكون كتابته إلا نظمًا-: تأملت هذا الجواب، فوجدتُه بعون الملك الوهاب في غاية الصواب.
وكتب إليه الشيخُ شهاب الدين ابن أبي السعود ما نصُّه (1): الحمد للَّه، لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللَّه العلي العظيم.
يا بَحْرَ عِلْم أرانا لفظُه دُرَرًا
…
وفي الطُّروس يُرينا زَهْرَ بُسْتَانِ
رَوْضُ القَرِيضِ أتى يشكو إليكَ فتًى
…
جَنَى فَصُلْ واحتكم وانقُمْ عَلَى الجاني
فالشِّعْرُ نادى وقد قامتْ قرائِنُه
…
شكواي مِنْ خائنٍ في النَّظم أوزانِ
هذا شخص، ولا أقولُ مِنَ الناس سمع بَيتَي الصَّفِيِّ الحليِّ، وهما:
لحَى اللَّه المزيُنَ قَدْ تَعَدَّى
…
وجاءَ لقَلْعِ ضِرْسِكَ بالمُحَالِ
أعاقَ الظَّبْيَ في كِلْتا يَدَيْه
…
وسَلَّطَ كَلْبَتَيْنِ على غَزَالِ
(1) في هامش (ح) بخط المصنف ما نصه: بلغ الشيخ عبد العزيز بن فهد الهاشمي قراءة علي في 25 سماعًا.
فقلع رجلٌ يلقَّبُ وليَّ الدِّين ضرسه، فنظم ذلك الشخص، وأعَرب عَنْ قدره، وبُرغمي أن أقول في شعره هذين البيتين، وزعم أنَّهما مِنْ منخلع البسيط، ومن خطِّه نقلتُ، وهما:
إنَّ المزيِّن قَدْ تَعَدَّى
…
في قلعِ ضِرْسِك العَلِيَّا
أغرى على الظَّبيِ كَلْبَتَيْنِ
…
وضلَّ إذ آذى وَلِيّا
فماذا يستحقُّ مِنَ الإجازة على هذا المدح الذي جَمَعَ في التَّخلُّفِ أبلغَ الوجازة، وفي التَّكلُّفِ والتعجرف ما لا يستطيع طبيب علاجه، افعلوا ذلك مثابين.
فكتب: الحمدُ للَّه واهب العافية. يستحقُّ مَنْ سَلَحَ هذا المقطوعَ أنْ يُقْطَعَ، ويستوجب مَنْ رَضِيَ بنسبة هذين البيتين إليه أن يُصْفَع، فلو رآه الصَّفدي، لرجع عَنِ "اختراع الخراع"، ولقضى على مِنْ نازعه في هذه الطريقة بالموت بعد النزاع، فما بلغ هذه الغاية إلا وهو في (1) اختيار انبساطِ الإخوان، فقد جاوز النهاية، والسلام.
قلت: وكذا كتب على هذين البيتين الشِّهابُ الحجازي والشِّهابُ ابنُ أبي السُّعود المذكور، وكتابتُه عندي بخطِّه، والشهابُ بنُ صالح، حتى قيل: إنَّ قائلهما رُمي بالشُّهبِ الأربعة.
ومما اتّفق: أنَّ شيخنا جلس مرَّةٌ ومعه الشِّهاب بنُ تَقِيِّ والشِّهاب الشَّيْرَجِي والشِّهاب الريشي والشِّهاب الحِجازي والشِّهاب بن يعقوب وشهابٌ آخر، بحيثُ صاروا بصاحب التَّرجمة سبعةً، فقال الحجازي: يا مولانا لقبتم (2) ذنوابكم (3) بالسبع السيارة، وقد اجتمعَت هنا، فقال شيخُنا بديهةً: فمن جاء بينهم فقد احترق. وللَّه در القائل: مَنِ ادَّعى عِلْمَ ما لا يعلم، كذب فيما يعلم، فما بالُك فيمن يُنازعُ في الجميع!
(1)"في" ساقطة مِنْ (أ، ط).
(2)
"لقبتم" لم ترد في غير (ح).
(3)
كذا في "الأصول" وأظنها "ديوانكم".
وما الناس إلَّا كالصَّحائِفِ عُوِّدَتْ
…
وألسُنُهم إلا كمِثْلِ التَّراجمِ
إذا اشتَجَرَ الخصمان في فِطْنَة الفتَى
…
فمِقْوَلُه في ذاك أعدَلُ حاكمِ
وروينا في "المجالسة" للدينوري مِنْ طريق النَّضر بن شُمَيْل، قال: لو كنتُ عند الخليل بن أحمد، إذ دخل عليه شيخٌ مِنْ أهله، فقال له: لو اشتغلتَ بمعاشك، كان أعودَ عليك مِنْ هذا، فأنشأ الخليل يقولُ:
لو كنتَ تَعْقِلُ ما أقولُ عذرتني
…
أو كنتَ تعقِلُ ما تقولُ عذَلْتُكا
لكن جَهِلْتَ مقالتي فعذلتني
…
وعَلِمْتُ أنَّكَ جاهِلٌ فعذَرْتُكا
ثم التفت إلينا، فقال: الرِّجال أربعة: رجلٌ يدري ولا يدري أنَّه يدري، فذاك غافلٌ فأفهموه، ورجلٌ يدري، ويدري أنَّه يدري، فذاك عاقلٌ فاعرِفُوه، ورجلٌ لا يدري، ويدري أنَّه لا يدري، فذاك جاهلٌ فعلِّمُوه، ورجلٌ لا يدري، ولا يدري أنَّه لا يدري، فذاكَ مائِقٌ فاحذَرُوه.
وروينا عن عمرو بن مُرَّة، قال: حدَّثتُ إبراهيم بحديثٍ عَنْ رجلٍ، فقال: ذاك صاحبُ أمراء، يعني: ليس مثلَ غيره في الحديث.
قلت: وهذا المبهمُ اسمه عبدُ الرحمن.
إذا جَمَعَتْ بينَ امرأيْنِ صناعةٌ
…
فأحبَبتَ أن تدري الذي هُوَ أحذقُ
فلا تتامَّل مِنْهُما غيرَ ما جَرَت
…
به لهما الأرزاق حينَ تُفَرَّق
فحيثُ يكون الجَهلُ فالرِّزق واسِعٌ
…
وحيثُ يكونُ العِلْمُ فالرِّزْقُ ضَيِّق
نسأل اللَّه تعالى التوفيق والهداية إلى أقوم طريق. وكل (1) هذا استطراد.
وكتب إليه القاضي الحنفي -وما علمت الآن مِنْ هو-[بل عندي في كونها مِنْ نظمه نظر](2):
(1) مِنْ هنا إلى قوله: "وابق كنزا" في الصفحة التالة ورد في (ب) قل باب الألغاز مباشرة.
(2)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
أيُّها الحاكمُ الذي قطُّ ما مال
…
وإنْ كان مذهبًا يتحنَّفْ
والإمامُ الذي سما في سماء العلم
…
إياسًا وفاق في الحِلْمِ أحنفْ
ما ترى في عُدُولِ قاضٍ أقاموا
…
كلمتا الحق عنده في مكلَّفْ
إنْ يُكذبهم فقد ثبتَ الحقُّ
…
عليه وإن يصدق يحلَّفْ
ويرد القاضي الشهادة مع
…
فقد المعاداة بينهم إذ توقفْ
هل أصابَ التفضل إذ عكس الأمر
…
جهارًا أم فيه سِرٌّ سيُوصَفْ
مُنَّ بالكَشْفِ عنه لا زلتَ في
…
مسرَّة مِنَ اللَّه دائمًا ليس تُكشفْ
[فأجابه هذا المبهم](1):
وكتب إلى بعض العلماء ممن لم أعلمه الآن، [وفي صحة نسبتها إليه أيضًا نظر] (2):
يا إمامًا له الفضائل تُعزى
…
زادك اللَّه في مثالِك عزّا
ما الجوابُ السَّديد في رجل أزّ
…
ضعيفِ المشي على الأرضِ أزّا
فتثنَّت ثنيَّتاه إلى أن
…
سقطا عِنْدَ وكزِه الصَّعْبِ وَكْزَا
حيثُ يعفو عَنِ القِصاصِ ويَرْضَى
…
دِيَّةَ كي يكونَ في الناس حِرزا
هل لذاك ارتجاعها أن تعد تلك
…
الثنايا يا أوّلًا أفِدْ وابْقَ كَنْزَا
فأجابه هذا المبهم (3). . .
ولنقتصر على ما أوردناه مِنْ نثره الذي فاق فيه أهلَ عصره، ثم على ما أوردناه مِنْ منظومه الذي لم يُلحق فيه، (مع)(4) ما منحه اللَّه مِنْ شريفِ علومه؛ فما مِنْ نوعٍ مِنْ أنواعه إلا ولو أُفْرِدَ بالتَّصنيف، لكان جديرًا بذلك لاتساعه،
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(2)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب) وبعده في (أ) بياض مقداره ثلاثة أسطر.
(3)
هذه العبارة لم ترد في (ب)، وبعدها بياض في (أ).
(4)
ساقطة مِنْ (ب).
على أنَّ الإحاطة بجميعه لا تُستطاع، وحصرُه غير ممكن بالإجماع، فتقاريظُه -مع كثرتها- إليها المنتهى بالاتِّفاق، ورسائلُه فاقت مع سيرها في الآفاق، وأجوبته عَنِ الألغاز غاية في الإيجاز والاحتراز، وكتابتُه لمن عَرَضَ عليه، أو جلس مستفيدًا بين يديه، أو سمع عليه الحديثَ في القديم والحديث، أو قرأ عليه شيئًا مِنْ مصنفاته أو شافهه بإملائه ورواياته، فأشهر مِنْ أنْ تُذكَر، وأظهر مِنْ أن تُحصر، ومنظومه الذي ليس له فيه شرك وإن جَمَعَهُ في سلك فلم نلتزم (فيه)(1) الاستيعاب، إنما (2) اقتصر منه على الكثير مما يحلُو ويُستطاب، إذ منه على طريقة أهل الأدب ذوي الحجا والرتب ما كان يستغفر اللَّه منه، ويعتذر لخواصه عنه، كما سمعت فلك منه مرارًا، سرًا وجهارًا، لوفور ديانته وعظيم أمانته، على أن بعض أعدائه وحُسَّاده قد دسَّ فيه ما ليس وَفْق مُراده ممَّا يتحقَّقُه أهلُ العرفان المخالفين حظ النفس واتِّباع الشيطان. ومما ينسب إليه أبياتٌ (3) في قصِّ الأظفار أيام الأسبوع، ولا يجوز نسبتها إليه (4).
وبالجملة ففي عُلُوِّ منزلته وشريفِ مرتبته ما يمنعُ الافتخارَ بما ذكرناه ورتَّبناه وحرَّرناه، لكن إنَّما أردنا الاقتطاف مِنْ تلك الأزهار والاستجناء مِنْ تلك الثمار، لارتياح النفوس إليها، وتجدُّدِ العهد القديم لديها، واللَّه تعالى يتفضَّلُ عليه بالقَبُول، ويبلَّغه في الآخرة وإيَّايَ خيرَ مأمول، بمنِّه وكرمه.
ولنختم هذه الفصول بقصيدة له فيها مواعظُ وآداب على طريقة ابن القيم، حيث ذمَّ نفسَه وازدراها في الأبيات التي أولها "بُنَيَّ أبي بكر"، قالها شيخُنا لمَّا وعك في سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة، فقال -وسمَّاها "الموقظة"-:
بُنَيَّ عليٍّ قد تفاقم وِزْرُه
…
فليس على مَنْ خاض في عِرضِهِ وِزْرُ
بُنَيَّ عليٍّ مثلما قال ربُّه
…
ظلُومٌ كنُودٌ شأنُه الغَدْرُ والمَكْرُ
(1) ساقطة مِنْ (ب).
(2)
في (أ): "بما".
(3)
في (أ): "أبياتًا"، خطأ.
(4)
وقد أوردها السفيري في "مختصره" قال: وقال شيخنا السيوطي في "الإسفار عن قلم الأظفار": وقد اشتهر على الألسنة هذه الأبيات، ولا ندري قائلها ولا هي صحيحة في نفسها.
بُنَيَّ عليٍّ خاب واللَّه سعيُه
…
إذا لم يكُنْ في الصَّالحين له ذِكْرُ
بُنَيَّ عليٍّ يأمرُ النَّاسَ بالتُّقى
…
ويغفُلُ عمَّا يقتضي النَّهْيُ والأمرُ
بُنَيَّ عليٍّ قد غدا متصدِّرًا
…
لِفَقْدِ أُولي العَلْيَا وأنَّى له الصَّدْرُ
بُنَيَّ عليٍّ صار يُفتي ويجْتَري
…
عليها ولا فَهْمٌ لديه ولا ذِكْرُ
بُنَيَّ عليٍّ ليس يُذْكَرُ إذْ نَشَا
…
ذليلًا يتيمًا ما لَهُ في الورى قَدْرُ
بُنَيَّ عليٍّ صار مِنْ بعد يُتمه
…
وحظُّ اليتامَى عِنْدَه النَّهْرُ والقَهْرُ
بُنَيَّ عليٍّ صار مِنْ بعدِ ذُلِّه
…
عزيزَ أُناسٍ دأبُه البَأوْ والفَخْرُ
بُنَيَّ عليٍّ صارَ مِنْ بعدِ جهلِه
…
عَليمًا وبعد القِلِّ صارَ له وَفْرُ
بُنَيَّ عليٍّ كل ما يَشْتهي جَرَى
…
على وَفْقِ ما يَهْوَى وليس له شُكرُ
بُنَيَّ عليٍّ ما أَحبَّ رَأيٍ ولا
…
يميلُ إلى التَّقوى فهلْ يُؤْمَنُ المَكْرُ
بُنَيَّ عليٍّ صار للأمرِ مالكًا
…
وهيهات عَنْ قُرْبٍ لقد قُضِيَ الأمرُ
بُنَيَّ عليٍّ قد أتاه نذيرُه
…
وليس لمَنْ جاء النَّذيرُ له عُذْرُ
بُنَيَّ عليٍّ جاز في العمر سِنَّ مَنْ
…
مضى مِنْ أبٍ وابنٍ كذا العمُّ والصِّهرُ
بُنَيَّ عليٍّ ما الذي ترتجيه مِنْ
…
سوى اللَّه هيهات انقضى الأمَلُ الغِرُّ
إلهي أنا الخَطَّاءُ للذَّنْبِ عامدًا
…
وكم نِلتُ (1) أطماعًا وما كنت اضطرُّ
إلهي قد حوَّلْتَني فَوْقَ ما أنَا لَهُ
…
الأهل (2) والتقصير وَصْفِيَ والعُذْرُ
إلهي كم نِعْمَةٍ إثرَ نعمةٍ
…
أزَلْتَ بها بُؤسِي فما مَسَّني الضُّرُّ
إلهي فما قابَلْتَ بالشُّكْر نِعْمَةً
…
ولكني بجَهْلٍ لاح للنِّعَمِ الكُفْرُ
إلهي كم نجَّيتني مِنْ مُلِمَّة
…
فاذْعَنَ لي في سَيْريَ البرُّ والبَحْرُ
إلهي أنا العبدُ المُسيءُ وأنت يا
…
إلهي المليكُ المحسنُ المُنعمُ البَرُّ
(1) ساقطة مِنْ (أ).
(2)
كذا في الأصول، وفي "جمان الدرر" للبصروي "إلهي".
إلهي أنتَ الرَّبُّ شيمَتُك الغِنَا
…
وإنِّي لعبد السوء شيمَتِيَ الفَقْرُ
إلهي عاملني بما أنتَ أهلُه
…
فللذَّنب في ظهري إذا لم تُعِنْ وَقْرُ
إلهي تداركني برحْمتِكَ التي
…
يقابلُها مِنْ فيضِ فضلِكَ لي الجَبْرُ
إلهي كما أنعمتَ زِدْ وأدِمْ ولا
…
تُغَيِّرْ فتُشْمِتْ بي عَدُوًا به غمرُ
إلهي بذنبي بُؤتُ فاغفِره لي عسى
…
أكون كمن في الحشر أوجُهُهُمْ زُهْرُ
إلهي كم عبدٍ أدَمْتَ سُرورَه
…
فوافاك بعدَ الموت بالعفو يَنْسَرُّ
إلهي فاجعلني برحماك منهمُ
…
فإن شفيعي أحمدُ المصطفى الطُّهْرُ
فلا عملٌ أرجو سوى حبِّه ومَنْ
…
إليه أنتمي عُسري بحبهم يُسْرُ
وأفاد رضي الله عنه أنَّ أصلَ هذه الطريقة سبق إليها محمدُ بنُ كثير المصِّيصي، فذكر الحاكم، قال: سمعت أبا منصور الحسن بن أحمد المعادي يقول: سمعت موسى بنَ العباس الجُوَيني -ونزل في دارنا- يُنشد أبياتًا بعد أن يقوم اللَّيل، فيصلِّي ثمَّ يبكي طويلًا، فسُئِلَ عنها، فقال: سمعتُ محمَّدَ بنَ عوفٍ يقول: سمعتُ محمَّدَ بنَ كثيرٍ المصِّيصي يقول:
بُنَيَّ كثيرٍ كثيرُ الذُّنوبِ
…
في الحِلِّ والبلِّ مَنْ كان سبَّهْ
بُنَيَّ كثيرٍ دَهَتْه اثنَتَانِ
…
رياءٌ وعُجْبٌ يخالِطْنَ قَلبَهْ
بُنَيَّ كثيرٍ أكولٌ نَؤُومٌ
…
وما ذاك فعل مَنْ خاف ربَّهْ
بُنَيَّ كثيرٍ يُعلِّم علمًا لقد (1)
…
أعْوَزَ الصُّوفَ مَنْ جزَّ كلبهْ
قلت: وقرأتُ في "شرح الشاطبية" للجعبري ما نصُّه: وسأله -أي عبدَ اللَّه بنَ كثير القارىء- الناسُ أن يجلس للإقراء بعد شيخه، فأنشد في ذم نفسه تواضعًا، وساق الأبيات، وعندي أنَّ نسبتها لابن كثيرٍ المقرىء سهو، واللَّه الموفق.
(1) في (أ): "لنا"، وكانت كذلك في (ح)، ثم عدلها المصنف بقلمه.
ثم رأيت في ترجمة محمد بن الخضر بن إبراهيم المِحْوَلي خطيب المحول، أحد القراء مِنْ "ذيل تاريخ بغداد"، لأبي سعد السمعاني، أنشدنا محمد بن الخضر بن إبراهيم المحولي بها في داره، أنشدنا أحمد بن علي بن سوار المقرىء أنشدنا شيخنا أبو علي الحسن (1) بن علي بن عبد اللَّه العطار المقرىء، أنشدني أبو الحسين محمد بن عبد اللَّه الفرضي، أنشدنا أشياخُنا، عن عبد اللَّه بن كثير أنَّه قال في ذمِّ نفسه، حيث (2) سأله أهلُ مكَّةَ أن يُقرِئَهم القرآنَ بعدَ وفاة مجاهدِ بن جبرٍ، فذكرها. سمع هذا مِنْ أبي سعد السمعاني أبو رَوْح الهروي، فاللَّه أعلم.
وإذا (3) تأملتَ هذا مِنْ صنيع هؤلاء، واستحضرتَ جلالَتَهم وتقدُّمَهم في السُّنَّة وغيرها، علمتَ شدة حُمْقِ القائل في مدح نفسه، زاعمًا أنه السنة، مِنْ أبيات أودعها في مجلد يطول التعرض لما فيه مِنْ منكر، يعظِّم فيه نفسه، ويترفَّعُ فيه عَلى كلِّ أهلِ عصرِه، بحيثُ يشهد العقل والنَّقل بأنَّ ذلك هو المذموم مِنْ ضربي مدح المرءِ نفسَه.
كأنك بي أُنْعَى إليك وعندها
…
ترى خبرًا صُمَّت له الأُذنانِ (4)
فلا حَسَدٌ يَبقَى لديك ولا قِلى
…
فينطِقُ في مدحي بأيٍّ معَانِ
وتنظُرُ أوصافي فتعلمُ أنَّها
…
عَلَتْ عَنْ مُدانٍ في أعزِّ مكانِ
ويُمسي رجالٌ قد تهدَّمَ رُكنُهم
…
فمدمَعُهم لي دائِمُ الهملانِ
فكم مِنْ عزيزٍ بي يذل جماحَه
…
ويطمَعُ فيه ذو شقا وهوانِ
فيا ربِّ مَنْ يُفجَأ بِهَولٍ يؤودُه
…
ولو كنتُ موجودًا إليه دعاني
ويا ربِّ شخصٌ قد دَهَتْهُ مصيبةٌ
…
لها القلبُ أمسى دائم الخَفَقَانِ
(1) في (أ): "الحسين".
(2)
في (ب، ط): "حين".
(3)
مِنْ هنا إلى بداية الفصل السادس لم يرد في (ب)، وقد ألحقها المصنف في ورقة مفردة في نسخة (ح).
(4)
في (أ): "الآذان"، خطأ.
فيَطلُبُ مَنْ يجلو صداها فلا يَرَى
…
ولو كنتُ جَلَتْها يدي ولِسَاني
عَدوِّي قاصٍ عنه ظُلمي آمن
…
مِنَ الجُور داني النَّفْعِ حيثُ رجَاني
فإن يَرْثنِي مَنْ كنت أجمَعُ شملَه
…
بتشتيتِ شملي، فالوفاء رثاني
وإلا نعاني كلُّ خَلْقٍ ترفْعَتْ
…
به هِمَمي عَنْ شائِنٍ وبكاني
وهي أكثر مِنْ هذا.
وقد استحضرتُ حكايةً لطيفة رويتُها مِنْ طريق محمد بن يزيد الضَّرير، قال: حدثني عبد الرحمن بن مسهر -وهو المذكور بخفَّة العقل- قال: ولأني أبو يوسُف القاضي قضاء جَبُّل، فانحدر الرَّشيد هارون إلى البصرة، فسألت مِنْ أهل جَبُّل أن يُثنُوا عليَّ، فوعدوني أن يفعلوا، فلمَّا قرُبَ تفرَّقُوا، وأيسْتُ منهم، فسرَّحت لحيتي، فوافى أبو يوسف مَعَ الرَّشيد في الحرَّاقة، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، نِعمَ القاضي قاضي جَبُّل، قد عدل فيها وفَعَلْ، وجعلت أثني على نفسي، فطأطأ أبو يوسف رأسه وضحك، فقال له الرشيد: ممَّن تضحك؟ فأخبره، فضحك حتى فَحَصَ برجليه، ثم قال: هذا شيخ سخيفٌ عقلُه، فاعزِلْه، فعزلني، فلمَّا رجع أبو يوسُف، جعلت أختلف إليه، وأسأله قضاء ناحيةٍ، فلم يفعل، فحدَّثت النَّاسَ عن مُجالِد عن الشعبي أنَّ كنية الدجال أبو يوسف، فبلغه ذلك، فقال: هذه بتلك فحسبُك، فصِرْ إليَّ حتى أوليك ناحية، ففعل وأمسكت عنه.
نسأل اللَّه أن يلهمَنا رشدنا، ويعيذنا مِنْ شرورِ أنفسنا بمنِّه وكرمه.