الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما وقد أصبحت في قبضة الردى
…
فشأن المنايا فلتصب من بدا لها
حمدونية بنت عيسى بن موسى
كانت ذات حسن وجمال، وصيانة وأدب. حجت إلى بيت الله الحرام في زمن المتوكل العباسي.
قال محمد بن صالح العلوي: لما خرجنا على المتوكل أخذت أنا وأصحابي قافلة الحاج فجمعنا أموالا ومتاعا لا يحصى، وكنت قد جلست على كرسي في بعض المراحل وقت نزولنا وأصحابي يجمعون المال، وإذا أنا بامرأة قد رفعت سجاف هودج فأضاء منها المكان ولا إضاءة الشمس، فقالت: أين الشريف صاحب السرية فلي إليه حاجة؟ قلت: إنه يسمع كلامك. فقالت: أنا حمدونية بنت عيسى بن موسى، تعلم مكاننا عند الخليفة وأنا أسألك أن تأخذ مني ثلاثين ألف دينار مع أني أعطيتك ما في يدك، ولكن أسألك بفضلك أن لا يكشف لي أحد وجها. فناديت أصحابي، فلما اجتمعوا قلت: من أخذ منكم من هذه القافلة عقالا أذنته بحرب. فردوا حتى الأطعمة وخفرتهم إلى المأمن، فلما ظفر بي الخليفة وحبسني بسر من رأى دخل علي السجان يوما وقال: إن بالباب امرأتين من أهلك تريدان الدخول عليم ولوا أن دفعنا إلي دملج ذهب ما أذنت لهما، فقد منع الخليفة أن يدخل عليك أحد، فخرجت فإذا أنا بها مع امرأة وجارية تحمل شيئاً فلما بصرت بي قالت: أي والله هو، وبكت لما أنا فيه، ثم قبلت قدمي وقالت: لو استطعت أن أقيك بنفسي لفعلت، ولكني لا أقصر في خلاصك ودونك هذه النفقة ورسولي يأتيك في كل يوم بما تريد حتى يفرج الله عنك، ودفعت إلي بخمسمائة دينار وثيابا وطيبا وطعاما وانصرفت وقد أضرمت بقلبي نارا قدحتها النظرة الأولى، فأنشدت:
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه
…
وتشعبت بشعابه أشجانه
وبدا له من بعدما اندمل الهوى
…
برق تألق موهنا لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه
…
صعب الذرى متمنعا أركانه
يبدو فينظر أي لاح فلم يطق
…
نظرا غليه وصده سبحانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه
…
والماء ما سحت به أجفانه
يا قلب لا يذهب بحلمك باخل
…
بالنيل باذل تافه منانه
واقنع بما قسم الإله فأمره
…
ما لا يزال على الفتى إتيانه
والبؤس ماض لا يدوم كما مضى
…
عصر النعيم وزال عنك أوانه
ولم يزل رسولها يعاودني بالإحسان وملاطفة السجان إلى أن خرجت وعظم أمري عند الخليفة، فخطبتها، فامتنع أبوها فكان سجن هواها أعظم علي من السجن، فلم أر إلا أن أتيت إبراهيم بن المقتدر فأخبرته بذلك، وكان أبوها في ضيعته، فركب إليه فلم يفارقه حتى زوجني بها وبقينا متمتعين بنعيم عيشنا إلى أن توفيت وأصابني بعدها الحزن والشجون ولابن صالح فيها أشعار كثيرة لم تصل إلي معرفتها.
حمد بنت زياد
من وادي أشن بالأندلس، وهي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس أديبة زمانها، وغريبة أوانها. كان الأدب نقطة من حوضها، وزهرة من روضها، لها المنطق الذي يقوم شاهدا بفضل لسان العرب، ويفتح على البلغاء أبواب العجز، ويسد عليهم صدور الخطب، فإن ا، جزت أعجزت بالمقال، وإن أطالبت كاثرت الغيث
الهطال، مع مطارحة تذهب في الاستفادة مذهب الحكم، وأخلاق تحدث عن لطف الزهر غب الديم مرمى الترنم بذكرها المتعطر بنشر حمدها وشكرها، والنسيم نم بمرآها على الحدائق، والصبح يشرق بنور الشمس الشارق.
روت عن العلماء الأفاضل ورووا عنها، ومنهم: العالم العلامة، البحر الحبر الفهامة، أبوالقاسم بن البراق. ومن عجيب شعرها البديع قولها:
ولما أبى الواشون إلا افتراقنا
…
وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة
…
وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي
…
ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
والبعض يزعم أن هذه الأبيات لبهجة بنت عبد الرزاق، ولكنها لحمد أثبت وأشهر والله أعلم.
وخرجت حمد مرة للوادي مع حبيبة لها فرأت الأزهار في جوانبه تتلألأ كأنها نجوم تساقطت من كبد السماء والماء في النهر يتماوج كأنه قطع من لجين ترمقه عيون ذكاء فأعجبها ذلك المنظر البهج، وأحبت أن تخوض بذلك النهر إتماما لترويح النفس خصوصا لخلوه من الناس فنضت عنها الثياب وعامت، ثم قالت:
أباح الدمع أسراري بوادي
…
له للحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل أرض
…
ومن روض يروق بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة أنس
…
سبت لي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر
…
وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها
…
رأيت الأمر يمنعني رقادي
كأن الصبح مات له شقيق
…
فمن حزن تسربل بالحداد
وقولها هذه الأبيات الشهير بالبلاد المشرقية وهي:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظما زلالا
…
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
…
فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
…
فتلمس جانب العقد النظيم
حميدة ابنة النعمان بن بشير كانت من جميلات نساء العرب، وأعلمهن بفنون الأدب. وكانت في القرن الأول للهجرة ربيت في حجر أبيها مع أختيها: هند وعمرة، فنشأت هي على عز النفس، وصارت لا يرى لها من قرين يقوافها. ومن عزة نفسها كانت كلما تزوجت برجل ورأت فيه عيبا تهجوه بالشعر حتى خافت من لسانها العرب. ومن ذلك أن الحارث بن خالد لما قدم من المدينة على عبد الملك وهو إذ ذاك بدمشق والنعمان بن بشير وال على حمص فخطبها الحارث من أبيها، فزوجه بها ولم تمكث معه غير قليل حتى أساء معاملتها فقالت فيه:
فقدت الشيوخ وأشياعهم
…
وذلك من بعض أقواليه
ترى زوجة الشيخ مغمومة
…
ولا تمسي بصحبته قاليه
فلا بارك الله في عرضه
…
ولا في غضون إسته البالية
نكحت المديني إذ جاءني
…
فيا لم من نكحة غاوية
كهول دمشق وشبانها
…
أحب إلينا من الجالية
صنانهم كصنان التيو
…
س أعيا على المسك والغالية
وقمل يدب دبيب الجرا
…
د أعيا على الغال والغالية
فقال الحارث يجيبها:
أسنا ضوء نار ضمرة بالقف
…
رة أبصرت أم سنا ضوء برق
قاطنات الحجون أشهى إلى قل
…
بي من ساكنات دور دمشق
يتضوعن لو تضمخن بالمس
…
ك صنانا كأنه ريح مرق
ولما استحكمت بينهما النفرة طلقها الحارث فخلف عليها روح بن زنباع وعليه كانت الطامة الكبرى. قال صاحب الأغاني: إن قولها: (أحب إلينا منالجالية) تعني الجالية أهل الحجاز، وكان أهل الشام يسمونهم بذلك لأنهم كانوا يجلون عن بلادهم إلى الشام ولما بلغ عبد الملك قولها قال: لولا أنها قدمت الكهول على الشبان لعاقبتها. قال عمر بن شبة: لما تزوجها روح بن زنباع نظر غليها يوما تنظر على قومه بني جذام وقد اجتمعوا عند فلامها فقالت: وهل أرى إلا جذام فوالله ما أحب الحلال منهم فكيف بالحرام وقالت تهجوه:
بكى الخز من روح وأنكر جلده
…
وعجت عجيجا من جذام المطارف
وقال العبا قد كنت حينا لباسكم
…
وأكسيه كرديه وقطائف
فقال روح:
إن يبك منا يبك ممن يهنينا
…
وإن يهوكم يهوى اللئام المقارقا
واجتمعت يوما بمجلس فصارت تهزأ به وتضحك عليه ووقعت بينهما مناظرة كان البادئ فيها هو بقوله:
أثنى علي بما علمت فإنني
…
مثن عليك لبئس حش المنطق
فقالت:
أثني عليك بأن باعك ضيق
…
وبأن أصلك من جذام ملصق
فقال:
أثني علي بما علمت فإنني مثن عليك بمثل ريح الجورب
فقالت:
فثناؤنا شر الثناء عليكم
…
اسوأ وأنتن من سلاح الثعلب
فسكت روح عند ذلك فقالت هي:
وهل أنا إلى مهرة عربية
…
سليلة أفراس تحللها بغل
فإن أنتجت مهرا كريما فبالحرا
…
وإن يك إقرافا فما أنجب الفجل
فقال روح:
فما بال مهر رائع عرضت له
…
أتان فبالت عند جحفلة البغل
إذا هو ولى جانبا ربخت له
…
كما رخت قمراء في دمث السهل
وقالت فيه أيضا
سميت روحا وأنت الغم قد علموا
…
لا روح الله عن روح بن زنباع
لا روح الله عمن ليس يمنعنا
…
مال رغيب وبعل غير ممناع
فقال:
كبائع جونة نجل مخاصرها
…
دبابة شثنة الكثين خنباع
وقال فيها -وقد دخل عليها وهي في غاية الزينة والطيب-:
تكحل عينيك برد العشى
…
كأنك مومسة زانيه
وآية ذلك بعد الخفوق
…
تغلف راسك بالغاليه
وإن بينك لريب الزما
…
ن أمست رقابهم خاليه
فلو كان أسو حاضرا
…
لقال لهم إن ذا ماليه
وإن كان من قد مضى مثلكم
…
فأف وتف على الماضيه
وما إن يرى الله فاستبقين
…
هـ من ذات بعل ومن جاريه
شبيها بك اليوم فيمكن بقي
…
ولو كان في الأعصر الخالية
فبعدا لمحياك غذ ما حييت
…
وبعدا لأعظمك الباليه
وقالت له حميدة يوما -وكان أسود ضخما: كيف تسود وفك ثلاث خصال؟ أنت من جذام، وأنت جبان، وأنت غيور.
فقال: أما جذام: فأنا في أرومتها وبحسب الرجل أن يكون في أرومة قومه، وأما الجبن: فإنما لي نفس واحدة ولو كان لي نفسان لجدت بإحداهما. وأما الغيرة: فهو أمر لا أحب أن أشارك فيه، وإن المرء لحقيق بالغيرة على المرأة مثلكالحمقاء الورهاء لا يأمن أن تأتي بولد من غيره فتقدمه في حجره. وكان روح يتنارع معها يوما بمثل هذه المنافسات فظهرت عليه فلم يكن يسعه إلا أن قال: اللهم إن بقيت بعدي فابتلها ببعل يلطم وجهها ويملأ حجرها قيئا، فتزوجها بعد الفيض بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وكان شابا جميلا يصيب من الشراب فأحبته فكان ربما أصاب من الشراب مسكرا فيلطم وجهها ويقيئ في حجرها فتقول: يرحم الله أبا زرعة قد أجيبت دعوته في.
وكان السبب في زواجها فيضا هو أنها لما خلعت من روح بن زنباع بقيت زمنا عزبا لا يقدم عليها أحد من أقرانها نظرا لما اشتهرت به من عزة نفسها على الرجال، وبما أن آدابها كانت مشهورة في ذلك الزمان كان الأدباء يتمنون الاقتران بها ويمنعهم من ذلك تسلط لسانها على أزواجها إلى أن قيض الله لها فيض بن محمد الحكم المذكور ولجماله وأدبه تزوجت به، ولم تعلم تهتكه وخلاعته، ولما اتصلت به رأت منه رجلا بخلاف ما رأت من الرجال من سوء خلق وزيادة تهتك وإدمان على شرب المسكرات حتى صار يهينها ويلطم وجهها ويقيء في حجرها، وهناك هجرته وقلته وقالت فيه الأشعار الهجائية وأظهرت مساويه حتى صار عبرة لغيره. ومن أشعارها فيه قولها:
سميت فيضا وما شيئا تفيض به
…
إلا سلاحك بين الباب والدار
فتلك دعوة روح الخير أعرفها
…
سقى الإله صداه الأوطف الساري
وقالت:
ألا يا فيض كنت أراك فيضا
…
فلا فيضا أصبت ولا فراتا
وقالت:
وليس فيض بفياض العطاء لنا
…
لكن فيضا لنا بالقيء فياض
ليث الليوث علينا باسل شرس
…
وفي الحروب هيوب الصدر حياض
وولدت من فيض ابنة فتزوجها الحجاج بن يوسف، وقد كان قبلها عند الحجاج أم أبان بنت النعمان بن بشير فقالت حميدة للحجاج: