الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم أقل شيئا فخرج ابن مصعب فرأه في مسجد بالمدينة فقال له: يا أبا إسحاق أما تحب أن ترى "بصيص" جارية ابن نفيس؟ فقال: امرأتي طالق إن لم يكن الله ساخطا علي فيها، وإن لم أكن أسأله أن يرينيها منذ سنة فما يفعل.
فقال له: اليوم إذا صليت العصر فوافني ههنا. قال: امرأتي طالق إن برحت من هنا حتى تجيء صلاة العصر. قال: فانصرفت في حوائجي حتى العصر فدخلت المسجد فوجدته فيه فأخذته بيده وأتيتهم به فأكلوا وشربوا وتساكر القوم وتناوموا، فأقبلت "بصيص" على مزيد فقالت له: يا أبا إسحاق كأن نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة:
لقد حثا الجمال ليه
…
ربوا منا فلم ينلوا
فقال: امرأتي طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ. قال: فغنته، ثم سكتت ساعة وقالت: يا أبا إسحاق، كأن نفسك تشتهي أن تقوم فتجلس إلى جانبي وتقرصني قرصات وأغنيك:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به
…
قد كنت عندي تحب الستر فاستر
الست تبصر من حولي فقلت لها
…
غطي هواك وما ألقى على بصري
فقال: امرأتي طالق إن لمت كوني تعلمين ما في الأرحام وما تكسب الأنفس غدا وبأي أرض تموت، فغنته ثم قالت: برح الخفاء أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني وأغنيك هزجا:
أنا أبصرت بالليل
…
غلاما حسن الدل
كغصن البان قد أصب
…
ح مسقيا من الطل
فقال: ا، ت نبية مرسلة فقبلها وغنته، ثم قالت: يا أبا إسحاق أرأيت أسقط من هؤلاء يدعونك ويخرجونني إليك ولا يشترون ريحانا بدرهم؟ يا أبا إسحاق هلم درهما أشتري به ريحانا، فوثب وصاح: واحرباه، أي زانية أخطأت إستك الحفرة، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحى إليك، وغطغط القوم وعلموا أن حيلتها لم تنفذ فيه، ثم خرج ولم يعد إليهم وأعاد لاقوم مجلسهم فكان أكثر شغلهم في حديث مزيد، والضحك منه وبقيت "بصيص" في عز وإقبال مدة حياتها وهي تتفنن في ضروب الألحان حتى فاقت أهل زمانها.
بلقيس ملكة سبأ
المشهورة قصتها مع النبي سليمان بن داود ورد ذكرها في الكتب المنزلة واشتهرت في كتب التواريخ وضرب بها المثل في المجد والسلطان والجمال، وقد شرح العلماء تفاصيل سيرتها وسبب ورودها إلى سليمان بأقوال متباينة مرجعها إلى ما يأتي: قال المؤرخون في نسب بلقيس: إنها يلقمة بنت يشرع بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقيل: أبوها يشرح بن تبع ذي الأذعار بنتبع ذي المنار بن تبع الرائش، ويلقب "هاددأ" و"هداد". وقيل: اسمه الحارث بن سبأ. وقيل: الشيبصان. وقيل: شراحيل.
وقال كثير من الرواة إن أمها كانت جنية ابنة ملك الجن واسمها رواحة أو ريحانة بنت السكن. وقيل: يلقمة بنت عمرو بن عمير الجني، وسبب اتصال أبيها بالجن أنه كان ملكا عظيم الشأن آخر أربعين ملكا من ملوك اليمن وملك كل تلك الأقاليم ولم يكن في ملوك الأرض من هو كفؤ له فكان يقول لهم: ليس أحد منكم يدانيني. وأبى أن يتزوج من الإنسا لرفعه شأنه فكان يخرج إلى الصيد ويصطاد الجان بصورة الظباء فيخلي عنها فظهر له ملك الجن وشكره على صنيعهن فاغتنمها فرصة وخطب ابنته فأجابه.
وقيل: بل خرج مرة فوجد حيتين
سوداء وبيضاء تقتتلان، وقد ظفرت السوداء على البيضاء، فأمر بقتل السوداء وحمل البيضاء وصب علها ماء حتى أفاقت، فأطلقها وعاد إلى داره فجلس منفردا، وإذا بجانبه شاب جميل فذعر منه فقال له: لا تخف أنا الحية التي أنجبتها وإني مكافئك بالمال أو علم الطب.
فقال: أما المال فلا حاجة لي به وأما الطب: فقبيح بالملوك ولكني أختار إن كان لك ابنة أن أخطبها إليك فأجابه بشرط أن لا يغير عليها شيئا تعمله فإذا غير عليها فارقته وشرط أيضا أن تعطيه ساحل البحر ما بين يبرين إلى عدن فأذعن لذلك، ثم تزوج بالجنية فولدت له غلاما وألقته في النار فجزع لذلك، ولكنه سكت للشرط، ثم ولدت جارية فألقتها إلى كلبة فعظم عليه الأمر ولكنه صبر، ثم عصى عليه بعض أصحابه فجمع عسكره فسار ليقاتله وهي معه، فلما صاروا في مفازة رأى جميع مامعهم من الزاد يخلط بالتراب والماء ينصب من أفواه القرب فأيقن بالهلاك وعلم انه فعل الجن بأمر زوجه فضاق ذرعا عن حمل الجور فأتى وجلس أمامها وأومأ إلى الأرض وقال: يا أرض صبرت لك على إحراق ابني وإطعام ابنتي للكلب، ثم الآن قد فجعتنا بالزاد والماء حتى أشرفنا على الهلاك فقالت له: لو صبرت لكان خيرا لك فإن عدوك خدع وزيرك فجعل السم في الزاد والماء وتحقيق ذلك أنه يمتنع من شرب شيء من الماء الفاضل، فأمر وزيره بالشرب، فامتنع، فقتله، ثم دلته على نبع وميرة يمتارها ثم قال: وأما ابنك فقد سلمته إلى حاضنة تربيه وقد مات، وأما ابنتك فهي باقية وإذا بجويرية قد خرجت من الأرض وهي بلقيس وفارقته زوجته وسار إلى عدوه فظفر به وفوض إليها أبوها الملك فملكت بعده.
وقيل: بل مات بلا وصية. فاختلف النسا بعد موته، وافترقوا فرقتين: فرقة بايعتها، وفرقة بايعت ابن أخ أبيها. فساء السيرة في الرعية وكان فاحشا خبيثا فاسقا لا يبلغه عن بنت جميلة إلا أحضرها وهتكها، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا، فلما رأت بلقيس ذلك أخذتها الغيرة وقد طلب منها الحضور غليه فقال له: بل احضر أنت عندي واعدت له رجلين يقتلانه إذا دخل قصرها، فلما حضر قتلاه فأحضرت وزراءه ووبختهم وقالت: أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته، ثم أترهم إياه قتيلا وقالت: اختاروا رجلا تملكونه فقالوا لا نرضى بغيرك.
وقيل: بل هي عرضت نفسها عليه فقال: ما منعني إلا اليأس منك فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ففعل فسألوها فقالت: قد أجبت فلما زفت إليه سقته الخمر حتى سكر، فحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها، وأمرت أن تعلق رأسه على باب دارها، فلما رأى الناس ذلك علموا الحيلة فملكوها عليهم وقال قوم: إن أباها لم يكن ملكا بل وزير، وكان الملك قبيحا -يفعل ما تقدم ذكره- فقتلته بلقيس فملكوها عليهم فعظم شأنها وكثر جندها واتسع نطاق ملكها حتى قال بعضهم: إنه كان تحت يديها أربعمائة ملك، كل ملك منهم على كورة وله 40000 مقاتلا وكان لها 300 وزير يدبرون ملكها، وكان لها 12 قائدا يقود كل واحد 12 ألف مقاتل وبالغ بعضهم في ذلك.
وأما عرشها الوارد ذكره في القرآن الحكيم فقيل: كان سريرا ضخما من ذهب وفضة مرصعا بالجواهر النفيسة، وكان في جوف سبعة بيوت عليها سبعة أغلاق كل بيت داخل الآخر وهو في آخرها.
وقيل: كان مقدمه من الذهب منضدا بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ومؤخره من فضة مكللا بأنواع الجواهر واللالئ، وله أربع وقائم قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زبرجد أخضر، وقائمة من در أبيض، وصفائح السرير من ذهب، وقيل: أنفقت بلقيس على الكوة التي تدخل منها الشمس فتسجد لها ثلثمائة ألف أوقية من الذهب.
قال ابن الأثير: فد تواطأت
على الكذب والتلاعب بعقول الجهال حتى يصدقوا المحال لأن أوصاف عرشها، وعدد جيوشها من الأمور التي لا يمكن تصديقها.
وأما سبب مجيئها إلى سليمان وإسلامها على يده فروي أن سليمان رأي يوما رهجا قريبا منه ولم يكن يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فسأل عن ذلك الرهج فقالوا: هو عرش بلقيس. فقال: (يا أيها الملؤا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين)(النمل: 38-39) قال: أريد أسرع من ذلك فقال آصف ابن برخيا: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)(النمل: 40)، وقيل: إن أحد بني إسرائيل قال لسليمان: أنت أقرب النسا إلى الله فلو طلت غليه لأحضره بأسرع ما يكون فصلى سليمان وإذا بالأرض انشقت وظهر العرش يتلألأ. وقيل: إن سليمان في بعض مغازيه احتاج إلى الماء من تحت الأرض فطلب الهدهد فلم يره.
وقيل: بل أصابت الشمس سليمان فنظر ليرى من أين نفذت إليه لا، الطير كانت تظله فرأى موضع الهدهد فارغا فقال:(لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو لأتيني بسلطان مبين)(النمل: 21) .
وكان الهدهد قد مر على قصر بلقيس فرأى بستانا لها خلف القصر فمال إلى الخضرة فرأى هدهدا فقال له: أين أنت من سليمان؟ وما تصنع هنا؟ فقال له: ومن سليمان؟ فذكر له حاله. فقال: وأين أنت من هذه الدنيا الواسعة والحدائق الأنيقة، والقصور الشاهقة، والرياض البهجة؟ فقال: ولمن هذا كله؟ فقال: هو لبلقيس صاحبة العرش العظيم ووصف له عرشها فأتى الهدهد إلى سليمان وأخبره بخبره فكتب لها سليمان كتابا وقال له: (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم)(النمل: 28) . فوافاها وهي في قصرها فرمى الكتاب في حجرها فقرأته وأرسلت أع لمت قومها بذلك وإذا بالكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي أتوني مسلمين)(النمل: 30-31) فقال قومها: (نحن أولا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين)(النمل: 33)
قالت: إني مرسلة إليهم بهدية فإن قبلها فهو من ملوك الدنيا فنحن أعز منه وأقوى وإن لم يقبلها فهو نبي من الله وإني أمتحنه بها، ثم وجهت إليه الهدية وكانت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن وخمسمائة جارية على زي الغلمان كلهم على سروج الذهب والخيل الموسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالياقوت والمسك والعنبر وحقا فيه درة يتيمة، وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وأرسلتها مع أشراف رجالها المنذر بن عمرو وآخر ذي رأي عقل وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك غضبا فهو ملك فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئا لطيفا فهو نبي، فأعلم الله سليمان بذلك فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا مشرفة شرفة من ذهب وشرفة من فضة وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر أن يربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن فأقيموا على اليمين واليسار ثم قعد على كرسيه والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين والجن والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم منهم نظروا قرأوا الدواب تروث على الذهب فرموا بما معهم منها فلما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق، ثم قال:(أتمدونن بمال فما أتان الله خير مما أتاكم)(النمل: 36) ثم قال: أين الحق الذي فيه كذا وكذا فقدموه بين يديه، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء وقد جعل خيطا بفيها فمرت في ثقب الخرزة، ثم دعا بالماء وأمر الغلمان والجواري أن يغسلوا أيديهم ووجوههم فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله ف الأخرى وتضرب به وجهها والغلام كان يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية فرجع القوم وأخبروها بما شاهدوا فعلمت أنه نبي وأرادت الشخوص إليه في اثنى عشر ألف فيل.
فلما قربت من مكانه قال حينئذ: من يأتيني بعرشها قبل أن