الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما قاله الأرقمي عن هذه الجارية قال: قال لي أبو السائب: هل لك في أحسن الناس غناء؟ قلت: وأنى لي ذلك قال اتبعني فتبعته إلى أن جئنا دار مسلم بن يحيى فأذن لنا فدخلنا ثم طلعت علينا جارية عجفاء كلفاء عليها ثوب أصفر وكأن وركيها في خيط من ضعفها فقلت لأبي السائب: بأبي أنت ما هذه؟ فقال: اسكت فتناولت عودا فغنت:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
…
تفريج ما ألقى من الهم
فاستبقني أن قد كلفت بكم
…
ثم افعلي ما شئت عن علم
قد كان صرم في الممات لنا
…
فعجلت قبل الموت بالصرم
قال: فتحسنت في عيني وبدا ما أذهب الكلف عنها وزحف أبو السائب وزحفت منه ثم تغنت:
برح الخفاء فأيما بك تكتم
…
ولسوف يظهر ما تسر فيعلم
مما تضمن من غدير قبله
…
يا قلب إنك بالحسان لمغرم
يا ليت أنك يا حسام بأرضنا
…
تلقى المراسي طائعا وتخيم
فتذوق لذة عيشنا ونعيمه
…
ونكون إخوانا فماذا تنقم
قال: فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمر قتين وربت العجفاء في عيني ما يربو السويق بماء مزنة، ثم غنت:
يا طول ليلي أعالج السقما
…
إذ حل كل الأحبة الحرما
ما كنت أخشى فراقكم أبدا
…
فاليوم أمسى فراقكم عزما
فألقيت طيلساني وأخذت وسادة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح على اللوبيا في المدينة، وقام أبو السائب فتناول ربعة في البيت فيه القوارير ودهن فوضعها على رأسه وصاح صاحب الجارية، وكان - ألثغا- قوانيني (يعني قواريري) فاصطكت القوارير وتكسرت وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره وقال للعجفاء: لقد هجت لي داء قديما، ثم وضع الربعة على رأسه وعوضنا ثمن القوارير إلى صاحب الجارية وذهبنا وكنا نختلف إلى العجفاء حتى اشتراها عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فانقطع عنا خبرها.
العروضية
مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة ولكنها فاقته في ذلك وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحها وقد قرأ عليها أبو داود سليمان - الكتابين المذكورين - وأخذ عنها العروض. توفيت بدانية بعد سيدها في عدد الخمسين والأربعمائة وقد تركت لها ذكرا جميلا وفخرا طويلا تتحدث به الأجيال من بعدها - رحمها الله تعالى.
عريب
كانت مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة، وجودة الضرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنغم والأوتار، والرواية للشعر والدب. ولم يتعلق بها أحد من نظرائها ولا رؤي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن نظير لها.
وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في قصور الخلافة، وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه
عيش الحجاز والنشء بين العامة والعرب الجفاة، ومن غلظ طبعه وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره.
وكانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد وهو الذي رباها وأدبها وعلمها الغناء ونقل صاحب الأغاني من حديث إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها ابنة جعفر بن يحيى البرمكي وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة.
وقيل: إن أم عريب كانت تسمى فاطمة وكانت قيمة لام عبد الله بن يحيى بن خالد، وكانت صبية نظيفة فرآها جعفر بن يحيى فهويها، وسأل أم عبد الله أن تزوجه بها ففعلت وبلغ الخبر يحيى بن خالد، فأنكره وقال له: أتتزوج من لا يعرف لها أم ولا أب اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها إلى دار في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه ووكل بها من يحفظها وكان يتردد إليها فولدت عربيها في سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة.
وقيل: إن أم عريب ماتت في حياة جعفر فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها، فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس فباعها من المراكبي، وقيل: إن الفضل بن مروان كان يقول: كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى قال: وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها لبعض الكتاب فقال: فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى.
وروى أبو الفرج الأصبهاني عن محمد بن خلف أنه قال: قال لي أبي: ما رأيت امرأة أضرب من عريب ولا أحسن صنعة، ولا أحسن وجها، ولا أخف روحا، ولا أحسن خطابا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشطرنج والنرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها. قال حماد: فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي فقال: صدق أبو محمد كذلك قلت: أفسمعتها. قال: نعم، هناك - يعني في دار - المأمون - قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق؟ فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك فهو أعلم مني بها فأخبرت بذلك أبي فضحك، ثم قال: أما استحيت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا.
وأخبر علي بن يحيى أنه كان لإسحاق صناجة وكان معجبا بها واشتهاها المعتصم في خلافة المأمون فبينما هو ذات يوم في منزله إذ أتاه إنسان يدق الباب دقاً شديداً قال: فقلت: انظروا انظروا من هذا فقالوا: رسول أمير المؤمنين فقلت: ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إني فيها.
فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مسخن فدخلت فسلمت فرد علي السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال لي: اسكن، فسكنت فقال لي عن صوت. قوال: أتدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك، فأمر جارية من وراء الستارة فغته وضربت، فإذا قد شبهته بالقديم فقلت: زدين معها عودا آخر فإنه أثبت لي. فزادني عودا آخر فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة قال: من أين؟ قلت: ذلك. قلت: لما سمعت لينه عرفته أنه محدث من غناء النساء ولما رأيت جودة مقاطعة علمت أن صاحبته قد حفظت مقاطعة وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشك فقال: صدقت الغناء لعريب وقال يحيى بن علي: أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فتكتبه فكان ألف صوت، وسأل ابن خرداذيه عريب عن صنعتها فقالت: قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت ونقل الأصبهاني عن محمد بن القاسم أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون وما أخذه عن بدعة جاريتها فقابل بعضه ببعض فكان ألفا ومائة وخمسا وعشرين صوتا.
ودخل بن هشام على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له: يا ابن هشام، عن فقال: يا ابن هشام، عن فقال: تبت عن الغناء، مذ قتل سيدي المتوكل فقالت له عريب: والله أحسن حيث تبت فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح
ولا طريب فأضحكت أهل المجلس جميعا منه فخجل فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب صنعتها ويقول: هي ألف صوت في العدد وصوت واحد في المعنى وهي مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول:
يا عين بكى خالدا
…
ألفا ويدعى واحدا
قال الأصبهاني: وليس الأمر كما قال: إنها لصنعة شبهت فيها صنعة الأوائل وجودت وبرزت.
منها: أأن سكنت نفسي وقل عويلها. ومنها: يقول همي يوم ودعتها. ومنها: إذا أردت انتصافا كان ناصركم وعدد لها جملة أصوات في الأغاني لا لزوم لذكرها هنا وقيل: إن مولى عريب خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء فبرعت في ذلك كله وتزايدت حتى قالت الشعر، وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان. وقيل: إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه، ثم ركبه دين فاستتر عنده فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته وكانت المواصلة بينهما وعشقته عريب، فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب وقيل: من خيوط غلاظ وسترته حتى إذ همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمده وقد أعد لها موضعا لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثارها، ثم تسورت من الحائط حتى هربت فمضت إليه فمكثت عنده زمانا.
وقيل: إنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به فأعاره عودها وهو لا يعلم أنها عنده ولا يتهمه بشيء من أمرها فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي وهو عيسى بن زينب يهجو أباه ويعيره بها وكان كثيرا ما يهجوه:
قاتل الله عريبا
…
فعلت فعلا عجيبا
ركبت والليل داج
…
مركبا صعبا مهوبا
فارتقت متصلا بالنج
…
م أو منه قريبا
صبرت حتى إذا ما
…
أقصد النوم الرقيبا
مثلت بين حشايا
…
هالكي لا تستريبا
خلفا منها إذا نو
…
دي لم يلف مجيبا
ومضت يحملها الخو
…
ف قضيبا وكثيبا
محة لو حركت خف
…
ت عليها أن تذوبا
فتدلت لمحب
…
فتلقاها حبيبا
جذلا قد نال في الدن
…
يا من الدنيا نصيبا
أيها الظبي الذي تس
…
حر عيناه القلوبا
والذي يأكل بعضا
…
بعضه حسنا وطيبا
كنت نهبا لذئاب
…
فلقد أطعمت ذيبا
3 وكذا الشاة إذا لم=يك راعيها لبيبا
لا يبالي وبأ والمر
…
عى إذا كان خصيبا
فلقد أصبح عبد الله
…
كشخان حريبا
قد لعمري لطم الوجه
…
وقد شق الجيوبا
وجرت منه دموع
…
بلت الشعر الخضيبا
وأخبر بعضهم أنها ملته بعد ذلك فهربت منه فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد متسترة متخفية، فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني تسمع غناءها فعرفه فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه فلم يبرح حتى جاء عمه فلببها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح يا هذا لست أصبر عليك امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني لست أصبر على الضيقة فلما كان من غد ندم على فعله وسار إليها فقبل رأسها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها منه قال وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل وقبل ذلك كان طلب منه خادما عنده فاضطغن لذلك عليه فلما ولى الخلافة جاء المرابي ليقبل يده فأمر بمنعه ودفعه ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي وقال له: أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه فدعا محمدا بالمراكبي وأمر بضرب عنقه فسأل في أمره فأعفاه وحبسه وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له، فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده قال: وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه، ثم ملته فهربت منه وهي أبيات هذان منها:
ورشوا على وجهي من الماء واندبوا
…
قتيل عريب لا قتيل حروب
فليتك إذ عجلتني فقتلتني
…
تكونين من بعد الممات نصيبي
وقد ذكر بعضهم رواية تخالف هذه وهي أنها هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحدقوا خراسان قال: وكان أشقر أصهب الشعر أزرق وفيه تقول عريب ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس:
بأبي كل أزرق
…
أصهب اللون أشقر
جن قلبي بي ولي
…
س جنوني بمنكر
وقيل: إن ابن المدبر قال: خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق فكنا نسير مع العسكر، فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم في العماريات على الجمازات وكنا رفقة وكنا أترابا فقال لي أحدهم على بعض هذه الجمازات عريب فقلت: من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات وانشد أبيات عيسى بن زينب:
قاتل الله عريبا
…
فعلت فعلا عجيبا
فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها حتى أتممتها فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقال: يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه أنسيت قوله:
وعريب رطبة الشف
…
رين قد نيكت ضروبا
اذهب فخذ ما بالغت فيه ثم ألقت السجف فعلمت أنها عريب وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم.
وقال عمر بن شبة كانت للمراكبي جارية يقال لها: مظلومة. جملية الوجه، بارعة الحسن، فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه، فقال فيها بعض الشعراء:
لقد ظلموك يا مظلوم لما
…
أقاموك الرقيب على عريب
ولو أولوك إنصافا وعدلا
…
لما أخلوك أنت من الرقيب
أتنهين المريب عن المعاصي
…
فكيف وأنت من شأن المرايب
وكيف يجانب الجاني ذنوبا
…
لديك وأنت جالبة الذنوب
فإن يسترقبوك على عريب
…
فما رقبوك أنت من القلوب
وأخبر بعضهم أنه لما نمى خبر عريب إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضر وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول:
لكل أناس جوهر متنافس
…
وأنت طراز الآنسات الملائح
فطرب محمد واستعاد الصوت مرارا وقال لإبراهيم: يا عم، كيف سمعت. قال: يا سيدي سمعت حسنا وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا فقال للفضل بن الربيع: خذها إليك وساوم بها ففعل فاشتط مولاها في السوم، ثم أوجبها له بمائة ألف دينار وانتقض أمر محمد وشغل عنها فلم يأمر لمولاها حتى قتل بعد أن افتضها فرجعت إلى مولاها، ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي.
وقيل: إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد فأمر بإحضاره فسأله عنها، فأنكر. فقال له المأمون كذبت قد سقط إلي خبرك وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه وبلغها الخبر فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح أنا عريب إن كنت مملوكة فليبعني وإن كنت حرة فلا سبيل له علي فرفع خبرها إلى المأمون فأمر بتعديلها عنه قتيبة بن زياد القاضي فعدلت عنده وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها فسأله البينة على ملكه إياها فعاد متظلما إلى المأمون.
وقال: قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة وتظلمت إليه زبيدة، وقال: من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها.
فقال المراكبي إني أخذت ملكي لأنه لم ينقدني الثمن فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي فأخذها من قتيبة بن زياد فأمر ببيعها ساذجة فاشتراها المأمون بخمسة آلاف درهم فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحب لها، وقيل: إنه لما مات المأمون بيعتعت في ميراثه ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها، فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم.
ثم أعتقها فهي مولاته وذكر بعضهم أنها لما هربت من دار محمد لما قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي. وقيل: إن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفعها إليه وقال: لولا أني حلفت أن لا أشتري مملوكاً بأكثر من هذا لزدتك ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار، وخلع عليه خلعة سنية فقال: يا سيدي إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا، وأما أنا فإني ميت لا محالة لأن هذه الجارية كانت حياتي وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوما.
وقيل: إن إبراهيم بن رباح كان يتولى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها فاشتراها بمائة ألف درهم قال: فأمرني المأمون بحملها وأن أحمل لإسحاق مائة ألف درهم أخرى ففعلت ذلك، ولم أدر كيف أثبتها فحكيت في الديوان أن المائة ألف خرجت في ثمن جوهرة، والمائة ألف
الأخرى أخرجت لصائغها ودلالها فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه فقلت: نعم هو ما رأيت، فسأل المأمون عن ذلك.
وقال: أوجب لدلال وصائغ مائة ألف درهم وغلظ القصة فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه أخبرته المال الذي خرج فيثمن عريب وصلة إسحاق وقلت: أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت، أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية فضحك المأمون وقال: الذي فعلت أصوب، ثم قال للفضل بن مروان: يا نبطي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء،. وقيل: إن عريب لما صارت في دار المأمون احتالت حتى واصلت محمد بن حامد وكانت عشقته وكاتبته.
ثم احتالت في الخروج إليه وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حلبت منه وولدت بنتا، وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها، وأخبر بعضهم أنه لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم، ثم ذكرها فرق لها وأمر بإخراجها، فلما فتح الباب وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني:
لو كان يقدر أن يبثك ما به
…
لرأيت أحسن عاتب يتعتب
حجبوه عن بصري فمثل شخصه
…
في القلب فهو محجب لا يحجب
فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال: لن تصلح هذه أبدا فزوجها إياه، وذكر صاحب الأغاني أن المأمون اصطحب يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة المغنين وعريب معه على مصلاه فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء:
رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنة
…
كحاشية البرد اليماني المسهم
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بان تقول له طعنة فقال لها المأمون أمسكي، فأمسكت ثم أقبل على الندماء فقال: من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة إليها والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه فقال محمد بن حامد فقال: أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها والعفو أقرب للتقوى. فقال: قد عفوت، فقال: كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك.
قال: ابتدأت صوتاً لوهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى، فعلمت أنها لم تتبدئ بهذا الصوت إلا لشيء أومئ به إليها ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة فعلمت أنها أجابت بطعنة. ومن شعرها في محمد بن حامد:
ويلي عليك ومنكا
…
أوقعت في الحق شكا
زعمت أني خؤن
…
جورا علي وإفكا
فأبدل الله ما بي
…
من ذلة الحب نسكا
وأخبر بعضهم أنها كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد. وروى غيره أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم أصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه وكانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه.
وروى أن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت:
أما الحبيب فقد مضى
…
بالرغم عني لا الرضا
أخطأت في تركي لمن
…
لم ألق منه معوضا
قال: فغنته يوما بين يدي المتوكل فاستعاده مرارا وشرب عليه يوما. ودخلت عليها إحدى جواري المتوكل فقالت لها: تعالي إلي، فجاءت. فقالت: قبلي هذا الموضع مني فإنك
تجدين ريح الجنة. وأومأت إلى صدغها ففعلت، ثم سألتها عن السبب في ذلك قالت: قبلني صالح المنذري في هذا الموضع.
وقال عبد الله بن حمدون: إن عريب زارت محمد بن حامد ذات يوم وجلسا جميعا للمنادمة فجعل يبث شوقه إليها ويعاتبها على بعض أشياء فعلتها ويقول لها: فعلت كذا وذكا، فالتفتت إليه وقالت: يا هذا، أرأيت مثل ما نحن فيه، ثم أقبلت عليه وقالت: يا عاجز دعنا الآن في انشراحنا وإذا كان الغد فاكتب لي بعتابك ودع الفضول فقد قال الشاعر:
دعي عد الذنوب إذا التقينا
…
تعالي لا أعد ولا تعدي
وقال إسحاق بن كندا: حين كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما: يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي بنصيبي منها قال: فاستأنفت طعاما كثيرا وأرسلت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول معي وها هو في الباب، فلما سمعت ذلك تحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي، فدخل الخادم ومعه شيء مشدود من منديل ورقعة فقرأت الرقعة فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي، يا غبي أظننت أني من الأتراك ووحشي الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء. الله المستعان عليك يا فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوها من الأفعال ولا تستعمل أخلاق العامة في الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت المنديل فإذا فيه طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلافة وفيه زبدية فيها لفتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيهما قطعتان من صدر دجاج مشوي وبقل وطلع وملح، ثم انصرف رسولها.
وعن علوية قال: أمرني الممون أنا وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولاة عريب في الطريق وهي - يومئذ عنده- فقال لي: يا أيها الرجل الظالم المعتدي، أما ترق وترحم وتستحي، عريب هائمة بك وتحب أن تراك. قال علوية: أم الخلافة زاينة إن تركت عريب بها، ومضيت معه، فحين دخلت قلت له: استوثق من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب فدخلت وإذا عريب جالسة على كرسي يطبخ بين يديها ثلاث قدور فجلسنا واحضر الطعام فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب. ثم قالت: يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت: وما هو؟ فقالت:
عذيري من الإنسان لا إن جفوته
…
صفا لي ولا إن كنت طوع يديه
وإني لمشتاق إلى قرب صاحب
…
يروق ويصفو إن كدرت عليه
وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل نكرره ونردده أنا وهي حتى استوى، ثم جاء حجاب المأمون فكسروا باب المراكبي واستخرجوني، فدخلت على المأمون، فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع هو ومن عنده ما لم يسمعوه واستظرفوه وطربوا منه جدا وسألني فأخبرته الخبر فقال لي: ادن مني وردده، فرددته سبع مرات فقال أبي في آخر مرة: يا علوية خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب.
قال القاسم بن زرزور: حدثتني عريب قالت: كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وكنت أصوغ الغناء وأنا في ذلك السن. قال القاسم: وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحمه فمن ذلك:
لم آت عامدة ذنبا إليك بلى
…
أقر بالذنب فاعف اليوم عن زللي
فالصفح من سيد أولى لمعتذر
…
وقاك ربك يوم الخوف والوجل
فكان لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من لحنه. والثاني هو:
أشكو إلى الله ما ألقى من الكمد
…
حسبي بربي ولا أشكو إلى أحد
أين الزمام الذي قد كنت ناعمة=في ظله بدنوني منك يا سندي
وأسأل الله يوما منك يفرحني
…
فقد كحلت جفون العين بالسهد
فكان لحنها ولحن الواثق فيه من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه: قال ابن المعتز: وكان سبب انحراف الواثق عنها كيادها إياه وسبب انحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون في بلاد الروم مضمونه اقتل أنت العلج حتى أقتل أنا العور الليلي ههنا - تعني الواثق - وكان يسهر الليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد.
وقال صالح بن علي بن الرشيد: تماري خالي أبو علي مع المأمون في صوت فقال المأمون: أين عريب؟ فجاءت وهي مجموعة فسألها عن الصوت فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط لعدم قوتها على مفعول الحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى أفرغت الصوت، ثم سقت وقد غشي عليها فأقيمت من حضرة المأمون وهو لا يكاد أن يملك نفسه أسفا وفرقا عليها. وقيل: إن المأمون كان يحبها الحب المفرط حتى إنه كان يقبل قدميها ويمرغ عليها الخدود إذا رأى منها انحرافا عنه في شيء ما.
وقال أبو العباس بن الفرات: قالت لي تحفة - جارية عريب - كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف شعرها مكان الغسلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من الجمعة إلى الجمعة فإذا غسلته أعادته كما كان وتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان.
وروي عن علي بن يحيى أنه قال: دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما جلسنا هطلت المساء بالأمطار فقالت: أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وابعث إلى من أحببت من إخوانك قال: فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان فقالت: وما هو فأخبرتها أنه في هذه الأبيات:
تجافي ثم تنطبق
…
جفون حشوها الأرق
وذي كلف بكى جزعا
…
وسفر القوم منطلق
به قلق يململه
…
وكان وما به قلق
جوانحه على خطر
…
بنار الشوق تحترق
قال فوجهت رسولا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته المساء، فأمرت بخلع ملابسه وألبسته ملابس فاخرة وقدم له طعام فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناه مرارا فأخذت دواة وقرطاسا وكتبت:
اجاب الوابل الغدق
…
وصاح النرجس الغرق
وقد غنى بنان لنا
…
جفون حشوها الأرق
فهات الكأس مترعة
…
كأن حبابها حدق
قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات.
وقال الفضل بن العباس بن المأمون: زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن في شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندنا باقي يومها فأبت وقالت: قد دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المأيد فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى، وقد عزمت على المسير إليهم قال: فحلفت عليها بالإقامة عندنا فأقامت ودعت بدواة وقرطاس فكتبت بعد البسملة في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة وهي: (أردت، لولا، لعلي) .
وأرسلتها فأخذها ابن المدبر وكتب تحت كل حرف هكذا: (ليت، ماذا، أرجو) ، ووجه بالرقة، فلما رأتها صفقت وقالت: أأترك هؤلاء وأقعد عندكم لا والله إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم بعض جواري يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت وأخذت معها بعض جواريها وتركت بعضهن وانصرفت، وعتب المأمون يوما على عريب فهجرها أياما، ثم اعتلت فعادها فقال لها: كيف وجدت طعم الهجر؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب حمد عاقبة الرضا قال: فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة تماما، ثم قال: أترى لو كان هذا من كلام النظام ألم يكن كبيرا.
وقال أحمد بن أبي داود: جرى بين عريب والمأمون فكلمها المأمون في شيء غضبت منه فهجرته أياماً قال أحمد بن أبي داود: فدخلت يوما. فقال: يا أحمد، اقض بيننا بالصلح، فلما كلمتها في ذلك قالت: لا حاجة لي في قضائه ودوله فيما بيننا وأنشأت تقول:
ونخلط الهجر بالوصال ولا
…
يدخل في الصلح بيننا أحد
فلما سمع المأمون ذلك دخل إليها بالصلح واصطلحا قال حمدون: كنت حاضرا في مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الأخيرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي: اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق - يعني المعتصم - فأد إليه رسالتي قال: فركبت ومضيت وبينما أنا في الطريق إذ سمعت وقع حافر دابة فرهبت من ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي في ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فتأملت وجه الراكب وإذا هي عريب فقلت: عريب؟ قالت: نع، أنت حمدون؟ قلت: نعم، فمن أين أتيت في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: عجبت من سؤالك هذا ترى أن عريب تخرج من مضرب الخليفة في مثل هذا الوقت لتزور محمد بن حامد وتقول لها: ماذا كنت تصنعين عنده خرجت لأصلي معه الترويح أو لأدرس عليه شيئا من الفقه يا أحمق خرجت لأزور حبيبي كما يتزاور المحبون، وما يفعلون من عتاب وصلح، وغضب، ورضا، وشكوى غرام، وبث أشواق وما أشبه. فأخجلتني وغاظتني، ثم رجعت إلى المأمون بعد أداء الرسالة وأخذنا في الحديث وتناشدنا الأشعار، وهممت والله أن أخبره خبرها، ثم رهبته فقلت: أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر فأنشده:
ألا حي إطلالا لواسعة الحبل
…
ألوف تسوي صالح القوم بالرذل
فلو أن من أمسى بجانب تلعة
…
إلى جبلي طي لساقطة الحبل
جلوس إلى أن يقصر الظل عندها
…
لراحوا وكل القوم منها على وصل
قال: فقال لي المأمون اخفض صوتك لئلا تسمعك عريب فتغضب وتظن أننا في حديثها، فلما سمعت ذلك أمسكت عما أردت أن أخبره به واختار الله لي السلامة.
وقال اليزيدي: خرجنا مع المأمون إلى بلاد الروم فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي أنشدني شعر قلت: نعم حتى أسمع فيه لحناً فأنشدتها:
ماذا بقلبي من دوام الخفق
…
إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق
…
لأن من أهوى بذاك الأفق
قال: فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت لها: هذا والله تنفس عاشق. فقالت: اسكت يا عاجز أنا أعشق بل أنا معشوقة في كل ناد، والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيساً ظريفاً.
قال أحمد بن حمدون: وقع بين عريب وبين محمد بن حامد خصام وكان يجد بها وجدا مفرطا فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه كما لها عنده من الحب فلقيته يوما فقالت له: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى والله مما كان وأشد لوعة. فقالت: استبدل بديلا فقال لها: لو كانت البلوى بالخيار لفعلت فقالت: لقد طال إذا تعبك. فقال: وما يكون أصبر مكرها أما سمعت قول العباس بن الأحنف:
تعب يكون مع الرجاء بذي الهوى
…
خير له من راحة في الياس
لولا كرامكتم لما عاتبتكم
…
ولكنتم عندي كبعض الناس
فلما سمعت ذلك ذرفت عيناها واعتذرت وعاتبته واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه من صدق المودة وحسن المعاشرة.
وقال ابن المراكبي: قالت لي عريب: حج بي أبوك وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وجميع ما أسمعه منهم فوقف علينا شيخ من الأعراب يسأل فاستنشدته فأنشدني:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
…
وقد يكون شباب غير فتيان
فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر فقال لي: هو يتيم، فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول ومولاي لا يعلم بذلك لأنه كان ضعيفا، فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي: ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك: إنه يتيم أنشدينيه إن كنت حفظتيه فأنشدته وأعلمته أني غنيت به ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح بالصوت فرحا شديدا. وقال ميمون بن هارون: إنه كان في مجلس جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى وعلي بن يحيى وبدعة جارية عرب وتحفة وهما تغنيان فذكر علي بن يحيى أن الصوت لغير عريب وذكر أنها لا تدعيه وكابر في ذلك فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب ونحن لا نعلم يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة فكتبت إليه بخطها بعد البسملة:
هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم
…
وللعزب المسكين ما يتلمس
أنا المسكين وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيه وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني (تغني بذلك جاريتها تحفة وبدعة) فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك هناكم الله وأبقاكم، وسألت مد الله في عمرك عما اعترض فيه فلان في هذا الصوت والقصة فيه ما هو كذا وذكرت القصة بتمامها مع الأعرابي ولما وصل الجواب إلى جعفر بن المأمون قرأه وضحك، ثم رمى به إلى أبي عيسى وقال: اقرأ وكان علي بن يحيى إلى جانبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته وقمت إلى ناحية وقرأتها فأنكر ذلك وقال: ما هذا فوارينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان مبغضا لها.
وقال أحمد بن الفرات عن أبيه أنه قال كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك: