الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول في تقاريظه البديعة وألفاظه السهلة المنيعة
وأقدم ما وقفت عليه:
[تقريظ كتاب نزول الغيث للدماميني]
مِنْ ذلك: ما قرَّظ به كتاب "نزول الغيث" للعلامة بدر الدين أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر المخزومي الدماميني، الذي بيَّن فيه خطأ الصلاح الصفدي في كتابه "غيث الأدب الذي انسجم في شرحه لامية العجم"، وذلك في رمضان سنة خمس وتسعين وسبعمائة رفيقًا لمشايخ عصره إذ ذاك، كابن خلدون، وابن التنسي، والغماري، والمجد الحنفي، وابن الشِّحنة، وابن الجزري، وابن مكانس، والبدر البشتكي، وغيرهم، بعد أن نسخه بخطه، ونصُّ ذلك، وقد نقلته من خطه من النسخة التي بخط مصنفه، وهي عند صاحبنا الإمام جمال الدين ابن السابق، دام النفع به ورحمه اللَّه (1).
أمَّا بعد حمد اللَّه وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد عبده ورسوله، فما أشرف سيدنا وعبده، فأقول، وإن لم أكن مِنْ رجال هذا المجال المصيبين، لوفُور سهامهم في الأدب أغراض المقال، ولا ممَّن أصغى إلى حُسْنِ الاستماع، إذ لا أدبَ عندي ولا مال، ولو وقفتُ، وقفتُ عند قدري، وما زاحمتُ السَّادة والأعلام -مع طلاقة ألفاظهم- بركيك نظمي ونثري، ولكني
(1) عبارة "ورحمه اللَّه" لم ترد في (ب).
واثقٌ مِنْ هذا المولى (1) يستُره على أهل هذا الفن، عارف بما له مِنْ إنعام على من أجاد منهم، ومن وقفت على هذا الكتاب الشاهد لمؤلفه أنه الحاكم الذي لا يقبل رِشوة، الفريد وإن كان له من مصنفاته إخوة، وتأملت أبوابه، فدخلتْ عليَّ المسرَّةُ من كل باب، ولم أعلم -وأطربني- أهو نزول الغيث أم وقع الرباب، فعوذته حين أطربني، وهو الفريد بالمثاني، وثنيته نحو القلب، وإن كان ما له في الحقيقة ثاني، وأشرقَتْ تلك الفرائدُ منه، فكَلَّ عن (2) وصفها غرب لساني، وجنيت عليه بكثرة ما اجتنيت من أوراقه ثمر الفوائد، فأنا على الحالتين جاني، وقبلته ألفًا وألفًا، فقال لي غرامي زده واضرب الألف في الألف. فتبارك الذي اطلع في سماء البلاغة بدرًا هاديًا، وأرواه مما رواه عن غيره، فأصبح صاديًا (3)، وأيَّده حتى نَظم في هذا العقد الفريد ما شذر مِنْ فنون الآفاه والإفادة، وأعانه على ما جمع فيه من المحاسن، فكان جامع الحسنى وزيادة، فكل أديب أبدى إذ رام (4) مجاراة هذا الصَّدر عجزًا، وصيَّر نفسه إذ رأى بديهته وروِيَّته فُقِدا أو عَزَّا. كيف لا، وقد أنهلهم منه ندى فضلٍ مِنْ خاطرٍ وكفْ، وأعجزت فصاحتُه كلَّ واصفٍ قام في ملأ مِنَ الأدباء وصفٌ، ودنا بفوائده مِنَ القُلوب، فعقل مجاريه قاصٍ قاصر، ومهر فأمهر أبكار المعاني جواهرَ لفظِه، فأكرِمْ به في الحالتين ماهر (5)! فلهذا أحجمتُ عن وصفه (6)، ولا يُنكر مِنْ مثلي، ولو كنتُ قُدَامةَ الإحجام، وقدحت زِنادَ الفكر لإسراج مطيَّة العقل، فلم أظفر إلَّا مِنْ عيِّ لساني بالإلجام.
هذا وقد شاهدتُ مِنْ مؤلِّفه كعبةَ أدبٍ، لو حجَّها جدِّي قبلي تهيَّبَ النُّطقَ، (حتى قيل: ذا حَجَرُ)، وسمعت منه ما لو سمعه الفصحاء، لعيَّوا
(1) في (ط): "السيد".
(2)
في (ط): "من".
(3)
في (ط): "صافيًا".
(4)
في (ب، ط): وقد رام.
(5)
في هامش (ح): كتب النواجي ما نصُّه: اسم الفاعل من "أمهر" إنما هو "ممهر" لا "ماهر"، وبذلك يعلم فساد ما قصده من الاشتراك في لفظة "ماهر" المدلول عليه بقوله:"في الحالين".
(6)
في (ط): أحجمت عنه.
عن وصفه، فكيف بمثلي، (وما عليه إذا لم يفهم البقرُ)، ورأيت (1) غرائبَ مِنْ براعته يردُّها العقل لو لم يشهد البصر، وقلت متجاهلًا مع معرفتي ببلاغته:
(أهذه سير في المجد (2) أم سُوَرُ)؟!
فهو قاضي البلاغة الذي:
أقرُّوا بحق جوهر الفضل عنده
…
ولا عجب للبحرِ صَوْنُ الجَوَاهرِ
والجواد البليغ الذي:
يقول لنا دُرًّا (3) ويبدي سماحة
…
فما البحرُ إلَّا بين كفٍّ وخاطرِ
وعالم المدينة الذي:
على كلِّ رأس طال كعب مبارك له
…
وهو للطُّلَّابِ أفضلُ مالكِ
وربُّ البديع الذي:
قد استخدم الأنظار إذ أصبحت لهم
…
مطالبة قد طوبقت بمهالكِ
وفارس العربية الذي:
غدا قبلةً للناس صَلَّوْا وراءها
…
وفاتهم سبقًا فليس يُجارى
والكاتب الذي:
إذا أبصروا في الطِّرْسِ أثر مِدادِه
…
فذلك سَبْقٌ قد أثار غبارا
وضَحَتْ من سجعه المعاني من بعد، فكم به للعلوم زرقاء يمامة.
(1) في (ط): "وسمعت ورأيت".
(2)
في (ط): "الفضل".
(3)
في (ط): "دررًا".
وأضحت تصانيفُ الأدب الجليلة كالسِّجلِّ وتصنيفه (1) هذا الدَّقيق المعاني علامة، واحتوى على دائرة الأدب، فقلنا: البدرُ قد سكن داره، وتزيَّنَتْ به المعالي، واستبشرت، وليهنِها منه في الحالين بشارة، فلو رآه سحبان، لوافى لطلبِ آدابه مشمِّرًا، فقيل له: مِنْ أين، وإلى أين؟ والخليلُ بن أحمد صاحبُ العروض، لغرق في بُحور آدابه، وقدّم له ما يملكه مِنَ "العين"، وابنُ عبدِ ربِّه، لاعترف بأنه جمع الخرز في "عقده" وابن الصَّيرفي البليغ، لما ساوى معه حبّة، مع حُسن نقده. وأبو العلاء المعري، لأنشده هذا الناقد البصير:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وابن الرومى، لعرف الفرق ما بين العجميِّ في الفصاحة والعربي، أو سمع فصاحتَه كل بليغ، لأقرَّ أنَّه فنٍّ من اللسان محروم، ونادى في ظُلمة الغي: انظرونا نقتبس مِنْ نُور فصاحتكم يا بني مخزوم، فنزول الغيث قد أخجل النِّيل، والفاقد صبره للعجز عن مجاراته ينادي: كيف السبيل، ولا ريب عندَ صاحب الذَّوق أنَّ نقص خليل زاد، وأن هذا السيد هذب به من كلام الصلاح فساد، فلو صدر الصفديُّ إلى الدنيا بعد موته، لما وُجد منه إنكار وَرد، ولو رام أن يهادى هذا المولى لهدايته له إلى الصواب ببلده، لقال له: ما لنا حاجة منك بصفد.
على أنَّ هذا الصفدي كان كثيرًا ما يقدم على العلوم -كالنحو- من غير مبتدأ معرفة، ويستغني بتعديله وتجريحه، وتمريضه (2) وتصحيحه، فلا يثرى من صفة منصفة، ويرى أنَّه البصير بهذا، وهو في العمى ضائع العُكَّاز، لا زال مولانا جائدًا للطلبة بنقده آمنًا من السرار (3)، فلا يذوق (4) مرارة فقده، ولا برح بأنوائه وأنواره يُخجل الشمس والغيام، ودام سالمًا مِنَ النَّقص، فلا يخلو نعتُه -وهو البدر- مِنْ معنى الكمال والتمام، إن شاء اللَّه تعالى.
(1) في (ب، ط): "وتأليفه".
(2)
في (ب): "ورد تمريضه".
(3)
في (ط): "الأشرار".
(4)
في (أ): تدوم.