الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
[القول في بعض أحاديث سنن أبي داود]
وسألتم رضي اللَّه عنكم عن أحاديث في "سنن أبي داود" ظاهرُها الصِّحَّة إلى الغاية، ولم يخرجها الشَّيخان وليس شيء يُغني عنها، ولا يركن القلب إلى أن يكون تركُها لأجل الطُّول.
وأقول في الجواب عن ذلك: إنه لا يلزَمُ مِنَ الحديث إذا كان ظاهره الصِّحَّة أن يكون في أعلى درجات الصَّحيح التي قد عُرِفَ بالاستقراء أنَّ محطَّ قَصدِ الشَّيخين تخريجُ مثل ذلك، وأنَّه إن وقع عندهما أو عندَ أحدهما ما ظاهرُه يخالفُ ذلك، فلكلٍّ منهما في كلٍّ مِنْ ذلك عذرٌ يتعسَّر أن يُجاب عنه بقاعدةٍ كلِّيَّةٍ، بل يُجاب عَنْ كل حديث طردًا وعكسًا بما يليقُ به، وسيظهر بعض ذلك عند الجواب عن الأحاديث التي ذُكرت هنا مثالًا، وهي ثلاثة:
الحديث الأول مما ذكرتم: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه كان إذا أراد مِنَ الحائض شيئًا، ألقى على فرجها ثوبًا.
فأقول: هذا الإسناد ظاهره الصِّحَّة كما قلتم، لكنه ليس على شرط البخاري، مِنْ أجلِ حمّاد، وهو ابن سَلَمَةَ، وليس هو ابن زيد (1)، لأنَّ موسى بنَ إسماعيل إذا روى عَنْ حمَّادٍ ولم ينسُبه، فهو ابنُ سلمة، وإذا روى عن حماد بنِ زيدٍ، فإنَّه ينسُبُه كما قدَّره ابن الصَّلاح ثم المِزِّيُّ ومنْ تبِعَهُما. وحمَّادُ بنُ سلمة لم يخرِّج له البخاريُّ في الأصول، وإن أخرج له قليلًا في المتابعات، بل ومسلمٌ، وإن كان أكثرَ عنه، لكنَّه لا يخرِّجُ له في الأصول إلَّا عَنْ نفر قليل ممَّن كان اشتُهِرَ بإتقان حديثهم، مثل ثابت البناني، وإذا أخرج له عن غيرهم، فإنَّما يُخرجُ له في المتابعات، ومن ثم يظهر (2)
(1) في (ب): "يزيد"، تحريف.
(2)
ساقطة مِنْ (أ).
أنه ليس على شرط مسلم أيضًا، لأنه عن أيوب، ومن أجل عكرمة، فإن مسلمًا لم يخرج له في الأصول شيئًا، بل ولا في المتابعات إلا يسيرًا.
ثم مع ذلك فلعلَّهما استغنيا عنه بحديث عائشة أيضًا: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتأتَزِرُ بإزار، ثم يباشرُها. فإنَّ هذا الحديث يشتمِلُ على ما دلَّ عليه حديثُ عِكْرِمَةَ، ويزيدُ عليه، واللَّه أعلم.
الحديث الثاني: قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نَجْدَةَ، حدثنا بقيَّة وشعيبُ بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن محمد بن الوليد الزَّبيدي، عن سعيدٍ المقبُرى، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا صلَّى أحدُكم فخلع نعليه، فلا يؤذِ بهما أحدًا، وليجعلهما بين رجليه أو ليصلِّ فيهما".
فأقول: ليس هذا الحديثُ على شرط الشيخين ولا أحدهما، وإن كانا أخرجا لرجاله بصورة الانفراد فلا يكونُ على شرطهما إلا إن كانا خرَّجا لهم بصورة الاجتماع.
وهذا كالحديث الذي أخرجه أبو داود مِنْ رواية همَّام عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنسٍ في نزع الخاتم عند دخول الخلاء، فإن أبا داود قال بعد أن أخرجه: هذا حديث منكرٌ. وأخرجه النسائي، فقال: هذا حديث غيرُ محفوظٍ. كذا قالا، مع أنَّ الشيخين قد أخرجا لرواته، لكن بصورة الانفراد، إلا أن رواية همَّام عن ابن جريج ليست مِنْ شرطهما، لأن همَّامًا سمع مِنَ ابنِ جُريج بالبصرة، وابن جُريج حدَّث بالبصرة بأحاديث وهم فيها.
وجزم الدارقطنيُّ وجماعةٌ بأنه وهِمَ في هذا إسنادًا ومتنًا، وأنَّ الحديث إنَّما هو حديثُه عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا.
ومن ذلك أنَّهما أخرجا لسفيان بن حسين والزهري بطريق الانفراد، ولم يخرِّجا مِنْ رواية سُفيان بن حسين عن الزهري شيئًا؛ لأن سماعه منه ليس بمتقن.
وأخرج أبو داود والتِّرمذي والنسائي مِنْ رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس في القول إذا خرج مِنْ بيته، ورجالُه رجالُ الصَّحيح، قدِ اتَّفقا على التَّخريج لجميعهم، ومع ذلك فهو معلولٌ. قال البخاري: لا أعرف لابن جُريج سماعًا مِنْ إسحاق، وقال الدارقطنيُّ: رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد، وهو أثبتُ النَّاس في ابن جُريج، فقال: عنِ ابنِ جُريج حديث عن إسحاق.
وإذا تقرَّر ذلك، ففي الحديث علَّة مع ذلك اقتضت -مع ما تقدَّم- أن لا يخرِّجاه، وذلك أنَّه اختُلِفَ فيه على المقبُري، ثمَّ على الأوزاعي. قال الدارقطني في "العلل": رواه عياض بن عبد اللَّه، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، لم يقُل فيه: عن أبيه.
ورواه جماعة عن الأوزاعي، عن سعيد المقبُري لم يذكروا الزّبيدي، ولعل الشَّيخين استغنيا عنه بحديث سعيد بن يزيد أبي (1) مسلمة، عن أنس رضي الله عنه، قال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه. واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
الحديث الثالث: قال أبو داود: حدَّثنا مسدَّد، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بِشْر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حرام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تَبعْ ما ليس عندك".
فأقول: لم يخرجا ولا أحدهما مِنْ رواية يوسف بن ماهك عن حكيمٍ شيئًا، ومع ذلك فقد رواه يحيى بن أبي كثير عن يعلى بن حكيم، عن يوسف بن ماهك، فأدخل بينه وبين حكيم رجلًا، وهو عبد اللَّه بن عِصْمَة، ذكر ذلك المزِّيُّ في "الأطراف"، وليس عبدُ اللَّه بن عصمة مِنْ رجالِ الشَّيخين ولا أحدهما.
وقد أخرج الإمام أحمد مِنْ طريق يحيى بن أبي كثير، عن رجل، عن يوسف بن ماهك، عن عبد اللَّه بن عصمة، عن حكيم بن حزامٍ، حديثًا
(1) في (أ): "مِنْ"، خطأ.