الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت جامعة بين أجلّ طبقات الغناء والجمال وأسمى مراتب العفاف والكمال، وقورة السمت، رخيمة الصوت، بهية الشارة، فتانة الملامح، رزينة الحصاة، عذبة الكلام، وجيزة العبارة. أجمع مجيدو عصرها - مثل: الغريض وابن سريج وابن محرز ومعبد بن جامع وحيابة وابن عائشة وسلامة وزمين وخليدة وعقيلة العقيقية - على كونها إمام هذا الفن ومجلي مضمار السبق فيه شرقاً وغرباً بين الإنس والجن.
وكان معبد يقول: لم لم تكن جميلة لم نكن نحن مغنين، ولطالما تحاكم لديها أولو الفن المجيدون من مكيين ومدنيين وبصريين، فقضت بينهم قضاءً آخذاً بناصية الأنصاف مأموناً به جانب الحيف والإجحاف، قيل: حجت ذات سنة فخرج إلى لقائها كبراء مكة وساداتها، ومشاهير مغنيها وقيناتها فكثر الزحام وازدحمت في أرجاء الحرم الأقدام، والتفت الساق على الساق، حتى كأنه يوم التلاق، ولما انقضى الحج اقترح عليها الأمراء وعقد مجلس للغناء فقالت: ما كنت يا ذوي الفضل لأخلط الجد بالهزل.
ثم عادت إلى يثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها سراتها وأشرافها يتقدهم الأطفال والنساء، وكان قد صحبها قوم من غزز مكة وأعيانها، فلما حلت دارها أتاها الجميع مهنئين باللطف والإيناس فغصت الساحات والسطوح بتخليط الناس، واصطف المغنون طبقتين متناوحتين، فكان كلما دمدمت وشدت علا من الخلق ضجيج ينطح به عنان السماء، وأذن السمع صماء الكل يقول: ما رأينا ولا سمعنا بمثل هذا، ثم اقترحت على المغنين أن يهذبوا شفعاً ووتراً، ففعلوا، فكانت تصلح لكل أغلاطه وتريه وجه الإصابة من الطرب طريقاً حتى أبهتت الناس عجباً، وحيرتهم وأبكتهم طرباً وصبابة، فانصرفوا يقولون: اللهم غفراً، فسبحان من جعلها في كل معنى غاية إنه ولي التوفيق.
جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصارية
هي أخت عاصم بن ثابت امرأة عمر بن الخطاب تكنى أم عاصم بابنها عاصم بن عمر بن الخطاب سمته باسم أخيها وكان اسمها عاصية، فلما أسلمت سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة، تزوجها عمر سنة 7 من الهجرة فولدت عاصماً، ثم طلقها عمر بتزوجها يزيد بن حارثة، فولدت له الرحمن بن يزيد فهو أخو عاصم لأمه.
وقيل: إن عمر ركب إلى قبيلتها فوجد ابنه عاصماً يلعب مع الصبيان فحمله بين يديه، فزدركته جدته الشموس بنت أبي عامر فنازعته إياه حتى انتهى إلى أبي بكر الصديق فقال له أبو بكر: خل بينه وبينها فما راجعه وسلمه إليها لكونها حاضنته وكانت جميلة إذ ذاك متزوجة بيزيد بن حارثة.
جنان جارية عبد الوهاب الثقفي
كانت بمنزلة عظيمة من الحب عند أبي نواس ويقال: إنه لم يصدق بحب امرأة غيرها وكانت حسناء أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار. رآها أبو نواس بالبصرة عند مولاها المذكور فاستحلاها وقال فيها أشعاراً كثيرة، وقيل له يوماً: إن جنان عزمت على الحج فقال: إني سأحج على هذا إن أقامت على عزيمتها فلما علم أنها خارجة سبقها، وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها وقال لما عاد من حجه:
ألم تر أنني أفنيت عمري
…
بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سبباً إليها
…
يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
…
فيجمعني وإياها المسير
وقد أرسل إليها أبو نواس حين عاد من حجه بهذه الأبيات:
إلهنا ما أعدلك
…
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
…
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
…
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
…
على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أملك
…
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
…
كل نبي وملك
وكل من أهل لك
…
سبح أو لبى فلك
يا مخطئاً ما أغفلك
…
عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
…
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
…
والعز لا شريك لك
وقيل: كانت جنان قد شهدت عرساً في جوار أبي نواس فانصرفت منه وهو جالس، فلما رآها أنشد بديهاً:
شهدت جلوة العروس جنان
…
فاستمالت بحسنها النظاره
حسبوها العروس حين رأوها
…
فإليها دون العروس الإشاره
وغضبت يوماً جنان من كلام كلمها به، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له لا برح الهجران ربعك ولا بلغت أملك من أحبتك، فرجع الرسول إليه فسأل عن جوابها فلم يخبره فقال:
فديتك فيم عتبك من كلام
…
نطقت به على وجه جميل
وقولك للرسول عليك غيري
…
فليس إلى التواصل من سبيل
فقد جاء الرسول له انكسار
…
وحال ما عليه من قبول
ولو ردت جنان مرد خير
…
تبين ذاك في وجه الرسول
قيل: ولم تكن جنان تحبه أولاً، فما عاتبها به حتى استمالها بصحة حبه لها فصارت تحبه بعد بغضها له قوله:
جنان إن جدت يا مناي بما
…
آمل لم تقطر السماء دما
وإن تمادى ولا تماديت في
…
منعك أصبح في قفرة رمما
علقت من لو أتى على أنفس
…
الماضيين والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجر
…
ولد فيه فتوره سقما
وقال الجماز: كنت عند أبي نواس جالساً إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين فسألها عن جنان وألحف في المسألة فاستقصى، فأخبرته خبرها وقالت: قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أني أسمع، ويحك قد آذاني هذا الفتى وأبرمني، وأحرج صدري وضيق علي الطرق بحدة نظره وتهتكه فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته، ثم التفتت فأمسكت عن الكلام ففرح أبو نواس بذلك فلما قامت المرأة أنشأ يقول:
يا ذا الذي عن جنان ظل يخبرنا
…
بالله قل وأعد يا طيب الخبر
قال اشتكتك وقالت ما ابتليت به
…
أراه من حيثما أقبلت في إثري
ويعمل الطرف نحوي إن مررت به
…
حتى ليخجلني من حدة النظر
وإن وقفت له كيما يكلمني
…
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
مازال يفعل بي هذا ويدمنه
…
حتى لقد صار من همي ومن وطري
وقيل: أرسلت جنان تقول لأبي نواس: قد شهرتني فاقطع زيارتك عني أياماً لينقطع بعض القالة، ففعل وكتب إليها:
إنا اهتجرنا إذ فطنوا
…
وبيننا حين نلتقي حسن
ندافع الأمر وهو مقتبل
…
فشب حتى عليه قد مرنوا
فليس يقذى عيناً معاينة
…
له وما إن تمجه أذن
ويح ثقيف ماذا يضرهم
…
لو كان في ديارهم سكن
أريب ما بيننا الحديث فإن
…
زدنا فزيدوا فما لذا ثمن
وقيل: كتب إليها من بغداد:
كفى حزناً أن لا أرى وجه حيلة
…
أزور بها الأحباب في حكمان
وأقسم لولا أن تنال معاشر
…
جناناً بما لا أشتهي لجنان
لأصبحت منها داني الدار لاصقاً
…
ولكن ما أخشى فديت عداني
فوا حزناً حزناً يؤدي إلى الردى
…
فأصبح مأسوراً بكل لسان
أراني انقضت أيام وصلي
…
منكم وآذن فيكم بالوداع زماني
وقيل: بلغه أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر، فقال في ذلك:
وا بأبي من إذا ذكرت له
…
وطول وجدي به تنقصني
لو سألوه عن وجه حجته
…
في سبه لي لقال يعشقني
نعم إلى الحشر والتنادي نعم
…
أعشقه أو ألف في كفني
أصيح جهراً لا استسر به
…
عنفني فيه من يعنفني
يا معشر الناس فاسمعوه وعوا
…
إن جناناً صديقة الحسن
فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره، فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالحته فكتب لها:
إذا التقى في النوم طيفانا
…
عاد لنا الوصل كما كانا
يا قرة العين فما بالنا
…
نشقى ويلتذ خيالانا
لو شئت إذا أحسنت لي في الكرى
…
أتممت إحسانك يقظانا
يا عاشقين اصطلحا في الكرى
…
وأصبحا غضبى وغضبانا
كذلك الأحلام غدارة
…
وربما تصدق أحيانا
وقيل: رآها يوماً في ديار ثقيف فقابلته بما كره، فغضب وهجرها مدة فأرسلت إليه تصالحه، فرده ولم يصالحها، فرآها في النوم تطلب صلحه فقال:
دست له طيفها كيما تصالحه
…
في النوم حين تأبى الصلح يقظانا
فلم يجد عند طيفي طيفها فرجاً
…
ولا رثى لتشكيه ولا لانا
حسبت أن خيالي لا يكون لما
…
أكون من أجله غضبان غضبانا
جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا
…
فلم يكن هيناً منك الذي كانا
ومن قوله:
أما يغني حديثك عن جنان
…
ولا تبقى على هذا اللسان
أكل الدهر قلت لها وقالت
…
فكم هذا أما هذا بفان
جعلت الناس كلهم سواء
…
إذا حدثت عنها في البيان
عدوك كالصديق وذا كهذا
…
سواء وإلا باعد كالأداني
إذا حدثت عن شأن توالت
…
عجائبه أتيتهم بشأن
فلو موهت عنها باسم أخرى
…
علمنا إذ كنيت من أنت عاني
ومن ظريف ما كتبه إليها قوله:
أكثري المحو في كتابك وامحيه
…
إذا ما محوته باللسان
وامرري بالمحاء بين ثاناياك
…
العذاب المفلجات الحسان
إنني كلما مررت بسطر
…
فيه محو لطعته بلساني
تلك تقبيلة لكم من بعيد
…
أهديت لي وما برحت مكاني
ورآها يوماً في مأتم سيدها تندبه باكية وهي مخضبة فقال مرتجلاً:
يا قمراً أبرزه مأتم
…
بندب شجواً بين أتراب
يبكي فيذرى الدر من نرجس
…
ويلطم الورد بعناب
لا تبكي ميتاً حل في حفرة
…
وابكي قتيلاً لك بالباب
أبرزه المأتم لي كارهاً
…
برغم دايات وحجاب
لازال موتاً دأب أحبابه
…
ولا تزل رؤيته دأبي
ودخل على أبي نواس بعض أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوا به خفة قالوا: فانبسط معنا فقال: من أين جئتم؟ فقلنا من عند جنان. فقال: أو كانت عليلة؟ قلنا: نعم، وقد عوفيت الآ. فقال: والله أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سبباً غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعاً أن يكون الله عافاه منها قبلي ثم دعا بدواة وكتب إلى جنان:
إن حممت ولم أشعر بحماك
…
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني
…
من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة قمت فيها غير متهم
…
عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا انقضت نفسي ونفسك في
…
هذا وذاك وفي هذي وفي ذاك
وقيل: إن أبا نواس حاول مراراً أن يتزوج بها ولم ينل ذلك، وتوفي قبلها وبقيت هي في منزل سيدها معززة مكرمة إلى أن ماتت بعد أبي نواس بمدة قليلة. ويقال: إن سبب وفاتها حزنها على أبي نواس لكونها لم تتصل به.