الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نوار بنت أعين بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال المجاشعي كانت أحسن نساء زمانها وجها وأجملهن خلقا، وأفصحهن منطقا. وكانت ذات أدب زائد، ومعرفة تامة بالأوابد، مكرمة عند قومها مسموعة الكلمة فيهم تزوج بها الفرزدق -الشاعر المشهور- رغما عنها. قيل: إن سبب زواجها به أنه كان خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيت به وكان الفرزدق وليها وهو ابن عمها، فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل. فقال لها: لا أفعل إلا أن تشهدي بأنك قد رضيت بمن أزوجك به ففعلت.
فلما توثق منها قال: أرسلي إلى القوم أن يأتوا، فجاء بنو عبد الله بن دارم فلما اجتمعوا في مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى عبد الله بن الزبير حين أعياها أهل البصرة أن لا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود، وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة فلم تجد من يحملها إليه، وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة ويقال لهم: بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم ليحملنها، فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار. وقال:
لولا أن يقول بنو عدي
…
ألم تك أم حنظلة النوار
أتتكم يا بني ملكان عني
…
قواف لا تقسمها البحار
وقال فيهم أيضا:
لعمري لقد أردي النوار وساقها
…
إلى اليوم أحلام خفاف عقولها
أطاعت بني أم النسير فأصبحت
…
على قتب يعلو الفلاة دليلها
وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى
…
به قلبها الأزواج خاب رحيلها
وإن امرأ أمسى يخبب زوجتي
…
كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
ومن دون أبواب الأسود بسالة
…
وبسطة أيد يمنع الضيم طولها
وإن أمير المؤمنين لعالم
…
بتأويل ما أوصى العباد رسولها
فدونكها يا ابن الزبير فإنها
…
مولعة يوهى الحجارة قيلها
وما جادل الأقوام من ذي خصومة
…
كورها مشنوء إليها حليلها
فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير، فلما قدم الفرزدق إلى مكة اشرأب الناس غليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه فكان مما أنشدهم قوله:
أمسيت قد نزلت بحمزة حاجتي
…
إن المنوه باسمه الموثوق
بأبي عمارة من وطئ الحصى
…
وجرت له في الصالحين عروق
بين الحواري الأغر وهاشم
…
ثم الخليفة بعد والصديق
وقال أيضا:
يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت أنصاره بمكان غير ممطور
فأنت أحرى قريش أن تكون لها
…
وأنت بين أبي بكر ومنظور
بين الحوراي والصديق في شعب
…
صبتين في طلب الإسلام والخير
ثم شفعوه إلى أبيهم فجعل يقبل شفاعتهم في الظاهر حتى إذا جاء إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك:
أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم
…
وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا
…
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فبلغ ذلك ابن الزبير فدعا بالنوار فقال: إن شئت فرقت بينكما أقتله فلا يهجونا أبدا، وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فيقتل فقالت: لا أريد واحدة منهما. فقال لها: إنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه، فقالت -وقد فضلت عذابها على هلاكه-: نعم قد رضيت. فدعا بالفرزدق.
وقال له: جئني بصداق النوار وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع وأنك تحكم علي لتثب عليها وتصطفيها لنفسك، وكان ابن الزبير حديدا. فقال لها: هل أنت وقومك إلا جالية العرب. ثم أمر فأقيم الفرزدق من مجلسه وأقبل على من حضر فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فأجمعت العرب بما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة، ثم حتم على الفرزدق إن لم يحضر صداقها ليقتلنه شر قتله فبلغ ذلك الفرزدق فقال: إن ابن الزبير يعيرنا بالجلاء ثم قال:
فإن تغضب قريش ولتغضبي
…
فإن الأرض توعبها تميم
هم عدد النجوم وكل حي
…
سواهم لا تعد لهم نجوم
ولولا بيت مكة ما ثويتم
…
بما صبح المنابت والأروم
بها كثر العديد وطاب منكم
…
وغيركم أخيذ الريش هيم
فهلا عن تعلل من غدرتم
…
بخونته وعذبه الحميم
فعبد الله مهلا عن أذاتي
…
فإني لا الضعيف ولا السؤم
ولكني صفاة لم تدنس
…
تزل الطير عنها والعصوم
أنا ابن العاقر الخور الصفايا
…
يضنوا حين فتحت العلوم
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير فأسره في نفسه وخرج يوما للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فعمد إلى عنقه
فكاد يدقها.
وقال له: لا بد أن تنفذ حكمي فتركه لا يعي ما يفعل، فقيل له: عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فذهب إليه وقص عليه قصته.
فقال له: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف دينار فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق في ذلك:
دعي مغلق الأبواب دون فعالهم
…
ولكن تمشي بي هبلت إلى سلم
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله
…
ويفعل أفعال الرجال التي تمني
ولما ذهب إلى ابن الزبير ونقده المال سلمها له ومالها معها فقال الفرزدق: خرجنا ونحن متناغضان فعدنا ومحن متحابان وأنشد يقول لها:
هلمي لابن عمك لا تكوني
…
كمختار على الفرس الحمارا
فجاء بها إلى البصرة فقال جرير:
ألا لا تلم عرس الفرزدق جامحا
…
فلو رضيت رمح استه لاستقرت
فقال الفرزدق مجيبا له:
وأمك لو لاقيتها بي مرة
…
وجاءت بها جرف إستها لاستقرت
وقيل: إنها لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم فقال فيها:
بني عاصم لا تجنبوها فإنكم
…
ملاجئ للسوءات دسم العمائم
بني عاصم لو كان حيا أبوكم
…
للام بنيه اليوم قيس بن عاصم
فبلغهم ذلك الشعر وقالوا له: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة: وكانت النوادر دائما تتخاصم معه وتغضب منه وتنفر عنه ومكثت معه زمانا طويلا، وهي في نكد وعدم راحة.
وكانت عندما تغضب منه تقول: ويحك أنت تعلم إنك إنما تزوجتني ضغطة وخدعة علي ولم تزل في كل ذلك على مضض حتى حلفت اليمين الموثق، ثم حنثت بها وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها: جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لجرير بن عباد بن ضبيعة فجعل يأتي النوار وبه ردغ وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجها إلا هدادية؟ -تعني حيا من بني أزد بن عمان- فقال الفرزدق:
تريك نجوم الله والشمس حية
…
كرام بنات الحارث بن عباد
أبوها الذي قاد النعامة بعدما
…
أبت وائل في الحرب غير تمادي
نساء أبوهن الأغر ولم تكن
…
من الأزد في جاراتها وهداد
ولم يك في الحي الغموض محلها
…
ولا في العمانيين رهط زياد
عدلت بها مثل النوار فأصبحت
…
وقد رضيت بالنصف بعد بعاد
ولم تزل النوار بالفرزدق ترفق به وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها أن لا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج غيره بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له.
وأخذت عليه أن يشهد الحسن