الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور:
على عيني بعاد الحلو ساعه
…
ولكن للقضا سمعا وطاعه
لأن الروح في الدنيا وداعه
…
عدمت الوصل آه يا قلبي علي
دور:
زمان الأنس راح عني وودع
…
وصرت اليوم من ولهي مولع
وبعد الهجر هو الصبر ينفع
…
عدمت الوصل آه يا قلبي علي
هذا ما بلغني من ترجمة "ألمس" ولم أجد من يطلعني على شيء من نوادرها وملحها الكثيرة.
حرف الباء الموحدة
باقو الملقبة بالطاهرة زوجة السلطان مراد الثالث
هي امرأة من البندقية كانت ذات فكر ثاقب وجمال بارع أسرها لصوص البحر سنة 1580 م وهي سائرة مع أبيها من البندقية على "كورفو" فسقيت إلى القسطنطينية وصارت فيها من جواري السلطان مراد الثالث ثم تزوجها وجعلها سلطانة وأخذ حبها بمجامع قلبه كلمتها وكانت لها سطوة عجيبة في أيام ابنها السلطان محمد الثالث فكان يستشيرها في مصالح السلطنة غير أن حفيدها السلطان أحمد تغير عليها سنة 1603 للميلاد ووضعها في السرابة القديمة إلى أن ماتت.
بثينة حبيبة جميل بن معمر العذري
هي بثينة بنت حبا بن ثعلبة بن لهوذ بن عمر بن الأصب بن حر بن ربيعة، كذلك نسبها صاحب الأغاني وهي من بني عذرة هام بها وذكرها في شعره جميل بن عبد الله بن معمر فعرف بها حتى إنه لا يعرف إلا بجميل بثينة. تزوجها رجل يقال له: نبيه بن الأسود وبقي جميل يتردد عليها بلا ريبة وكانت بثينة من أحسن النساء وأكملهن أدبا وظرفا وأطيبهن حديثا ولها مع جميل نوادر وأشعار ومغازلات كثيرة كلها مستورة بالعفة والأدب فمنها أن سبب ما علق بها جميل أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له: بغيض فاضطجع وأرسل إبله ترعى وأهل بثينة يومئذ في جانب الوادي فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء، فمرتا على فصال له بروك فنفرتهن بثينة (أي انتهرتهن) فقال: قد نفرتهن وكانت إذ ذاك جويرية صغيرة فسبها جميل، فبادلته السب وشتمته هي أيضا فاستحسن سبابها وهام بها من ذاك الحين، وفي ذلك يقول:
وأول ما قاد المودة بيننا
…
بوادي بغيض يا بثين سباب
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله
…
لكل كلام يا بثين جواب
وخرجت بثينة في يوم عيد وكانت النساء إذ ذاك يتزين ويجتمعن ويدنو بعضهن لبعض ويبدون للرجال في كل عيد فجاء جميل فوقف على بثينة وأختها أم الحسين في نساء من نبي الأحب فرأى منهن منظرا لطيفا فقعد معهن ثم انصرف وكان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول:
عجل الفراق وليته لم يعجل
…
وجرت بوادر دمعك المتهلل
طربا وشاقك ما لقيت ولم تخف
…
بين الحبيب غداة برقة محول
وعرفت أنك حين رحت ولم يكن
…
بعد اليقين وليس ذاك بمشكل
لن تستطيع إلى بثينة رجعة
…
بعد التفرق دون عام مقبل
ولما سمعت بثينة أن جميلا شب بها حلفت بالله أن لا يأتيها على خلوة إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث معها ومع أخواتها حتى نمى إلى رجالها أنه يتحدث إليها، وكانوا أصلافا (أي غيارى)، فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف ب بثينة وأم الحسين وهما تحدثانه وهو ينشدهما قوله:
حلفت برب الراقصات إلى منى
…
هوي القطا تجتزن بطن دفين
لقد ظن هذا القلب أن ليس لا قيا
…
سليمى ولا أم الحسين لحين
فليت رجالا فيك قد ندروا دمي
…
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
فبينما هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فأطلق عنان الناقة، فخرجت من بينهم كالسهم ووعدت جميلا يوما أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها، وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم، فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا ب بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده، فلما أسفر الصبح انصرف كئيبا سيئ الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بوصلها فقال في ذلك:
فلرب عارضة علينا وصلها
…
بالجد تخلطه بقول الهازل
فاجبتها في القول بعد تستر
…
حبي ب بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في صدري كقدر قلامة
…
فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
ويقلن إنك قد رضيت بباطل
…
منها لك في اجتناب الباطل
ولباطل ممن أحب حديثه
…
أشهى إلي من البغيض الباذل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني
…
وإذا هويت فما هواي بزائل
أبثين إنك قد ملكت فاسحجي
…
وخذي بحظك من كريم واصل
وفي وعدها بالتلاقي وتأخرها يقول أيضا قصيدته الرائبة التي أولها:
يا صاح عن بعض الملامة أقصر
…
إن المنى للقاء أم المسور
ومنها:
وكأن طارقها على علل الكرى
…
والنجم وهنا قد دنا لتغور
يستاف ريح مدامة معجونة
…
بذكي مسك أو سحيق العنبر
ومنها:
إني لأحفظ غيبكم ويسرني
…
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا
…
أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة
…
إن كان يوم لقائكم لم يقدر
أو أستطيع تجلدا عن ذكركم
…
فيفيق بعض صبابتي وتفكري
لو قد تجن كما أجن من الهوى
…
لعذرت أو لظلمت إن لم تعذري
والله ما للقلب من علم بها
…
غير الظنون وغير قول المخبر
لا تحسبي أني هجرتك طائعا
…
حدث لعمرك رائع أن تهجري
فلتبكني الباكيات وإن أبح
…
يوما بسرك معلنا لم أعذر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
…
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
…
نظر الفقير على الغني المكثر
يعد الديون وليس ينجز موعدا
…
هذا الغريم لنا وليس بمعسر
ما أنت والوعد الذي تعدينني
…
إلا كبرق سحابة لم يمطر
قلبي نصحت له فرد نصيحتي
…
فمتى هجرتيه فمنه تكثري
والتفت بجميل بعد طول تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا ثم قالت له: ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت القائل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى
…
وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فأطرق طويلا وهو يبكي وينتحب ثم رفع رأسه وقال: بل أنا القائل:
ألا ليتني أعمى أصم تقودني
…
بثينة لا يخفى علي كلامها
فقالت: ويحك، ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا؟ وسعت جارية من جواري بثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين سيفهما، فرأياه جالسا إليها يحدثها ويشكو إليها وجده بها وشوقه لها، ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي لك وشغفي بك ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه، ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي بعدها أبدا فضحك من كلامها وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي أو هجرتك إن استطعت على الأبد أو ما سمعت قولي:
إني لأرضى من بثينة بالذي
…
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
…
وبالأمل المرجو قد خاب أمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
…
أواخره لا نلتقي وأوئله
فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما. وقال جميل يوما لأحد أترابه: هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة، فمضى معه حتى كمن له في الوادي وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه غليه فمضى به غليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما جن الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته وهي باركة قالت له بثينة ادن مني يا جميل فدنا منها وقال:
إن المنازل هيجت أطرابي
…
واستعجمت آياتها بجوابي
فترى تلوح بذي اللجين كأنها
…
أنضاء رسم أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت
…
مني الدموع لفرقة الأحباب
وذكرت عصرا يا بثينة شاقني
…
وذكرت أيامي وشرخ شبابي
وقال كثير: لقيني جميل مرة فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من عند ابي الحبيبة -أعني بثينة- فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة -أعني عزة- فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة. فقال: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع. فقال: لا بد من ذلك. فقلت: فمتى عهدك بها؟ قال: في أول العيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به تسترا، وعرفتني الجارية فأخبرتها، فتركت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد فقالت: أهلي سائرون. وما وجدت أحدا غيرك يا كثير حتى أرسله غليها فقال له كثير: فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها.
قال: ذلك الصواب: فأرسله إليها فذهب، وقال: انتظرني حتى أعود، ثم سار حتى أناخ بهم فقال له أبوها:
ما ردك يا كثير؟ قال: ثلاثة أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هاتها. قال كثير: فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي
…
إليك رسولا والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا
…
وأن تأمريني بالذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني
…
بأسفل وادي الروم والثوب يغسل
فضربت بثينة صدرها وقالت: اخسأ اخسأ، فقال أبوها: مهم يا بثينة؟ قال: كلب يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية، ثم التفتت إلىالجارية وقالت: أبغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونسويها له. فقال كثير: أنا أعجل من ذلك وخرج وراح إلى جميل فأخبره. فقال له جميل: الموعد الدومات بعد أن تنام الناس. وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين، وليلى ونجيا بنات خالتها: إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جملا معه وكانت قد أنست إليهن واطمأنت بهن وكاشفتهن بأسرارها فخرجن معها، وكان جميل وكثير خرجا حتى أتيا الدومات (اسم محل) وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح فكان كثير يقول: ما رأيت عمري مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ولم أدر أيهما كان أفهم. ولما ندر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد الليل كثيب رمل ويتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني
…
أهمي وإنني بادي النحول
هبي لي نسمة من ريح بثن
…
ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي
…
قليلك أو أقل من القليل
فإذا ظهر الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن، إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران فيقلن لها: اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له، واجتمع كثير بجميل وما فقال له: يا جميل، أترى بثينة لم تسمع بقولك:
يقيك جميل كل سء أماله
…
لديك حديث أو إليك رسول
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي
…
محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي
…
هبوب الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة
…
ولا زال عنها والخيال يزول
فقال جميل أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
يقول العدا ياعز قد حال دونكم
…
شجاع على ظهر الطريق مصمم
فقلت لها والله لو كان دونكم
…
جهنم ما راعت فؤادي جهنم
وكيف يروع القلب يا عز رائع
…
ووجهك في الظلماء للسفر معلم
وما ظلمتك النفس ياعز في الهوى
…
فلا تنقمي حبي فما فيه منقم
قال: فبكيا ليلتهما إلى أن بزغ الصباح، ثم انصرفا وخرج جيمل لزيارة بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أنه لبثينة، أو راعية ليتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأمة حبشية معها قربة واردة على الغدير لتملأها، فكانت عارفة به، ولما تبينها وتبينته سلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق، ويحملها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه وسألها أن تدفعه لها وأخذ عليها موعدا ترجع إليه فيه، ومكث ينتظر رجوعها وذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها
أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها فالتوت عليهم ولم تخبرهم من شيء مما حصل لها مع جميل، فتعللت عليهم فضربوها ضربا مبرحا، ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، وصدف أنه مر بها في تلك الحالة فتيان من بني عذرة فسمعا القصة جميعها وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر فقالا للقوم إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه وكان أهل بثينة أعز بني عذرة فدعوا الأمة وأعطوها الخاتم وأمروها أن توصله إلى بثينة وحذروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلا وقالا تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب، ثم تبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما.
فقال: أما الآن فابعثا إليها من ينذرها فأتياه براعية لهما وقالا له: قل بحاجتك فقال: ادخلي إليها وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها ففهمتها تماما فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدها فلم تبرح من مكانها ومضوا يقتفون أثره فوجدوا ناقته فعرفوا أنه د فاتها وفي ذلك يقول جميل:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما
…
على عذبة الأنياب طيبة النشر
ألما بها ثم اشفعا لي وسلما
…
عليها سقاها الله من سائغ القطر
وقال:
ابي القلب إلا حب بثنة لم يرد
…
سواها وحب القلب بثنة لا يجدي
إذا ما دنت زدت اشتياقا وإن نأت
…
جزعت لنأي الدار منها وللبعد
سلي الركب هل عجنا لمغناك مرة
…
صدرو المطايا وهي موقرة تخدي
وهل فاضت العين لاشروق بمائها من أجلك حتى أخضل من دمعها بردي
وإني لأستجري لك الطير جاهدا
…
لتجري بيمن من لقائك من سعدي
وإني لأستبكي إذا الركب غردوا
…
بذكراك أن يحيا بك الركب إذا تحدي
فهل تجزيني أم عمرو بودها
…
فإن الذي أخفى بها فوق ما أبدي
وكل محب لم يزد فوق جهده
…
وقد زدتها في الحب مني على الجهد
ولما ضاقت برهط بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها: أم منظور فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتمنوني عليها فقال: أما والله لا أضرنك فقالت: المضرة والله في أن أريكها فخرج من عندها وهو يقول:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
…
بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا استلابها خرسا جبابرها
…
إلي من ساقط الأوراق مستور
قال فما كان غلا قليل حتى انتهى إلهم هذان البيتان فتعلقوا بأم منظور فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها وعاقبوها على ذلك هكذا رواه صاحب الأغاني عن الأغاني عن الزبير بن بكار.
وفي رواية أخرى أن رجلا أنشد مصعب بن الزبير البيت الأول من البيتين المذكورين فقال مصعب: لوددت أني عرفت كيف جلتها فقيل له: إن أم منظور هذه حية فكتب في حملها غليه مكرمة فحملت إليه فقال لها: أخبريني عن قول جميل.
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
…
بالحجر يوم جلتها أم منظور
كيف كانت هذه الجلوة؟ قالت: ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح في وسطها تفاحة وضفرت شعرها، وجعلت في فرقها شيئا من الجلوة ومر بنا جميل راكبا على ناقته فجعل ينظر غليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا
فقال لها مصعب: فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة ففعلت، وركب مصعب ناقته وجعل ينظر على عائشة بمؤخر عينه مثل ما فعل جميل ويسير حتى غاب عنهما ثم رجع. وجاء جميل إلى بثينة ليلة وقد تزيا بزي راع لبعض الحي، فوجد عندها ضيفان لها فانتبذ ناحية وجلس فيها فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين مكاتب فعشت ضيفانها وعشته وحده ثم جلست هي وجارية لها تجاه النار تصطليان واضطجع القوم منتحين فقال جميل:
هل البائس المقرور دان فمصطل
…
من النار أو معطى لحافا فلابس
فقالت لجاريتها: صوت جميل والله اذهبي فانظري فذهبت ثم رجعت وقالت: هو والله جميل فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون، وقالو: ما لك فطرحت بردا لها من حبرة في النار وقالت: احترق بردي، فرجع القوم وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به فحبسته عندها ثلاث ليال ثم ودعها وخرج.
ورصدها ليلة في نجع لبني عذرة حتى إذا صادف منها فرصة وهي مارة مع أترابها في ليلة ظلماء ذات رعود وأمطار فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت: والله ما حذفني في مثل هذا الوقت إلا الجن فقالت لها بثينة -وقد فطنت-: انصرفي على منزلك حتى نذهب إلى النوم، فانصرفت وبقي مع بثينة أم الحسين وأم منظور فقامت إلى جميل فأخذته إلى الخباء معها وتحدثا طويلا ثم اضطجع واضطجعت إلى جانبه فذهب بهما النوم حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها زوجها (يظهر من تواريخ العرب أنهم كانوا على الطريقة التي اتخذها الإفرنج في وقتنا هذا بأن الزوج لا يرقد وزوجته في محل واحد بل كل منهما في محل) فلما رآها نائمة مع جميل مضى لوجهه حتى يخبر سيده فرأته ليلى والصبوح معه وكانت قد عرفت خبر بثينة وجميل فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارتها لها وقالت: حذري بثينة وجميلا، فجاءت الجارية فنبهتهما، فلما تبنيت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين أرتاعت وقالت: يا جميل نفسك نفسك فقد جاءني غلام زوجي بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين فقال لها وهو غير مكترث لما خوفته منه:
لعمرك ما خوفتني من مخافة
…
بثين ولا حذرتني موضع الحذر
فأقسم لا يلفي لي اليوم غرة
…
وفي الكف مني صارم قاطع ذكر
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت: إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك، ففعل ما أمرته به ونامت كما كانت، وأضجعت أم الحسين إلى جانبها، وذهبت خادمة ليلى وأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيده فمضى والصبوح معه وقال: إني رأيت جميلا مع بثينة في فراش واحد مضطجعا إلى جانبها فمضى إلى أخيها وأبيها وأخبرهم الخبر وأخذهما وأتى بهما إلى خباء بثينة وهي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الحسين إلى جانبها نائمة، فخجل زوجها وسب عبده وقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح قبحه الله، وقبحكما معه. وجعلا يسبان زوجها ويقولان له كل قول قبيح وأقام جميل عند بثينة حتى جن الليل ثم ودعها وانصرف وخافت بثينة مما جرى فتحامت منه مدة فقال في ذلك:
أإن هتفت ورقاء ظلت سفاهة
…
تبكي على جمل لورقاء تهتف
فلو كان لي بطرم يا صاح طاقة
…
صرمت ولكني عن الصرم أضعف
لها في سواد القلب بالحب منعة
…
هي الموت أو كادت على الموت تشرف
وما ذكرتك النفس يا بثن مرة
…
من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وإلا اعترتني زفرة واستكانة
…
وجادلها سجل من الدمع يذرف
وما استطرفت نفسي حديثا لخلة
…
أسر به إلا حديثك أطرف
وهي قصيدة طويلة منها قوله:
ولست بناس أهلها حين أقبلوا
…
وجالوا علينا بالسيوف وطوفوا
وقالوا جميل بات في الحي عندها
…
وقد جردوا أسيافهم ثم وقفوا
ولما اشتهرت بثينة بحب جميل إياها اعترضه عبيد الله بن قطنة بني الأحب وهو من رهطها الأقربين فهجاه وبلغ ذلك جميلا فأجابه وتطاولا فغلبه جميل وكف عنه ابن قطنة واعترضه عمير بن رمل رجل من بني الأحب أيضا وإياه عنى جميل بقوله:
إذا الناس هابوا خزية ذهبت بها
…
أحب المخازي كهلها ووليدها
لعمر عجوز طرقت بك إنني
…
عمير بن رمل لابن حرب أقودها
بنفسي فلا تقطع فؤادك ضلة
…
كذلك حزني وعثها وصعودها
قال: فاستعدوا عليه عامر بن ربعي وكان الحاكم على بلاده عذرة وقالوا: يهجونا ويغشى بيوتنا وينسب بنسائنا فأباحهم دمه وطلب فهرب، وغضبت عليه بثينة لهجائه أهلها جميعا فقال جميل:
وما صائب من نائل قذفت به
…
يد وممر العقدتين وثيق
له من خوافي النسر جم تطاير
…
ونصل كنصل الزاعبي فتيق
على نبعة زوراء أما خطامها
…
فمثن وأما عودها فعتيق
بأوشك قتلا منك يوم رميتني
…
نوافذ لم تظهر لهن خروق
تفرق أهلانا بثين فمنهم
…
فريق أقاموا واستمر فريق
فلو كنت خوارا لقد باح مضمري
…
ولكنني صلب القناة عريق
كان لم يحارب يا بثين لو أنه
…
تكشف غماها وأنت صديق
وبعد ذلك بمدة وقع الصلح بينه وبينها وأخذ منها موعدا للقائه فوجدوه عندها فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا قتله خوفا من أن ينشب بينهم وبين قومه حرب بدمه وكان قومه أشد بأسا من قوم بثينة فأعادوا شكواه إلى السلطان فطلبه طلبا شديدا فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة. ومن شعره وهو في اليمن:
ألو خيال من بثينة طارق
…
على النأي مشتاق إلي وشائق
سرت من تلاع الحجر حتى تخلصت إلي ودوني الأشعرون وعافق
كأن فتيت المسك خالط نشرها
…
تقل به أردافها والمرافق
تقوم إذا قامت به عن فراشها
…
ويغدو به من حضنها من تعانق
ولم يزل في اليمن على أن عزل ذلك الوالي وانتقل أهل بثينة إلى ناحية الشام فرجع إليهم فشكا أكابر الحي إلى أبيه وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله فناشدوه الله والرحم وسألوه كف ابنه عن فتاتهم وعن تشببه بها وما يفضحهم به بين الناس فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا فدعا به وقال له: يا بني حتى متى أنت أعمى في ضلالك ألا تأنف من أن تتعلق في ذات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزل تغرك بأقوالها وخداعها، وتريك الصفاء والمودة، وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها فيكون قولها لك تعليلا وغرورا فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة إن هذا لذل وضيم وما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك فأنشدك الله ألا كففت وتأملت في أمرك فإنك تعلم أن ما قلته حق ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له وفي النساء عوض؟ ! فقال له جميل: الرأي ما رأيت والقول كما قلت، ولكن هل رأيت قبلي أحد قدر أن يدفع هواه عن قلبه أو ملك أن يسلي نفسه أو استطاع أن يدفع ما قضى عليه والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت
ولا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه، وقام وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعا لما رأوا منه حب بثينة ثم أنشد:
ألا من لقلب لا يمل فيذهل
…
أفق فالتعزي عن بثينة أجمل
سلا كل ذي ود علمت مكانه
…
وأنت بها حتى الممات موكل
فما هكذا أحببت من كان قبلها
…
ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها
…
وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتجهمت
…
ولليأس إن لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلا قبل بينها
…
وأبخل بها مسؤولة حين تسأل
وكيف ترجى وصلها بعد وقد جد حبل الوصل ممن تؤمل
وإن التي أحببت قد حيل دونها
…
فكن حازما والحازم المتحول
ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلة
…
وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل
بدا كلف مني بها فتثاقلت
…
وما لا يرى من غائب الوجد أفضل
هبيني برئيا نلته بظلامة
…
عفاها لكم أو مذنبا يتنصل
فتاة من المران ما فوق حقوها
…
وما تحته منها نقا يتهيل
والتقى جميل بعمر بن أبي ربيعة فقال له: يا جميل، قم بنا نذهب على زيارة بثينة. قال: قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها وهاتيك أبياتها فاذهب غليها، فأتاها عمر حتى وقف على أبياتها فقال: يا جارية، أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني فأعلمتها فخرجت إليه في مباذلها وقالت: والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك، فانكسر عمر وقال لها قول جميل:
وهما قالتا لو أن جميلا
…
عرض اليوم نظرة فرآنا
بينما ذاك منهما وأتاني
…
أعمل النص سيرة زفيانا
نظرت نحو تربها ثم قالت
…
قد أتانا وما علمنا منانا
فقال إنه استملى منك فما أفلح، وقد اربط الحمار مع الفرس فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه فخجل من قولها وانصرف.
ولما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام هجم ليلا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف؟ فقال لها: هذا وجهي إلى الشام وإنما جئتك مودعا فحادثها طويلا ثم ودعها وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكى بكاء طويلا وبكت، ثم قال وهو يبكي:
ألا لا أبالي جفوة الناس ما بدا
…
لنا منك رأي يا بثين جميل
وما لم تطيعي كاشحا أو تبدلي
…
بنا بدلا أو كان منك ذهول
وإني وتكراري الزيارة نحوكم
…
بثين بذي هجر بثين يطول
وإن صبابتي بكم لكثيرة
…
بثين ونسيانيكم لقليل
وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها، ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه فسار غليها وحدثها وبث غليها أشواقه وأخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما فوثب جميل، وانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة الله ألا انصرف وقالت له: إن أقمت فضحتني
ولعل الحي أن يلحقوا بك. فأبى وقال: أنا مقيم، وامض أنت وليصنعوا بي ما أحبوا فلم تزل تنشده حتى انصرف وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة وفي ذلك يقول:
ألم تسأل الربع الخلاء فينطق
…
وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
وقفت بها حتى تجلت عمايتي
…
ومل الوقوف إلا رحبي المنوق
تعزو إن كانت عليك كريمة
…
لعلك من رق لبثينة تعتق
لعمركم إن البعاد لشائقي
…
وبعض بعاد البين والنأي أشوق
لعلك محزون ومبد صبابة
…
ومظهر شكوى من أناس تفرقوا
وبيض غريرات تثني خصورها
…
إذا قمن أعجاز ثقال وأسوق
عزائز لم يلقين بؤس معيشة
…
يجن بهن الناظر المتنوق
وغلغلت من وجد إليهن بعدما
…
سريت وأحشائي من الخوف تخفق
معي صارم قد أخلص القين صقله
…
له حين أغشيه الضريبة رونق
فلولا احتيالي ضقن ذراعا بزائر
…
به من صبابات إليهن أولق
تسوق بقضبان الأراك مفلجا
…
يشعشع فيه القارسي المروق
أبثينة للوصل الذي كان بيننا
…
نضا مثل ما ينضو الخضاب فيخلف
أبثينة ما تنأين إلا كأنني
…
بنجم الثريا ما نأيت معلق
وأقام مرة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعد فشكا غليهما ما به وأنشدهما قوله:
زورا بثينة فالحبيب مزور
…
إن الزيارة للمحب يسير
إن الترحل أن تلبس أمرنا
…
وإعتاقنا قدر أحم بكور
إني عشية رحت وهي حزينة
…
تشكو إلي صبابة لصبور
غراء مبسام كأن حديثها
…
در تحدر نظمه منثور
مخطوطة المتنين مضمرة الحشا
…
ريا الروادف خلفها ممكور
لا حسنها حسن ولا كدلالها
…
دل ولا كوقارها توقير
إن اللسان بذكرها لموكل
…
والقلب صاد والخواطر صور
ولئن جزيت الود مني مثله
…
إني بذلك يا بثين جدير
فقال له روق: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها وإنك منها بين فجور أرفعك عنه أو ذل لا أحبه لك، أو كمد يؤديك على التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعذرت لهم بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم وتصير نفسك عليها طائعة له أو كارهة ألفت ذلك وسلوت.
فبكى جميل وقال: يا أخي، لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا ولكني لا أملك لي اختيارا، ولا أنا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، وقد جئتك لأمر أسألك أن لا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم، وأن تحمل على نفسك في مساعدتي.
فقال له: فإن كنت لا بد مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا فإنها تخرج مع بنات عم لها على ملعب لهن فأجيء معك حينئذ سرا ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب نأوي عنده نهارا فأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده أياما نهارك وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك. فشكره ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه وسأله مساعدته فيه فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم ويحك إن في هذا معاداتي الحي جميعا إن
فطن به فقال: أنا أتحرز في أمره من أن يظهر فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره بالقصة فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده وأرسل على بثينة بوليدة له بخاتم جميل فدفعته إليها فلما رأته عرفت فتبعهتا وجاءته فتحدثا ليلتهما وأقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودعها وقال لها: عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك ولمني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه، وقد أقمت عنده ثلاثا ولا مزيد ذلك، ثم انصرف وقال في عذل روق له:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة
…
حبيب إليه في ملامته رشدي
وقال أفق حتى متى أنت هائم
…
ببثينة فيها قد تعيد وقد تبدي
فقلت له فيها قضى الله ما ترى
…
علي وهل فيما قضى الله من رد
فإن يك رشدا حبها أو غواية
…
فقد جئته ما كان مني على عمد
لقد لج ميثاق من الله بيننا
…
وليس لمن لم يوف لله من عهد
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها
…
ولا لي علم بالذي فعلت بعدي
وما زادها الواشون إلا كرامة
…
علي وما زالت مودتها عندي
أفي الناس أمثالي أحب فحالهم
…
كحالي أم أحببت من بينهم وحدي
وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما
…
لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي
قيل: وقع بين بثينة وجميل هجر في غيرة كان غار عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها، فكان جميل يتحدث إلى غيرها، فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل، وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه، فدخل يوما وقد غلب عليه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة، فلما رأته جاءت إلى البيت ولم تبرز له، فجزع لذلك وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ فأنشأ يقول:
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
…
وفي النفس حاجات غليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
…
لقيتك يوما أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
…
أظل إذ لم أسق ريقك صاديا
فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله. ثم اصطلحا فقالت له: أنشدني قولك:
تظل وراء الستر ترنو بلحظها
…
إذا مر من أترابها من يروقها
فأنشدها إياها فبكت وقالت: كلا يا جميل ومن ترى أنه يروقني غيرك.
وروى بعضهم عن عجوز من بني عذرة قالت: كنا على ماء لنا بالجناب وقد تجنبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثا فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون على جوار منهم فلم يبق غيري وغير بثينة إذا انحدر علينا منحدر من هضبة تلقانا فسلم ونحن مستوحشون وجلون فتأملته ورددت السلام فإذا جميل فقلت: أجميل؟ قال: أي والله، وإذا به لا يتماسك جوعا فقمت على قعب لنا فيه أقط مطحون وإلى عكة فيها سمن ورب، فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت: أصب من هذا فأصاب منه وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه، وتراجعت نفسه فقلت له لقد بلغت ولقيت شرا فما أمرك؟ قال: أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم، وأنا عامد إلى مصر فتحدثنا ساعة، ثم ودعنا وشخص فلم تطل غيبته أن جاء ناعيه.
روي عن رجل كان شاهد جميلا لما حضرته الوفاة بمصر قال: إنه دعاه فقال: هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك؟ قال: فقلت: اللهم نعم، قال: إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا، ثم كل شيء سواها لك، وارحل على رهط بني الأحب من عذرة - وهم رهط بثينة- فإذا