الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال صاحب التَّرجمة:
يا زاعمًا أني وليت فجُرت في
…
حُكمي إذ ولَّوْهُ لم أكُ حائفا
قد كنتَ في أيام جوري آمنًا
…
فاحذر أكُنْ أيَّامَ عَدلِكَ خائفا
وكان رحمه الله مصمِّمًا على عدم الولاية للقضاء أصلًا، واتَّفق أنَّه قدم عليه العلامة أبو الفضل ابن الإمام التِّلمساني، وكان الآخرُ ملتزمًا أن لا يلي القضاء أصلًا، فقصَّ شيخُنا عليه منامًا رآه لنفسه، فعبَّره (1) له بأنَّه دالٌ على عدم ولايته القضاء. قال شيخنا: وليس في المنام ما يدلُّ على ذلك، غير أنه أحبَّ التَّفاؤل لي بذلك لما يحبُّه لنفسه، فلم يلبث أن أوقعَ (2) القضاءُ والقدرُ كلَّ واحدٍ منَّا في الولاية، والأمرُ بيد اللَّه تعالى، يفعل ما يشاء. وقد قيل:
وَلِيتُ القضاءَ وَلَيْتَ القضاءَ
…
لم يكن شيئًا تولَّيْتُهُ
فأوقعني في القضاءِ القضاءُ
…
وما كُنْتُ قِدْمًا تمنَّيتُهُ
وأُخبرتُ عن القاضي جلال الدين البلقيني أنه قال يومًا لبعض أصحابه: إن مِتُّ، ترى كلًا مِنَ الولي العراقي والشهاب ابن حجر وأخي قاضيًا، فكان كذلك، رحمة اللَّه عليهم أجمعين.
[آفات القضاء]
وقد ندم شيخنا رحمه الله على قبوله وظيفة القضاء، لكون أربابِ الدَّولةِ لا يفرِّقون بين أُولي الفضل وغيرهم، ويُبالغون في اللَّوم حيث رُدَّت إشاراتُهم، وإن لم تكن على وفق الحقِّ، بل يُعادون على ذلكَ، واحتياج القاضي بسببه إلى مداراة الكبير والصَّغير، بحيثُ لا يُمكنه مع ذلك القيامُ بكل ما يرومه على وجه العدل.
(1) في (أ، ب): "فعبر".
(2)
في (أ): "وقع".
وصرَّح بأنه جنى على نفسه بتقليدِ أمرهم كما سيأتي كلامه (1) في قصيدته التي أجاب بها البدر ابن سلامة مِنَ المطارحات (2)، والتي أجاب بها الصلاح الأسيوطي منَ الألغاز (3)، بل وقع في أكثرِ ما علل به منعه قبول قضاء الشام ممَّا سيأتي قريبًا.
وسمعته يقول: إنَّ مِنْ آفات التَّلبُّس بالقضاء أنَّ بعضهم ارتحلَ إلى لقائي، وأنَّه بلغه في أثناء توجُّهه تلبُّسي بوظيفةِ القضاء فرجع. انتهى.
وبلغني أن السَّيِّد العارف باللَّه صفي الدين الإيجي عمّ أحد طلبة صاحب الترجمة صاحبنا السَّيِّد علاء الدين ممَّن اتَّفق له ذلك، [فإنه ارتحل مِنْ بلاده إلى لقاء شيخنا، فلما وصل بيتَ المقدسِ بلغه ذلك](4)، فرجع، واللَّه أعلم.
وكذا أخبرت عن الشيخ محمد البياتي المغربي أنَّه كان ممَّن يتردَّد إليه، ويأخذُ عنه، فلمَّا ولي القضاء، انجمع عنه، واللَّه تعالى يتجاوز عنه، فما كان مقصدُه إِلَّا جميلًا.
ولهم في فعلهم سَلَفٌ، فقد روينا عن العيشي، قال: حَدَّثَنَا الحمَّادان، أَنَّ ابن المبارك كان يتَّجِرُ ويقولُ: لولا خمسةٌ ما اتَّجرت: السُّفيانان وفُضيلٌ وابنُ السَّمَّاكِ وابنُ عُلَيَّة، فيَصِلُهم. فقدم سنةً، فقيل له: إنَّ ابنَ عُلية قد ولي القضاء، فلم يأتِهِ ولم يَصلْه، فركب ابن عُليَّة إليه، فلم يرفع به رأسًا فانصرف، فلما كان مِنَ الغدِ، كتب إليه رُقعةً يقول: قد كنتُ منتظرًا لبِرِّك، وجئتُكَ فلم تكلِّمني، فما رأيتَ مني؟ فقال ابنُ المبارك: يأبى هذا الرَّجلُ إِلَّا أن نقشِّر له العصا، ثم كتب إليه:
يا جاعِلَ العلمِ له بازيّا
…
يصطاد أموال المساكينِ
احتَلْتَ للدُّنيا ولذَّاتِها
…
بحيلة (5) تذهب بالدِّينِ
(1) في (أ): "كلامًا".
(2)
2/ 796.
(3)
2/ 833.
(4)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(5)
في (ط): "بحيطة".
فصرت (1) مجنونًا بها بعدما
…
كنتَ دواءً للمجانينِ
أين رِواياتُك فيما مضى
…
عن ابنِ عونٍ وابنِ سيرينِ
أين رواياتك في سردِها
…
في تركِ أبواب السَّلاطينِ
إن قلتَ أُكرِهْتُ فذا باطلٌ
…
زلَّ حمارُ العلمِ في الطينِ
فلمَّا وقف ابن عُلَيَّة عليها، قام مِنْ مجلسِ القضاء، فوطىء بساطَ الرَّشيدِ، وقال: اللَّهَ اللَّهَ، ارحم شيبتي، فإِنِّي لا أصبِرُ على القضاء، فقال: لعلَّ هذا المجنون أغراك؟ ثم أعفاه، فوجَّه إليه ابنُ المبارك حينيذٍ بالصُّرَّة.
ويُقال: إن ابن المبارك إنما كتبَ إليه هذه الأبيات لمَّا وليَ صدقات البصرة. وهو الصحيح] (2).
وعُزل شيخنا بعدُ بيسيرٍ قبل استكمالِ سنة في الثامن أو السبع من ذي القعدة، وأعيد الشَّيخُ شمسُ الدِّين الهروي، فباشر كعادته، ثم انفصل وأُعيد صاحبُ التَّرجمة في ثاني رجب سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وكان -فيما قاله القاضي محبُّ الدين البغدادي كما سلف- يومًا مشهودًا، وحصل للنَّاس سروران عظيمان: أحدهما بولايته، لأن محبَّته مغروسةٌ في قلوب النَّاس، والثاني بعزل الهروي، فإنَّ القلوب كانت اتَّفقت على بُغضه، لإساءته في ولايته، وارتكابه الأمور الذَّميمة.
ثم في الثامن مِنْ رجب توجَّه إلى مصر في موكب عظيم ومعه القُضاة ونوَّابُهم والفقهاءُ مَنْ لا يكاد يحصر، وكان أيضًا يومًا مشهودًا.
وإذا لم يكن مِنَ الصَّرف بدُّ
…
فليكُنْ بالكبارِ لا بالصِّغار
وإذا كانت المحاسن بعد الصـ
…
ـرف محروسة فليسَ بعارِ
وقد كان عَقِب صرفه تكلَّم معه داودار السُّلطان يومئذٍ، واسمه جاني
(1) في (ط): "فصيرته".
(2)
من قوله: "ولهم في فعلهم سلف" في الصفحة السابقة إلى هنا لم يرد في (ب). والخبر في تاريخ بغداد 6/ 235 - 237.
بك، في وزن مالٍ ليعود، فأنشد صاحب التَّرجمة حينئذٍ قوله:
الدَّويدارُ قال لي
…
أنا أقضي مآربَكْ
قم زِنِ المالَ قلت:
…
لا حَفِظَ اللَّه جانِبَكْ
على [أنَّ شيخنا لم يكن يتوقَّف عَنِ البذلِ، بحيث أنَّه كان ما يكلِّفه في أيَّام الظاهر فقط ثلاثة عشر ألف دينار، الذي من خالص مالِه مِنْ ذلك ستة، وباقيه كان يدفعُه مِنْ فائض الأوقاف، ويشهدُ عليه بوصوله إليه، وأنَّه يصرفه في مصارفه، وكان يتأوَّل في ذلك كلِّه، بحيث](1) أني قرأت بخطه رحمه الله ما نصُّه: مَنْ يبذلُ في القضاء المالَ لأجل عزل زيدٍ، فينبغي أن يؤجَر، لا أن يُؤزر، والأعمال بالنيات.
قلت: وبهذا اعتذر شيخ الإسلام السِّراجُ البلقيني لحكمٍ عَنْ ولده قاضي القُضاة جلال الدين كما عُلم في محله.
ونازع القاضي نجمُ الدين ابن حجي شيخنا في هذه الولاية، إذ سعى عليه جهده، لكنه لم يتمَّ له أمرٌ، واستمرَّ صاحبُ الترجمة في وظيفته إلى أن صُرف بعد أربع سنين ودون ثمانية أشهر في يوم الخميس سادس عشري صفر سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وفي هذه الولاية زِيدَ في تقليده:"والبلاد الشامية"، حبث يقال: قاضي القضاة بالديار (2) المصرية، واستمر ذلك له ولكلِّ من وَلِيَ من تاريخه.
ولما صُرف مِنْ هذه الولاية، واستقرَّ القاضي علم الدين بشرط أن لا يزيد على عشرة نواب، وصادف في ولايته وقوعُ الطَّاعون المشهور، فلله الأمر.
ثم أُعيدَ صاحبُ الترجمة في سادس عشري جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين، وفوَّضَ شيخُنا في هذه الولاية تبعًا لمرسوم السلطان للقاضي علم الدين نظرَ جامع طولون والناصرية، فلما كان بعد استكمالِ ستِّ سنين وأزْيَدَ
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(2)
في (ب، ط): "بالبلاد".
مِنْ أربعة أشهر في يوم الخميس خامس شوال سنة أربعين صُرف شيخُنا، واستقرَّ القاضي عَلَمُ الدين.
[وصار الزَّيني عبد الباسط يبلغ صاحبَ الترجمة في مدة بطالته يلفت السُّلطان إلى السلام عليه ومحادثته، ويقول له: إنَّ البلقيني (1) يطلع إلينا في أيام البطالة، فلم يقطع عنا قبوله وإقباله، فلم يسعه إلا الامتثال على طريق الاعتدال، فلمَّا اجتمعا، أخذ السُّلطانُ في التشوّق إليه بعد مزيد الإقبال عليه، فأنشده صاحبُ الترجمة لغيره:
محبُّكم اختار عنكم بعادَه
…
وما كان منكم مُؤثِرًا بنصيبهِ
ولكن رضيتم بُعده عَنْ جنابكم
…
فآثر ما تَرْضَوْنَه ورضِي بهِ
فأطرق السُّلطان رأسه وخجل، فبادر عند ذلك شيخُنا، فقرأ الفاتحة، ودعا وانصرف. فلمَّا ولَّى، أرسل السُّلطان للزيني يُعلمه بأمر صاحب الترجمة بالطُّلوع في غدٍ ليعيده إلى وظيفته، فامتثل أمر السلطان] (2).
وأعيد شيخُنا في سادس شوال سنة إحدى وأربعين.
فلما كان التاسع من شهر ربيع الآخر (3) مِنَ السنة التي تليها عند قراءة تقليد الظاهر جُقمق بالقصر، جرى كلامٌ يتعلَّق بالقُضاة، فقال شيخنا: عزلتُ نفسي، فقال له السُّلطان: أعدتُكَ، فقبل وخَلَعَ عليه وعلى رفقته.
ورسم حينئذٍ بإعادة الأوقاف التي كانت خرجت قبل، وهي وقف قراقوش في ولاية العراقي، ووقف بيبغا التُّركماني في ولاية ابن البلقيني، ووقف الأسدي في ولايته، ووقف الطَّيبرسيَّة المجاورة للجامع الأزهر، فأُعيد ذلك كله بتوقيعٍ جديدٍ، ووقع الإشهادُ على السُّلطان بذلك في أول جماد الثاني حين التَّهنئة بالشهر بحضور القُضاة، وأكد عليه في أن لا يقبل
(1) في (ط): "ابن البلقيني".
(2)
من قوله: "وصار الزيني عبد الباسط" إلى هنا لم يرد في (ب) وورد في هامش (ح).
(3)
في (ب): "جمادى الأولى".
رسالة متجوِّه، ولا يؤجِّرَ وقفًا لذي جاهٍ، لسؤاله لهم في التَّأكيد عليه بذلك، لينتفع به في الوصول إلى غرض الحق، فما أحسنَ ذلك لو تمَّ.
فلمَّا كان المحرم من سنة أربع وأربعين، عين السُّلطان للقضاء الشيخ شمس الدين الونائي (1)، بعد أن أرسل لشيخنا أن لا يخطُبَ به يوم الجمعة، فخطب به أوَّل صفر القاضي برهان الدين بن المَيْلَق، لكنه ما تمَّ للونائي أمرٌ، وأُعيدَ صاحبُ الترجمة إلى وظيفته بسفارة تلميذه النَّاصري محمد ابن السلطان جُقمق في يوم الإثنين سادس عشر الشهر المذكور، وكان يومًا مشهودًا.
ووقعت قضيةٌ، وأظنها في هذه الولاية، وهي أنَّ السُّلطان قرَّر بعض الأمراء في شيءِ مِنَ الأنظار التي كان استرجعها صاحبُ الترجمة، وجاءه الرسول عَنِ السُّلطان بأنَّه إن لم يُجِبْ لذلك [وإلَّا. . . وسكت الرسولُ، فبادر بعزل نفسه](2)، وقال: عثر الحمار كان بشهوة المكاري، ثم صرف في يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة سنة ست وأربعين، وروسِلَ بالاجتماع بالسُّلطان، فاجتمع به (3) بعد يومين يوم الخميس، فبيَّن له عذرَه فيما كان نُسِبَ إليه، فعذَرَه وأعاده إلى الوظيفة بعد أن كان الشيخ قد صمَّم على عدم القَبُول مِنْ أول يوم، لكن أشار عليه المالكيُّ -وهو من تلامذته- بخلاف ذلك، حفظًا -زعم- لمالِه وولدِه وعِرضِه، فقَبِل حينئذٍ.
فلما كان في يوم الإثنين رابع ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين، لبس خُلعَةَ الرِّضا، لكون السُّلطان كان قد عزله في اليوم الماضي، فلما كان في ليلة الجمعة الثامن مِنَ المحرم سنة تسع وأربعين، سقطت المنارةُ التي للفخريَّة القديمة في سويقة الصَّاحب، وهي مدرسةٌ قديمة جدًا مِنْ إنشاء الفخر عثمان بعد السِّتمائة.
(1) في (أ): "النواوي"، تحريف. وهو شمس الدين محمد بن محمد بن عثمان الونائي، المتوفى سنة 890 هـ. انظر الضوء اللامع 9/ 139 - 140.
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
(3)
"به" ساقطة من (أ).
قلت: لها ذكرٌ عند المنذري في "التكملة"(1) له في سنة سبع وثلاثين وستمائة، حيث أرَّخ وفاة الفقيه إسماعيل بن إبراهيم بن غازي بن علي النُّميري الحنفي، عُرف بابن فلوس، فإنَّه قال في ترجمته أيضًا ما نصه: ودَرَّس بمدرسة الأمير فخر الدين عثمان بالقاهرة مدَّةَ. انتهى. فهي هذه.
وقد بناها بعد هذه الكائنة نظامُ المملكة الجمالي ناظرُ الخواصِّ يوسف ابن كاتب جكم، تقبَّل اللَّه منه.
وكانت المئذنةُ مالت قليلًا، فحُذِّرَ السكانُ بالرّبعِ المجاور لها، وهو مِنْ جملة أوقافها، فتهاونوا في ذلك، إلى أن سقطت بالعرض على واجهة المدرسة ووجه الربع، فنزلا بعضٌ على بعضٍ، وهلك تحت الرَّدمِ جماعةٌ، فاجتمع الوالي والحاجبُ، واستخرجوا كثيرًا مِنَ الأموات والأحياء، كل منهم مصاب بيد أو رِجل أو ظهر، فبلغ ذلك السلطان، فتغيَّظ منه، وطلب النَّاظرَ على المدرسة، وهو نور الدين القليوبي أمين الحكم، وأحد النواب، فتغيَّظ عليه، وظنَّ أنه ينوبُ في ذلك عَنْ صاحب الترجمة إلى أن انكشف الغطاء بأنه ليس له في ذلك ولايةٌ ولا نيابةٌ ولَا عُرف بشيءٍ مِنْ ذلك منذ وَلِيَ وإلى تاريخه، لكن انتهز الأعداءُ الفرصةَ، وأوصلوا إلى السُّلطان أنَّ صاحب الترجمة يتبجَّح بأنه كان أصلًا عظيمًا في استقراره (2) في السَّلطنة، وأنَّه ينسُب السلطان إلى الظلم ونحو ذلك، بل ألقَوْا في أذنه أنَّه التمس مِنْ رفيقه القاضي الحنفي أن ينفِّذ ما يصدرُ منه [من الحكم](3) بخلعه، وكان ذلك ممَّا أسرَّه شيخنا لقاضي القُضاة سعد الدين بن الديري وثُوقًا به، كما أخبرني به ابن الدَّيري المذكور بعدُ، فنمَّ عليه بصفاءِ خاطره، لا قصدًا للأذيَّة، فازداد غضبُه، وراسله (4) بالعزل في يوم الإثنين حادي عشر الشهر
(1) 3/ 525.
(2)
في (أ): "استمراره".
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (أ).
(4)
في (أ): "وأرسل".
المذكور [بعد استكمال سبع سنين وأزيد من ثلاثة أشهر](1)، وأن يغرَّمَ دِيَةَ الموتى، وأخذ في مقاهرته حتَّى أخرَجَ عنه نظرَ البيبرسية ومشيختها، ولولا بركةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكان الأمر أشدَّ مِنْ ذلك.
ومن تكن برسول اللَّه نصرتُه
…
إنْ تَلْقَهُ الأسْدُ في آجامها تجمِ
ولهذا راسله شيخنا مع العلاء بن أقبرس يقولُ له: القاضي جلال الدين البلقيني قتيل طَطَر، والقاضي وليُّ الدين بن العراقي قتيلُ الأشرف برسباي، وأنا قتيلُك، وأرجو أن اللَّه تعالى يقتصُّ للمظلوم مِنَ الظَّالم، أو معنى هذا، ولكن قيل: إنَّ العلاء استشار الخليفة (2) في تبليغ هذه الرسالة، فمنعه مِنْ ذلك خشيةً على صاحب التَّرجمة، فاللَّه أعلم.
ولما كان يوم الخميس رابع عشرة، طُلب الشيخ شمس الدين القاياتي إلى القلعة، لتقليد القضاء بعدَ أن كان القاضي كمال الدين بن البارزي حسَّن له الولاية، وأظهر هو له كراهتها وعدم الرَّغبة فيها، ثم اجتمع بالعلَّامة مفخر الوقت الأمين الأقصرائي، واْظهر له ذلك أيضًا، فوافقه على هذا، وأنه هو الخيرُ في الدُّنيا والآخرة. قال: ويتم لك ذلك إن شاء اللَّه بعدم الموافقة على الاجتماع بالسلطان، والتَّصميم على عدم القبول، وتفارقا على ذلك، فما تمَّ هذا الأمر.
وصعد في اليوم المذكور صحبة الكمال، فاجتمع بالسلطان، وأمره بذلك، فأجاب باشتراط أمورِ أجابه إليها، والتمس منه أن يلبسَ الخُلعة والتَّشريفَ على العادة، فامتنع وتقلَّد ورجع وهو راكب بغلة لكاتب السِّر ابن البارزي بثيابه البيضِ وطيلسانه، فدخل الصَّالحيةَ وصُحبته جماعة المباشرين والدوادار الكبير والثاني على العادة، [ولم يسمع الدعوى التي جرت العادة](3) بها، ثم توجَّه إلى منزله، فاستدعى بمباشري المودع والأوقاف، وهرع النَّاسُ
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(2)
في (أ): "الحنفية"، وهو تحريف.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (أ).
للسلام عليه وعلى صاحب التَّرجمة، بل سلَّم كلُّ واحدٍ منهما على الآخر بمنزله، وأنشد شيخنا إذ ذاك ما رآه فيما يغلبُ على ظنِّي في "مرآة الزمان" لسبط بن الجوزي، حيث قال: عُزِلَ أبو عمر بن عبد الواحد عن قضاء البصرة، وقُلِّدَ أبو الحسن بن أبي الشَّوارب، يعني محمد بن الحسن بن عبد اللَّه، المتوفى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فقال العصفريُّ الشاعر:
عندي حديث ظريف
…
بمثله يُتغنى
مِنْ قاضيين يُعزَّى
…
هذا وهذا يُهَنَّا
فذا يقول: اكرَهُونا
…
وذا يقول: استرحنا
ويكذبان ونهذي
…
بِمَنْ يصدّقُ منّا
وكان كافَّةُ الناس -إلَّا مَنْ شذَّ- توهَّم أنَّهما من إنشائه، مع أنَّهما في كتاب متداول بأيدي جَمْعٍ مِنَ الفُضلاء، وهو "معيد النعم ومبيد النقم"(1) للتاج السبكي، لكن شطر ثانيهما (2) عنده:
ويكذباني جميعًا
…
ومَنْ يصدّق منّا
وبلغ ذلك القاياتي، فتأثَّر وضمَّ ذلك لما كان عنده قبل، حيث وقع بينه وبينَ العلَّامة العلاء القلقشندي، وهما بمجلس شيخهما صاحب الترجمة، مباحثة سطا فيها العلاءُ عليه، فلم ينتصر شيخهما، بل سكت بناءً على أنه لا يُنسب لساكت قول.
[وصار (3) القاياتي يقول عَقِبَ ذلك: قد كنتُ أردت القيامَ حين ابتداء العلاء، فمنعني الشيخُ مِنْ ذلك، فكأنه كان يحبُّ ما وقع، ومعاذَ اللَّه أن
(1) ص 73.
(2)
قال السفيري في "المختصر" معقبًا على ذكر السخاوي لهذه الأبيات بلفظ التثنية. وكأن الشيخ شمس الدين السخاوي لم يقرأ في فن العروض ورأى هذه الأبيات مكتوبة في شطرين، فتوهم أنها بيتان.
(3)
من هنا إلى قوله: "رحمهم الله أجمعين" لم يرد في (ب).
يظنَّ بشيخنا ذلك، لا سيما وقد صرّح بما يُقبل مِنْ مثله ويُعذَرُ به، والأعمالُ بالنيات. هذا مع كون القاياتي رحمه الله كان كثيرَ التحمُّل وعدم إظهارِ ما يتَّفق ممَّا يشبه هذا.
ولقد حكى لي بعضُ مَنْ أثِقُ به أنَّه عُقِد مجلسٌ بالمؤيدية بين يدي شيخنا وبقيَّة القضاة، وحضر كاتبُ السِّرِّ البدري بن مزهر والدوادار أزبك وجماعة، لإخراج مَنِ استقرَّ فيها بنزولٍ، لكونه خلافَ شرط الواقف. وحضر مِنْ أعيان الجماعة بها القاياتي والأبناسي والشهاب بن هشام، فجلسوا بين يدي شيخنا، وشرع شيخُنا في الكلام، فبادره الثلاثة، فاغتاظ عليهم، وقال: من أدبكم لم لا تسمعون كلامي إلى آخره؟ فإن وجدتموه وافيًا بالغرضِ فذاك، وإلَّا فتمِّمُوه، فسكتوا عن آخرهم.
قال الحاكي: واتفق أنني اجتمعت بابن هشام، فرأيته متألِّمًا بسبب مخاطبة شيخنا لهم بذلك، وذكر ما لا أحبُّ إثباته. قال: ثم لقيتُ الأبناسي، فأبلغته المقالة المشار إليها فأنكرها، وقال: لستُ أقطع ما بيني وبينه، وأمتنع عن مصالحَ وشفاعاتٍ تُلتَمَسُ منِّي عنده لأجل كلمة. مع أن الأدب فيما رسم به، بل هو أستاذُنا وشيخُنا.
قال: ولقيتُ القاياتي، فذكرتُ له مقالة كلٍّ منهما، فلم يُبْدِ كلمةً، ولا خاض في شيءٍ مِنَ الطريقين، رحمهم الله أجمعين].
ولم يلبث القاياتي إلا يسيرًا، وفَجَأَهُ الموت، فأصابته (1) يوم السبت تاسع عشر (2) المحرم سنة خمسين حمَّى صفراوية، ولم يكن قبل ذلك يتداوى، فحمله أولاده في هذه المرضة على التداوي والحُقنة، فخبطوا في أمره، فحطَّت قوَّتُه، ولم يزل مرضه يتزايد حتى مات بُكرة يوم الإثنين ثامن عشر (3) المحرم المذكور، فأُعيد صاحب الترجمة بعد سبعة أيام في يوم
(1)"فأصابته" ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): سهر.
(3)
في (ب): "خامس عشر" وفي (أ): "ثامن عشر". وما هنا موافق لما في إنباء الغمر 9/ 247، وذيل رفع الإصر ص 287.
الإثنين خامس صفر سنة (1) خمسين، وهذه الكرَّة الخامسة، وفرح الناس بذلك كثيرًا، واستمرَّ إلى أن انفصل في أواخر ذي الحجة من السنة، [وفي أثناء هذه الولاية أُلبِسَ خُلعة الرِّضا](2) وقُرِّرَ ابن البلقيني في أول يوم مِنَ المحرم سنة إحدى وخمسين، ثم أعيد في يوم الإثنين ثامن ربيع الثاني سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة بعد انفصال القاضي ولي الدين السَّفطي، فإنه كان استقرَّ عقب ابن البلقيني في العاشر مِنْ شهر ربيع الآخر من سنة إحدى وخمسين، فأقام شيخُنا يسيرًا، ثم انفصل في خامس عشري جمادى الثاني من السَّنة بعد سبعة وسبعين (3) يومًا، وأُعيد ابن البلقيني في يوم الثلاثاء عشرينه، وكانوا راموا انفصال صاحب الترجمة قبلُ بالشَّرف المناوي بعد أن أعطوا (4) الشَّرفَ تدريس الشافعي، فما وافق استحياءً مِنْ صاحب الترجمة.
ولما ولي ابنُ البلقيني، توجَّه شيخُنا للسَّلام عليه، فباسطه وعرّفه أنه لم يَصِرْ له رغبة في القضاء لتطمين فكره، ثم أمر نقيبه بالتوجُّه إليه، ويأمره أن يحلف له أيمانًا مغلَّظة -ولو بالطَّلاق- أنَّ شيخنا صاحبَ التَّرجمة ما بقيت فيه شعرة تقبلُ اسم القضاء، ويلتمس منه أن تكون أمورُ ابنه عنده مرعيةً، لأنه هو المحرِّك لوالده في ذلك، بل كثيرًا هو الذي كان يسعى ويتكلَّف مِنْ غير علمِ والده إلى أن يُجابَ، ففعل النَّقيبُ -وهو القاضي شهاب الدين بن يعقوب- ذلك، فازداد القاضي علمُ الدين بذلك طمأنينة، وأخذ كلُّ واحدٍ منهما في التودُّد لصاحبه، حتى إنَّه ختم "البخاري" المقروء لجهته في أواخر شعبان، فحضر القاضي، وماتت الشَّريفة ابنة أخت جهة (5) صاحب الترجمة، فحضر أيضًا للصلاة عليها، وردَّد الناسُ فكرهم في أيِّهما يصلي إمامًا وفي محل الصلاة، لأن محلَّ دفنها بالقُرب مِنْ جامع المارداني،
(1) في (ب، ط)"خامس عشري"، وفي (ح)"ثامن عشري".
(2)
ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(3)
في (ب): "بعد سبعين".
(4)
في (ب): "حين أعطوا"،
(5)
"جهة" ساقطة من (ب).
وبيتها بالقُرب مِنْ منزل شيخنا، فما شعروا إلَّا وقد أمر صاحبُ التَّرجمة، بإدخال الجنازة: جامع الأقمر، وقدَّم الشَّريفَ النَّسَّابة للصَّلاةِ، قائلًا له: تقدَّم يا سيِّد، فإنَّها ابنةُ عمِّك وأنت أحقُّ بها، فكانت مِنْ النكت اللطيفة.
ونحوه ما اتَّفق قبل ذلك أنَّهما اجتمعا في وليمةٍ عند القاضي أبي العدل البلقيني في مدرستهم، وكان بينهما إذ ذاك شيءٌ، وشيخُنا هو القاضي حينئذٍ، فحضرت الصَّلاةُ، فقدم الشيخ نور الدين بن الركَّاب المقرىء للصلاة إمامًا.
وأين هذا مما اتَّفق، وهو أنه في رجب سنة ثمان وثلاثين توفي الشهابُ أحمد بن ناصر الدين محمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني، قريب قاضي القضاة علم الدين، فحضر شيخُنا صاحبُ التَّرجمة -وهو إذ ذاك صاحبُ المنصب- جنازتَه مع قريبه، فلمَّا انتهيا إلى قُرب محل الصَّلاة، أمر القريب بوضع النَّعش، وتقدم للصَّلاة عليه إمامًا، فركب صاحبُ التَّرجمة بغلته وانصرف.
ولفعل القاضي علم الدين هذا لمَّا توفي القاضي تقي الدين البلقيني، [وذلك في شوال من السنة](1)، وكان شيخنا إذ ذاك أيضًا قاضيًا، حضر إلى بيته فعزّى ولدَه وانصرف، واعتذر عن عدم الحضُور بقوله: القريبُ أولى.
ولما حضر البلقيني في ختم "البخاري" المشار إليه. سأل بعض الفضلاء عن الحكمة في انفراد طلحة بالقيام لكعب في قصَّة توبته رضي الله عنهما، فبادر القاضي بقوله: لقرابةٍ بينهما، فعارضه حفيدُ أخيه القاضي علاء الدين في ذلك بقوله: مِنْ أين القرابةُ؟ وأيَّده شيخُنا بقوله: أحسنت بارك اللَّه فيك لم تكن بينهما قرابةٌ أصلًا. نعم، لو قال القاضي لمؤاخاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بينهما، لكان أحسن (2)، فتغيَّر خاطِرُه من ذلك، وبادر حين فراغِ المجلس، واستجازه القارىء -وهو سبطُ شيخنا على العادة- إلى الإجازة، فتبسَّم
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(2)
في (ب): "حسنًا".
صاحبُ التَّرجمة قائلًا له: مولانا قاضي القضاة أحبَّ إتحاف الجماعة بإجازته، لعلمه بحصولها لهم في كلِّ وقت منَّا.
واستمر شيخنا منفصلًا عَنِ القضاء، مخلصًا في عدم الرغبة إلى العَوْدِ إليه حتى مات، وما ذاك إلَّا لإرادة الخير به، وإلَّا فقد سمعتُه مرارًا عقِبَ عزله بالقاياتي يحكي عن بعض الأكابر قوله: ما سُررنا بالولاية، لكن ساءنا العزلُ. وقال في "شرح البخاري" عند حديث "تجدون خير الناس في هذا الشأن -أي الولاية والإمرة- أشدّهم له كراهية": معناه أنَّ الدُّخول في عهدة الإمرة مكروه مِنْ جهة تحمّل المشقَّة فيه، وإنَّما تشتدُّ الكراهةُ له مِمَّن يتَّصفُ بالعقل والدِّين، لما فيه مِنْ صعوبة العمل بالعدل وحمل النَّاس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه مِنْ مطالبة اللَّه تعالى للقائم به مِنْ حقوقه وحقوق عباده، ولا تخفى خيريَّةُ مَنْ خاف مقامَ ربِّه.
وأمَّا قوله: "وتجدون مِنْ خير النَّاس أشدَّ النَّاس كراهيةً لهذا الشأن حتى يقع فيه"، فإنه قيَّدَ الإطلاقَ في الرِّواية الأولى، وعرف أنَّ "مِنْ" فيه مُزادةٌ، وأن مَنِ اتُّصفَ بذلك، لا يكون خيرَ النَّاس على الإطلاق.
وأمَّا قوله: "حتى يقع فيه"، فاختُلفَ في معناه، فقيل: معناه: أن مَنْ لم يكن حريصًا على الإمرة، غير راغبٍ فيها، إذا حصلت له بغير سؤالٍ تزولُ عنه الكراهة فيه، لما يرى مِنْ إعانة اللَّه تعالى له عليها، فيأمن على دينه مَنْ كان يخاف عليه منها قبل أن يقع فيها، ومِنْ ثمَّ أحب بعضُ مَنْ دخل فيها مِنَ السَّلفِ الصَّالحِ استمرارها حتى قاتل عليها، وصرَّحَ بعضُ مَنْ عُزِلَ منهم، بأنَّه لم تسرّه الولاية، بل ساءه العزل. وقيل: المراد بقوله: "حتى يقع فيه"، أي: فإذا وقع فيه، لا يجوز له أن يكرهه. وقيل: معناه أنَّ العادة جرت بذلك، وأنَّ مَنْ حرَصَ على الشَّيء ورغِب في طلبه، قلَّ أن يحصُلَ له، ومَن أعرض عَنِ الشَّيء، وقلَّت رغبتُه فيه، يحصل له غالبًا.
قلت: وقد قال بعضهم:
حُمِلْتُ على القضاء فلم أُرِدْه
…
وكان عليَّ أثقلَ مِنْ ثبيرِ