الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث (1) في
رسائله
وخُطب كتبه (2)
[رسائله:]
فمن الأول:
ما كتب به (3) لبعض أخصَّائه وقد حصلت له حكَّة:
أشكو إلى اللَّه مِنْ هذا الزمان ومِنْ
…
هذا السُّقام الَّذي قد حلّ في بدني
رق العدوُّ بمَا قاسيتُه ورثى
…
وما رثى لي سقامي بل ولا زمني
سطَّرها المملوك، لا برح مولانا في عافية غير عافية، وصحة مِنْ نحو الأمن كافية شافية، وحماه من موادِّ الأسواء، وسقاه نَوْءَ الشِّفاء، فهو مِنْ أعذب الأنواء، وذلك بعد أن حصل في قبضة الكُرَب، ووقع بيديه ورجليه في شباك الجَرَب، يَثنِيان عنه طرف الصِّحَّة كف، وعن خاطر كانت رقته وصفاؤه في ماء ونار، والآن قد نشرهما السُّقم في جسمه ولف، وصار يُدعى المُحبَّب، وأقبح إليه التعبير (4) بهذا المعنى القبيح في ذلك اللفظ
(1) بياض في (ب).
(2)
في (ب): وخطبه وكتبه.
(3)
في (ط): ما كتبه.
(4)
"التعبير" ساقطة من (ب).
الحسن، وأوجب سقمه على خده فَرْضَ الدمع من بعد أن حرّم على جفنه وسَنّ، وأنشد سقمه العافية الذاهبة:
ما كان يَغدُوكَ المُنى
…
لو قيل يومًا تَمَنْ
وحبته الأسقام بحبّات قلوبها، وألحقته سماء الأمراض بنجومها المشرقة في جسمه، فمتى أوانُ غروبها؟ ولقد لقي من حَرَبِ هذا الجَرَبِ شرَّ نصب، ووجد لما سكب في جسمه الماء مِنْ نار حشاه وصبّ، ومضى عنه جوهرُ العافية بهذا العَرَضِ وذهب، واستيقظ له نائمُ سُقَامه، فأهدى لقلبه الأسى ولجسمه السقام وهَب، ولقد أحجم مِنْ بعد الإقدام، وصار كفُّه من ناره في إسراج، ولسُانه عن عنان القول في إلجام، وزاد على عامَّة الأطباء حقدًا، ويصفون له التداوي بالكبريت، ولا يظنُّه يزيدُ النَّار إلا وقدًا، ومذ رأى جسمه معمرًا بالحبِّ، علم أنه مخرَّب، وحين دخل مِنْ باب الحكّة. أيقن أنه مجرَّب، ومع هذا، فالمملوك لا يشتكي إلا إلى اللَّه عز وجل، وإن وجد قلبه مِنْ صبره لما عز وجل.
ولا يُنكر سيدنا ما تقدم مِنْ هذا الهذيان، فإنه هِجِّيرُ السَّقيم، وُيسبل عليه سِتر حلمه، فما يغطي على جهل الجهول سوى حلم الحليم، ويتصدق مع حاملها بالمجموعة المجديّة، فقد صبر عنها ما كفاه، ولا يشكُّ أن في مطالعتها عافيته، لما اجتمع (من الثناء)(1) عليها من ألسن وشِفاه، لا برح له في دعاء المولى إلى العافية خير سبب، ولا زال مولانا كنزًا لجواهر الأدب يستغني به إلى أن يستغني عن الأدب.
ومنه ما كتب به للمجد ابن مكانس مع قصيدة سينية:
يقبّل الأرض، وإن كان لا يُقنعه (2) إلا مِنْ قُربٍ ذلك التقبيل، ويواصل بالأدعية الصالحة، وإن لم يكن مِنْ أهل ذاك القبيل، ويُنهي أنه
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ط): "يرضيه".
سطر في مدح المخدوم قصيدةً مقرَّة عند صدورها بالعجيم والتقصير، ملتثمة بالحياء تمشي على استحياء، وصاحبها لما نزل عليه من الأجوبة الغنية فقير، وهي جارية يتيمة، سمّاها شرف انتمائها جوهرة ورقيقة الألفاظ، ولسعادة مَنْ نُظمت فيه، أمست محرّرة، والمسؤول إسعادُها بالنَّظر إليها، وإسعافُها بالوقوف عليها، لا زال المولى واسع الصدر لمن ضيَّق عليه مِنْ صغار المتأدبين، ولا برح ممدَّحًا بسائر اللغات، حتى على رأي العوام بالسِّين.
ومن رسائله: رسالة في مكدي، منها:
وتناول لقوس قامته وتر العصا، وأطاع شيطانَ هواه ولربه قد عصى، وفرَّغ في الملأ سهام إساءته الوافرة وأنفذها، وقرّب كلماته السَّخيفة إلى الأذهان، وهو عن الصواب أبعدها، وسنَّ سيفَ لسانه للكُدية وشحذ، ورمى الحياء وراء ظهره ونبذ، ورافق المُكدين وماشى، وأجدب وجهه لمّا عدم ماء الحيا فصنع ما شا، فكم أخطأ طريق الصواب، واعتمد (1) على التمسُّك بحبال شمس الكُدية، وهى مِنْ أوهى الأسباب، فهو في الضَّعف والدناءة والجرأة والقُبح والخلاء كالذُّباب.
ومنها: من رسالة أولها: يقبّل الأرض التي (2) أشرق نورُها، وتضاعف عبدُها من الحزن لبعدها (3)، فتضاعف عندها بقُربه سرورُها، ويُنهى ثناءه الذي حفظ طيه فضاع وكتمه عن الحاسد، وإخفاءُ الشمس لا يُستطاع، وشوقه الذي كلَّما تبلَّد بالبُعد خاطره، ذكت ناره، ودمعه الذي ساحله بالبحر فاحترق، وأنفاسه دخانه، وتساقطُ جمرات الدموع شرارُه.
منها: وودَّ المملوكُ لو كان عِوَضًا عَنْ هذه الضَّراعة التي قصَّرت لدى الحضرة النُّورية التي أشرق نورها وتضوّع زهرها، فهي على الحالين نوَّرت، وتيمَّم صعيدًا طيّبًا، فإنَّ ماء الفضل في مصر معدوم، وأهلُها أقربُ النَّاسِ
(1) في (أ): "واعتمدت".
(2)
في (ب، ط): "الذي".
(3)
في (ب، ط): "لبعده".
لجهل معلوم، واللَّه يحقّق هذا الأمل، ويتبع صحيح النِّية بحُسن العمل.
ومنها من أخرى يشكو فيها خمول فن الأدب، ومُضيَّ العُمر في التَّعازي والتهاني:
وضيَّع المملوكُ جواهرَ كَلِمِه في مدح الأعراض، وكيف لا يضيعُ الجوهر في الفاني، وقد أقسم صدر قلمه أنه لا يعود في العقد بسحر البيان (1) نفَّاثًا، وطلّق أبكار هذا الفن الذي لا يلتفت إليه أحدٌ ثلاثًا.
ومنها من أخرى إلى بعض الأصحاب:
وأدِم السُّرور والشُّرب، فالنفس ما تُسَرُّ (2) إلَّا بالمُدام، وبادر إلى الصَّبوح قبل أن تَفُكَّ يدُ الصَّباح أزرارَ النُّجوم مِنْ غُرى الظلام، وعاشِرِ الأفرادَ بوصل الخُماسيات مِنْ أقداح الرّاح وقدودِ الملاح، واطَّرح رداء الاحتشام بعقلٍ مزال (3) وجدَّ مزاح حتى ترى ثعلب الفجر وقلبه يخفق خوفًا من بُزوغ الغزالَة، والعاشق واصَلَ سَقْيَ محبوبه ولم يخشَ صدّه وملاله.
ومنها: وَصِل مَنْ قطعت مِنْ غُرر أحبابك ودُرر حبابك، وكمِّل بالحضور تَرَحَ أعدائك وفرَحَ أصحابك فقد مَسَحَت راحةُ الثُّريَّا جفون النّدامى مِنَ المنام، وهبُّوا لشأنهم على العادة وقت الأذان، والسلام إن شاء اللَّه تعالى.
ومنها استدعاء للقاضي بدر الدين بن الدماميني:
الحمد للَّه مجيب الدَّاعي أن رأى المخدوم ثبَّت اللَّه أحكامه، وأعلى في الخافقين أعلامه، ما طلع بمصر بدرٌ تراه الشهب منها أسنى، وما أنبتت راحته في رياض طرسه أغصان سطور إذا وقع فيها قلمه، قلنا: هذه الروضة الغنَّا، وما أمست محاسنُ لفظه زائدة، وأصبح في الفضل معنا حتى يعودَ به ميتُ الآداب حيًا، ويروي بفضله قارىء كلامه، فيظن أنه لثم ثغر محبوبته
(1) في (أ): "اللسان".
(2)
في (ط): "ما تنصر".
(3)
في (ب): "زائل".
ريّا، ويشوي به قلب الحاسد، حتى يعود كأنَّه لم يكن شيئًا، وحتى يلتقي من بعد يأس سهيل في الكواكب والثُّريَّا، أن يتفضَّل بنقل خطاه المبرَّأة مِنَ الخطأ، الساعية لطائفة الأدب، وهي عن سواهم بطَّا، إلى منزل جاور النيل، والنيل جاري، ودرى بمحبَّتي من النسيم، فأتحفني به، فهو على كل حالٍ داري، أعين طاقاته السبع ترى مِنْ كلِّ عينٍ منها النيل، وحديثُ اعتلالِ النَّسيم منه صح، ولا شيء أحسن مِنْ صحَّة العليل.
منها: والمملوك يخشى إن قصَّر في الوصف فوات ما أمَّل، ويخاف الفضيحة في آخر إن ورَّى في الوصف وأوَّل، ولولا علمه بفوائد مولانا في الإفضال، ما تجاسر على السُّؤال، وهو يتحقَّق الصَّفحَ عَنِ التَّقصير، فلا يطوّل بالمعاذير، وإن تكن الأخرى.
فما احتيالي إذا خُلِقْتُ فتى
…
تجري بما ساءني حكم المقادير
نعم.
وما أنا خاشٍ أن تخيب وسائلي
…
لديك ولكن أهنأ البرِّ عاجلُهْ
واللَّه تعالى يُديم بقاءه ما أُجيبَ سائل، ونسب أيده اللَّه في جرِّ ذيل الفخار في البيان إلى سحبان وائل، إن شاء اللَّه تعالى.
ومنها مِنْ أخرى كتبها إلى بعض الأكابر مِنَ الصعيد:
وكان المملوك أقسمَ أن لا بدَّ له مِنَ الانتقال، وسأل بعد أن أوقعه البَيْنُ في عثرته أن يقال، ولعبت به يمين النوى كما لعبت بالطَّلل ريحُ الشَّمال، وفارق ربيع الخضرة، فنومه بعدها محرم ودمعُهُ جمادى، وألبسته ليالي الفرقة السود، حين سلَّ بياضُ المشيب على رأسه سيوفًا حدادًا.
ولا ينكر سيدنا منِّي التَّقصير في هذه المكاتبة، فأنا على كلِّ حالٍ مسافر، وقد نهيت عزمي عن العود للنَّوى، فقال: إني مقلعٌ (1) قلت: إياك
(1) في (أ): "معلق"، تحريف.
أن تعود وحاذر، واللَّه المسؤول أن يسهّل المشقَّة، ويطوي هذه الشُّقَّة، فهو بتفصيل الحال عليم، وإذا انتهى الخَطْبُ الجسيم، تُوقِّعَ الفرج العظيم، واللَّه أسأل أن يقدر بخير.
ومنها من أخرى:
يقبِّل الأرضَ حيثُ سماء المكارم ليس دونها حجاب، ومنازل السَّعد التي لا طاقة للعُفاة بفراقها مُفتَّحة الأبواب، وخيام الفضل التي لا فواضل لها عن المجد ثابتة الأوتاد، قوية الأسباب والجبين طَلْقُ المحيَّا، واليمين ممدودة لطالب اليسار تقول: هيا، والمجد باقٍ إلى أن يلتقي من بأس سُهيل في الكواكب والثُّريَّا، وينهي وصول المثال الذي لو رآه الحريري، لعقد عليه الخناصر، لعلمه بأنه من الطراز الأول، فوقف له إجلالًا، وعليه اتباعًا لأوامره وامتثالًا، وقبل أحرفه على أنها الأسرَّة، وأسطره على أنَّها الأنامل التي تهبُ المسرَّة، وكحّل به طرفه، لأنه من النُّوراني، وروي عنه حديث المودَّة لما رآه مثبتًا، وودَّ لو أعطيَ لفظًا طائلًا، فأطاب (1) في وصفه وأطال، أو ذهنًا حديدًا، فقابل به ذلك الذهب (2) السيّال، لكن ذِهْن المملوك تبلَّد في السَّفر، مع أنَّ نيرانَ قلبه ذكيّة، ورويّته مثل (3) بديهته سقيمة مما قاساه (4) دون البريّة. . .
إلى أن قال ما ختم به ما كتب به على "بديعية الوجيه العلوي" الماضي في أوائل الباب (5): (زال)(6) في سعادة لازمة له لزوم الهمزة للاستعلاء على ما ألف، وكان المبتدأ صدر الكلام (7)، واللام للتَّعريف بعد الألف، ودام منادي عيشه لا يُرَخَّم، وأحمد زمانه لا ينصرف، وأدام تصرُّفَه بحكم اللسان والأقلام، وخدم مجلسه الكريم بأفضل التحيَّة والإكرام، والسلام.
(1) في (أ): "فأضاف".
(2)
و (3) ساقطة من (أ).
(4)
في (أ): "سقاه"، تحريف.
(5)
ص 724.
(6)
ساقطة من (أ).
(7)
في (ب): "الكتاب".
ومنها من أخرى:
يقبِّلُ الأرض تقبيلًا هو عليه آكدُ مِنَ الفرض، ويُعربُ (1) عن طول الوُدِّ المبنىِّ إلى يوم العرض، وينهي شوقًا أقلق خاطره، ودمعًا أسهر ناظره، وتلهُّفًا على الحضرة التي غاب عنها، وتلهُّبًا (2) على الجنَّة التي خرج منها.
ومنها من تعزية:
عفا اللَّه عنه وسامحه، وجعل سحائب الرضوان غادية عليه بنفحة طيبة ورائحة.
ومنها من أخرى:
يقبل الأرضُ متلهفًا على وجودها، متأسِّفًا على مفارقة كرمها وجودها، نادبًا على نفسه، نادمًا على مرافقته غيرَ نوعه ومفارقة أبناء جنسه، وإنما يتشكّى مَنْ به رمق.
ولا تحسبوا أنَّ الغريبَ الذي نأى
…
ولكن مَنْ تَنْأوْنَ عنه غريبُ
ومنها من أخرى:
يقبل الأرض، وكيف له بذلك حقيقةً؟ وأنَّى له بالتَّمثُّل بين أيادي مخدومه الجليلة ولو قدْرَ دقيقة، ويبالغ في المدح بما لا يلقى وزيادة في نعمائه شقيقة، وينهي أنه قد فارق المخدوم قليل الصبر، بل عديمه، كثير الأرق، بل مستديمه، لا تمضي لحظة، إلا وذِكْر المولى شعاره، ولا طرفة عين إلَّا وأنيسه آثاره.
ومنها من أخرى:
يقبل الأرض، وكيف له بذلك؟ ومَنْ معينه على وُلُوج تلك المسالك، ونهاية مطلبه إحياء قلبه بالإقامة في الحضرة التي يأمَنُ فيها مِنَ المهالك. . . . . . . (3) دار الهجرة ومالك.
(1) في (أ): "ويعرض"، تحريف.
(2)
في (أ، ب): "وتلهفًا".
(3)
بياض في الأصول.
ومنها من أخرى:
يقبل الأرض سقى اللَّه حماها، وحمى نبتها بعين رعايته وكلاها، وجعل خادمها من سائر الأسواء فداها، وينهي ورود المثال الكريم، فوقف عليه وما وقف عنه، وأطال ظامىء نظره إليه، ولم يبلغ الرِّيَّ منه، واستشفى به مِنَ النَّسيم لجسمه الناحل، واستسقى بميمون غُرَّته في البلد الماحل، واستغنى به عن الوسْمِيِّ والولي، وارتفع به مقداره، لأنّه (1) أتاه من عَلِيّ.
وإن لأخبارِ الأحبة فرحةً
…
ولا فرحة المجهود فاجأه القطرُ
ومنها من أخرى:
مَنْ له بدار المولى التي كان إليها لا لها مهاجرًا، وبجامع محاسنه الأزهر الذي تسعى إليه النواظر على النواظر، وبعَروض محادثته لا عُروض تجارته التي دارت عليها الدوائر، وبكامل ودّه المثري مِنْ بحرِ كرمه بالمديد الوافر، وبإعراب فضله الذي لزم الحركات، فهو للأذهان سابح، وللهموم شافع، وللأحزان كاسر. . . .
إلى أن قال: وللَّه أيام قربه ما كان أعلنها بالحُسْنِ وأسرَّها (2)، وليالي أنسه ما كان أحلاها وأمرّها، وما عنى المملوكُ إلا سُرعة المرور، لأن المرارة لا تُنسب إلى ليالي السرور.
ومنها من أخرى إلى من يُسمَّى شرف الدين:
يقبل الأرض ذات الشرف السامي، والفضل النامي، والفكرة التي إذا نظرت في بحور النظم تصيب البحر الطَّامي، والرويَّة التي تصيب الأغراض وافرة سهامها وناشرة إلى الرَّامي.
ومنها ما كتب به إلى القاضي نور الدين، وهو بالقدس الشريف:
(1) في (ب): "لا أنه".
(2)
ساقطة من (ب).
من سرّه وطنٌ يومًا أقام به
…
فإنني ساءني من بعدكم وطني
إنَّ الغريب الذي تنأى أحبَّتُه
…
عن طرفه لا الذي ينأى عَنِ السَّكنِ
إن كنت أذنبتُ لمّا أن أقمتُ فقد
…
أسأت والعفوَ أرجو يا أبا الحَسَنِ
سمَّى عليًّا كثيرٌ في الأنام ولم
…
يُبْصَر سواك حكى معنى اسمه فكُنِ
يقبل الأرض التي فاحت أرجاؤها وتعطرت، وأشرقت أزهاها، فهي على الحالين نوّرت، وما هي إلَّا سماءً ذات نور، وشريعة فضل شرعت للورود، فشفتِ الصُّدور، وبُيوت رُفعت بذكر اللَّه، فجزم البُلغاء أنهم عن وصفها في قصور، فواشوقاه لذاك المحلّ الأقصى، فقد مللتُ مِنْ هذا المحلّ الأدنى، وواأسفاه على فراق تلك الذات التي حوت الحُسْنَ والحُسنى، ويا صِدْقَ لفظ مَنْ قال كأنه كان حاضرًا معنا:
ارْضَ لمن غاب عنك غيبتَه
…
فذاك ذنبٌ عقابُه فيه
وينهى أنه ما برح على وظيفة الثناء بمصر بعد رحيل المخدوم مقيم، وإلى أخباره السَّارَّة كلَّما نظر إلى نجوم دموعه الحالَّة سقيم، وقلبه مِنْ توقُّد نار البُعد في تلهُّب، ولا عجب إذا تحرّق على فراق الصَّديق الحميم. أمَّا يدُ الحزن، فإنه أسيرُها، وأمَّا كثرة الأسقام، فعنده إكسيرُها، وقد أمسى بحزن نحوك لا ينفَدُ، مع أنه لا يشتكي إلَّا إلى اللَّه علا وجلّ، "وأقام جسده بمصر، ووصلت روحه القدس" كما يقال في الفل. وكيف لا، وفي قُرب المخدوم وهو أعلى قدرًا من الرئيسين: الشقاء والنجاة، ومن التجأ إلى جنابه أتاه شرف وجاه، فهب (أن ليالي)(1) افتراقه عديمة السُّرور، فظلمه النواحي، ولسان حالها (2) يقول:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
وكم مِنْ شِدَّه عَظُمت وجلَّتْ
…
فأفضى الأمرُ فيها للرَّجاء (3)
(1) ساقطة من (ب، ط).
(2)
في (أ): "حاله".
(3)
في (ح): "للرخاء".
وما خطرت دواعي الشَّوق إلا
…
هَزَزْتُ إليك أجنحة التَّصابي
واللَّه المسؤول أن يطوي هذه الشُّقَّة بلطفه المحرر، ويسهّل هذه المشقَّة على الجملة، فهو بتفصيل الحال أخبر، ويبقى المخدوم في مسرَّة لا ينقضي أمدُها، ونِعَم لا يحصى عددُها، ولطائفَ لا ينقطع مددُها، ما رُحم غريب، واشتاق الخليل إلى بيت المقدس إذا حلَّه حبيب بمنّه وكرمه.
ومنها من أخرى في جوابٍ عن لغز في "سحاب":
وقفت على هذا اللُّغزِ الكريم، لا زالت أيادي منشئه ممطَّرة بالمعاني العِذاب، وساكنة إلى يوم ترى الجبالَ تحسبها جامدةً، وهي تمرّ مرَّ السحاب، وأطال بقاءه ما غنَّت حمامة، ونُسِجَت عمامة، فوجدته كريمًا في أصله، وإن رُخِّمَ بتحريف كان مصدر فعله، وإن حوّل ثانيه أولًا وصُحّف، كان قلبه، وهو الطهور نجسًا، وإن ترك على حاله، صار إذا نشأ عنه ضحك الرياض معبسًا:
يبكي ليضحك نورُهُنَّ فيا لَهُ
…
ضحكًا تولَّد عَنْ بُكاءِ سحابِ
وانتهيتُ بالقراءة إلى آخره، وإن كان فضل صاحبه غير متناه، ونبَّهني منهاج فضله تنبيهًا (1)، فقرأت كتاب الطهارة باب المياه، وتأمَّلتُ خطَّه، فرأيته إذ فاق في الكتابة آتاهُ اللَّه فنَّ البلاغة بغير حساب، ولمّا رأيتُ الغيث يهمي مِنْ أياديه، عرفتُ أنَّها هي السَّحابُ، واللَّه يحيي هذا المولى لهذا البحر، يجني مديده وطويله، ويسعد الدَّهر الذي نشأ فيه هذا الأصل (2)، حفظ اللَّه منه اسمه ونسبه شمسه وأصيله، إن شاء اللَّه تعالى.
(1) في (أ): "بينهما".
(2)
في (ح): "الأصيل".
ومن الثاني - أعني خُطَبَ كُتبه
قوله في خطبة كتاب "اختار دمية القصر" للباخرزي:
أما بعد حمدِ اللَّه الذي جعل لنا عن مريض المقال حِمية، وأهدى لنا أبكار المعاني، فانتخبنا منها هذه الدُّمية، وصلى اللَّه على سيدنا محمد الذي أُوتيَ جوامع الكَلِم، وعلى آله وصحبه الذين رُوِيَ في فضائلهم ما شُهر كالنجوم وعلم. . .
إلى أن قال: عفا عنه وسامحه، وجعل سحائب الرضوان غادية عليه بنفحة طيبة ورائحة. . .
حتى قال: وأسقطت ذِكرَ الرجل إن كان شعره نازل (1)، ولم ألتفت لتهويل المؤلف في ترجمته إن كان كلامه غير هائل.
ومنه خطبة كتاب "الضوء الشِّهابي":
أما بعد حمدِ اللَّه كما أمر على ما علَّم، وصلى اللَّه على سيدنا محمد الذي أنقذ به من العذاب وسلم، فقد أمر مَنْ طاعتُه حتْمٌ، وأمرُه المرفوع على الرؤوس جَزْم، أن أجمع له ما جَنَتْهُ يد فكري القصيرة مِنَ الزهور، وأُوردَ له ما شفيت به مِنَ المعاني القليلة الورود الصدور، وأختار ما فرطته سهامُ الرَّويَّة مما رميت به عرض الفكاهة، وإن كنت أبعدت مرماها، وأهدي إليه مِنْ بطون الأوراق عراثس أنتجتها بناتُ القريحة التي اسمها عين مسمَّاها، فأنتهيتُ إلى أمره المتعالي، وانتهيت عن خلاف رأيه الغالي، ورقمت طُرُزًا مذهبة، يتلثم الزَّهر خجلًا منها بالأكمام، وجعلتُ طاعته العمدة في بسط العذر، إذ لم يكن لي بعصيانه إلمام، فأتيت ما حَسُنَ صنعُه، ورفعت إلى حضرته العالية ما شُكِرَ وضعُه، مع أني أتطفل على مشايخ هذا الفن أن يهبَ كلُّ منهم على
(1) كذا في الأصول، والصواب:"نازلًا".
أغصان هذه السطور الموائد مِنَ القبول نسيمًا، وأن يعيرها إذا بدت منها هفواتُ الصِّبا طرفًا حليمًا.
ومنه خطبة مجلد من "تذكرته الأدبية" فيه مختارهُ مِنْ نظم البرهان القيراطي ونثره:
أما بعد حمد اللَّه الذي زيَّن سماء الأدب بمطلع النَّيِّرين، وجمَّل بكلمات البرهان الباهرة كلَّ معاند، فكان في مصر صاحب الصِّناعتين، وصلى اللَّه على سيدنا محمد الذي أوتيَ جوامع الكلم، وعلى آله وصحبه الذين رُوي في فضائلهم ما اشتهر كالنجوم وعلم وسلم.
فهذا الجزء السادس والعشرون (1) من كتاب "التذكرة"، ابتدأت فيه بانتخاب "ديوان العلامة برهان الدين القيراطي الشافعي". وساق نسبه ومولده ووفاته، رحمه الله وعفا عنه وسامحه، وجعل سحائب الرَّحمة غادية عليه بنفحة طيبة ورائحة، فانتدبتُ لانتخابه كما يجب، ومشى قلمي في طرق نظمه ونثره غير مضطرب، ورتبتُ ما انتخبتُ على الحروف، ليسهُلَ تناوله، وكتبتُ مِنْ ذهب ألفاظِه وجواهرِ معاشيه ما ينمو به للقيراطي عنه حاصله، ولعلَّ فيما تركتُ خيرًا مما كتبتُ، لأني قبضت يدي عن الإكثار، وهذا ممّا يبسط اعتذاري، ومشيتُ في انتخابه على قدر اختياري، واللَّه الموقق.
وخطبة آخر فيه "مختاره" مِنْ شعر المتقدمين:
الحمد للَّه الذي حسَّنَ لكل مختار مذهبًا، وصلى اللَّه على أشرف المرسلين محمد المجتبى، وعلى آله وسلم. . .
إلى أن قال: وهذا الاختيارُ لا ناقةَ لي فيه ولا جمل، ولا قول (2) ولا
(1) في (أ): "والعشرين"، خطأ.
(2)
في (ط): "قوة".
عمل، وإنَّما جمعتُ بفصِّه، وكتبتُه بنصِّه مِنْ كتاب "مطلع الفوائد" لخاتمة أهل الأدب جمال الدين بن نجاتة، فقد إقتصرت عليه، وجنحتُ إليه.
ثم قال: إنه زاد على ما اختاره الجمال، لا أنه مستدرك عليه، بل (للناس فيما يعشقون مذاهبُ).
وخطبة آخر: أما بعد حمد اللَّه على مجموع إحسانه، وصلى اللَّه على سيدنا محمد الذي أجرى الحكمة على لسانه، وعلى آله وسلامه.
ومن خطب استدعاءاته، ولم أظفر منها الآن بما يناسب عَلِىَّ مقامه، لينتفع بذلك من يَروم كتابة استدعاء:
الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الهادي مَنْ شاء إلى الصراط المستقيم، والدَّاعي إلى القيام بدينه القويم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، رب السَّماوات والأرضين (1)، ومَنْ فيهما مِنَ الإنس والجنِّ والملائكة المقربين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق كافة، يدعوهم إلى الهدى المنير والحقِّ المبين. صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وفي خطبة أخرى:
واللَّه سبحانه وتعالى المسؤول أن ينفع بذلك، وأن يُشرِقَ أنوار علومهم إذا أظلم جُنحُ الجهلِ الحالك، وأن يجعلهم نجومًا يهتدي بها إلى الطريق القويم كلُّ سالك.
(1) في (ب، ط): و"الأرض".