الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد أعطاه العرجي جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه، فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان وقال: لا أجد لهذه الأمة شيئاً أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع راتبها من ماله، فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها، ثم أرسل بها بعد زمان على بعير إلى مكة فأحلفها بين الركن والمقام إن العرجي كذب فيما قاله فحلفت سبعين يميناً فرضي عنها وردها فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي: طالما مسني من أهلها النعم قال: كذب والله ما مسه ذلك قط.
حرف اللام
لبنى بنت الحباب الكعبية
كانت أحسن نساء زمانها وجهاً وأرقهن شمائل، وأعذبهن منطقاً، وألطفهن إشارة. ذات فصاحة وأدب ومعرفة بأشعار العرب وهي صاحبة قيس بن ذريح العذري، رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب.
وكانت سبب علاقته بها أنه ذهب لبعض حاجاته فمر ببني كعب. وقد احتدم الحر، فاستقى الماء من خيمة منهم، فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة، عذبة الكلام، سهلة المنطق، فناولته إداوة ماء، فلما صدر قالت له: ألا تبرد الحر عندنا، وقد تمكنت من فؤاده. فقال: نعم، فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه وجاء أبوها، فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم ضياء اليوم
ثم انصرف وهو أشغف الناس بها فجعل يكتم ذلك ألى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه ومر بها ثانياً، فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها فوجد عندها أضعاف ذلك، فانصرف وقد علم كل واحد ما عند الآخر، فمضى إلى أبيه، فشكا إليه ذلك فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغم منه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بي أبي طالب وأخبره بالقضية، فرثى له والتزم أن يكفيه هذا الشأن فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب فقال: يا ابن رسول الله، لو أرسلت لكفيت بيد أن هذا من أبيه أليق كما هو عند العرب فشكره ومضى إلى أبي قيس حافياً على حر الرمل. فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين حتى زوج قيساً بلبنى وأدى الحسين المهر من عنده، ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال وفنون المحبة، ولكن لم تلد لبنى فساء ذلك أبويه فعرضا على قيس أنه يتزوج بمن تجيء بولد، وذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك وقال: لا أسوءها قط وقام يدافعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يكنه سقف إلا أن يطلق قيس لبنى فكان إذا اشتد الحر يجيؤه فيظله بردائه ويصلي هو بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل، فتهلك إلى أن قدر الله وطلقها.
فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وقد سأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا فسقط مغشياً عليه فلما أفاق أنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا
…
حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة
…
فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
…
بكفيك إلا أن ما حان حائن
فلما حملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندم وجعل يتلطف به، فلما أيس منه
استشار قومه في دائه، فاتفقت آراهم على أن يأمروه يتصفح أحياء العرب، فلعل أن تقع عينه من تسليه عن حب لبنى، ففعل حتى نزل بحي من فزارة، فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسناً فسألها عن اسمها فقالت لبنى: فسقط مغشياً عليه، فارتاعت.
وقالت: إن لم تكن قيساً فمجنون ونضحت على وجهه الماء، فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس لبنى، وكان أمرهما اشتهر في العرب وجاء أخوها فأخبرته فركب حتى استرده، وأقسم عليه أن يقيم عنده شهراً فقال له: لقد شققت علي، وأجاب. فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه المصاهرة حتى لامته العرب.
وقالوا: نخشى أن يصير فعلك هذا سنة في العرب. فقال: دعوني ففي مثل هذا فليرعب الكرام، وألح عليه وزوجه بأخته، فلما بلغ لبنى قالت: إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب. وكان أبوها قد اشتكى قيساً إلى معاوية وقال: إنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان يهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني، ففعل، وأجابت حين علمت بزواج قيس فجعل النساء يغنينها ليلة الزفاف.
لبنى زوجها
…
أصبح لا حر يوازيه
له فضل على الناس
…
وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً
…
صريع في بواكيه
فلا يبعده الله
…
وبعد النواعيه
ولما بلغ ذلك قيساً اشتد به الغرام فركب حتى أتى محل قومها فقالت له النساء: ما تصنع بهذا وقد رحلت مع زوجها؟ فلم يلتفت حتى أتى محل خبائها فتمرغ به وأنشد:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا
…
إلى الله فقد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه
…
نحيل وعهد الوالدين قديم
وحجت لبنى في تلك السنة فاتفق خروج قيس أيضاً فتلاقيا فهبت وأرسلت إليه مع امرأة تستخبر عن حاله وتسلم عليه فأعاد السلام والسؤال وأنشد:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي
…
فآية تسليمي عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت
…
وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبغلتها جارة قولي اسلمي
…
بكت جزعاً وارفض منها دموعها
وحين انقضى الحج مرض مرضاً شديداً فأنهكه فأكثر الناس من عيادته، فجعل يتفكر لبنى وعدم رؤيته لها فأنشد:
ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي
…
غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنينني نيلاً وتلوينني به
…
فنفسي شوقاً كل يوم تقطع
ألومك في شأني وأنت مليمة
…
لعمري وأجفى للمحب وأقطع
وأخبرت أني فيك مت بحسرة
…
فما فاض من عينيك للوجد مدمع
إذا أنت لم تبكي علي جنازة
…
لديك فلا تبكي غداً حين أرفع
فحين بلغتها الأبيات جزعت جزعاً شديداً وخرجت إليه خفية على ميعاد فاعتذرت عن الانقطاع، وأعلمته أنها إنما تترك زيارته خوفاً عليه أن يهلك وإلا فعندها ما عنده ولكنها جلدة وجاء قيس إلى المدينة بناقة من
إبله ليبيعها، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه.
ثم قال له: ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن فجاء وطرق الباب فأدخله وقد صنع له طعاماً وقام لبعض حاجاته فقالت لبنى لخادمتها" سليه ما بال وجهه متغيراً شاحباً فتنفس الصعداء.
ثم قال: هكذا حال من فارق الأحبة. فقالت: استخبريه عن قصته فاستخبرته فشرع يحكي أمره فرفعت الحجاب وقالت: حسبك قد عرفنا حالك فبهت حين عرفها ساعة لا ينطق بلفظ.
ثم خرج لوجهه فاعترضه الرجل وقال: مالك؟ عد لتقبض مالك، وإن شئت زدناك فلم يكلمه ومضى فدخل على لبنى فقالت له: ما هذا إنه لقيس! فحلف أنه لا يعرفه. وأنشد قيس معاتباً لنفسه:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
…
وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت
…
فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل
…
إذا فكرة منها على القلب تخطر
وقصد قيس معاوية فمدحه فرق له وكان قد أهدر دمه فقال له: إن شئت كتبت إلى زوجها بطلاقها فقال: لا، ولكن إئذن لي أن أقيم ببلدها ففعل فنزل حين زال هدر دمه بحيها، وتضافرت مدائحه فيها حتى غنى بها معبد والغريض وأضرابهما، وقد قصد قيس أبن أبي عتيق وكان أكثر أهل زمانه مروءة فجاء ابن أبي عتيق إلى الحسن والحسين وأعلمهما أن له حاجة عند زوج لبنى وطلب أن ينجداه عليه فمضيا معه حتى اجتمعوا به وكلموه في طلب ابي أبي عتيق وهم لم يعلموا الغرض قال: سلوا ما شئتم. فقال ابن أبي عتيق: أهلاً كان أو مالاً؟ قال: نعم. فقال: أريد أن تطلق لبنى ولك ما شئت عندي. فقال: أشهدكم أنها طالق. فاستحيوا منه وعوضه الحسن مائة ألف درهم وقال له: لو علمت الحاجة ما جئت، ونقلت إلى العدة وعاتبت لبنى قيساً على تزويجه الفزارية فحلف لها أن عينيه لم تكتحل برؤيتها ولم يكلمها لفظة واحدة، وأنه لو رآها لم يعرفها وأخبرته أنها كارهة زوجها وأعلمته أنها لم تتزوج به رغبة فيه بل شفقة على قيس حين أهدر دمه ليخلي عنها، وتوفيت لبنى في العدة سنة 33هـ وإن قيساً حين بلغه ذلك خرج حتى وقف على قبرها وأنشد:
ماتت لبينى فموتها موتي
…
هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب
…
قضى حياة وجداً على ميت
ثم بكى حتى أغمي عليه فحمل ومات بعد ثلاث ودفن إلى جانبها وله فيها أشعار كثيرة منها:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها
…
فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني
…
لفارقتها في حبها فقضيت
برت نبلها للصيد لبنى وريشت
…
وريشت أخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بنبلها
…
وأخطأتها بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني
…
قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت أني مت قبل فراقها
…
وهل ينفعن بعد التفرق ليت
فوطن لهلكي منك نفساً فإنني
…
كأنك بي قد يا ذريح قضيت
وقال أيضاً:
عيد قيس من حب لبنى ولبنى
…
داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوماً
…
قالت العين لا أرى من أريد