الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فغنت فغشي عليه ثم أفاق فقال: غني قول المجنون:
عرضت على نفسي العزاء فقيل لي
…
من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائيا
…
فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
فلما غنت قام فألقى نفسه من شاهق فمات. فقال عبد الملك: لقد عجل على نفسه، أيظن أني أخرجت جارية وأعود فيها خذها يا غلام فأعطها لورثته. أو فتصدقوا بها عليه، فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة معدة للسيل فجذبت يدها من الغلام وهي تقول:
من مات عشقا فليمت هكذا
…
لا خير في عشق بلا موت
وأقلت نفسها في الحفيرة فماتت.
السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي الطالب
قال المقريزي: إن أمها أم ولد تزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر فولدت له ولدين: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا وبعده تزوجت بالحسن بن زيد فولدت له نفيسة، وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه فيقال: إنها حجت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره، وكانت لا تأكل إلا في كل ثلاث ليال أكلة واحدة وذكر أن الإمام الشافعي رضي الله عنه زارها من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي وكان (ب) صحبته عبد الله بن عبد الحكم وماتت رضي الله عنها بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين. وقيل: إنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعي رضي الله عنه وقد توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين للهجرة ودفنت في منزلها المعروف بخط درب السباع بمصر ويقال: إنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه مائة وسبعين ختمة وإنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة)(الأنعام: 12) ففاضت نفسها مع قوله تعالى: (الرحمة)(الأنعام: 12)، وكان سبب دخولها إلى مصر كما قال ابن خلكان: إنها دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر وقيل: مع أبيها الحسن، وإنها لما استقر بها المقام ودخل الشافعي إلى مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم وهو إلى الآن باق كما كان، ولما توفي الإمام الشافعي أدخلت جنازته إليها وصلت عليه في دارها. ولما ماتت عزم زوجها على حملها إلى المدينة فسأله المصريون بقاءها عندهم ودفنت في الموضع المعروف بها الآن.
وقال الشيخ محمد الصبان في كتابه إسعاف الراغبين إن السيدة نفيسة رضي الله عنها ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة والزهد وكانت ذات مال ولما ورد الشافعي إلى مصر كانت
تحسن إليه وربما صلى بها في رمضان. ولما قدمت مصر كانت بها بنت عمها السيدة سكينة ولها بها الشهرة التامة فخلعت عليها الشهرة، فصار للسيدة نفيسة القبول التام بين الخاص والعام، وماتت وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت: وا عجباه لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن هذا لا يكون؟! ثم قرأت سورة الأنعام. فلما وصلت إلى قوله تعالى: (لهم دار السلم عند ربهم)(الأنعام: 127) ماتت ودفنت بمدفنها المشهور الآن.
وقال السخاوي في كتاب المزارات إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة، وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس، فزارت قبر الخليل إبراهيم، وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائة وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم تلقاها الرجال والنساء من العريش، ونزلت أولا عند كبير التجار بمصر وهو جمال الديم عبد الله بن الجصاص وكان من أصحاب المعروف والبر، فأقامت عنده شهورا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرك، ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم وسبب ذلك أن بنتا يهودية زمنة تركتها أمها عندها وذهبت إلى الحمام فقدر الله شفاءها على يد السيدة رضي الله عنها وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السبعين نفرا، ولما شاع ذلك لم يبق أحد في مصر، إلا قصد زيارتها وكثر الناس على بابها فطلبت الرحيل إلى بلاد الحجاز فشق على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبت، فركب إليها السري بن الحكم وسألها الإقامة فقالت: إني امرأة ضعيفة وقد شغلوني عن عبادة ربي ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف. فقال لها السري: أما ضيق المكان فإن لي دارا واسعة بدرب السباع فأشهد الله أني قد وهبتها لك وأسألك أن تقبليها مني، وأما الجموع الوافرة فقرري معهم أن يكون ذلك يومين في كل أسبوع وباقي أيامك في خدمة مولاك فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفيت. وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم وقيل: إن الحنفي كان يقول عند زيارتها السلام والتحية والإكرام من العلي الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة وابنة علم العشرة الإمام حيدرة السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم أخي الإمام الحسين سيد الشهداء المظلوم السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء وسلالة خديجة الكبرى -رضي الله تبارك وتعالى عنك وعن جدك وأبيك- وحشرنا في زمرة والديك وزائريك. اللهم بما كان بينك وبين جدها ليلة المعراج اجعل لنا من همنا الذي نزل بنا انفراج، واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها:
يا رب إني مؤمن بمحمد
…
وبآل بيت محمد بتوال
فبحقهم كن شافعا لي منقذا
…
من فتنة الدنيا وشر مآل
وكان بعضهم يقول أيضاً:
يا بني الزهراء والنور الذي
…
ظن موسى أنه نار قبس
لا أوالي قط من عاداكم
…
أنهم آخر سطر في عبس
وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركا بمقامها المنيف، فمنهم ذات الحجاب المنيع والقدر الرفيع، والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أنشأت رباطا بجوارها والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة وشيد بناءه، ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس المعروف بالأسمر في سنة إحدى وسبعمائة أمر السلطان الناصر أن يدفن بالمشهد النفيسي فدفن هناك وأقيمت عليه قبة.
ومن النوادر التي حصلت في مشهد السيدة نفيسة كما قال الجبرتي في تاريخه والأمير علي باشا مبارك في خططه أنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف اجتمع الخدام في المشهد النفيسي بواسطة كبيرهم الشيخ وأظهروا عنزا صغيرا وزعموا أن جماعة أسرى من بلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا ذلك العنز لذبحه في الليلة التي يجتمعون فيها للذكر والدعاء ويتوسلون في خلاصهم من الأسر، فاطلع عليهم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز فرأى في المنام رؤيا هائلة فاعتقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين فحضروا إلى مصر ومعهم العنز فذهبوا بها إلى المشهد النفيسي وكثرت فيه الخرافات وتقاويل الناس فمن قائل: إنهم أصبحوا وجدوها عند المقام. ومن قائل: فوق المنارة. ومن قائل: سمعناها تتكلم. ومنهم من يقول: السيدة أوصت عليها وأن الشيخ سمع كلامها من القبر، ثم بعد هذه الشهرة أبرزها الناس وجعلها بجانبه وجعل يقول من الخرافات التي يستجلب بها قلوب الناس ويجمع بها الدنيا وتسامع الناس بذلك وأقبلوا من كل فج رجالا ونساء لزيارتها، وأتوا للشيخ بالنذور والهدايا، وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر، فأتوه من كل جانب بالقناطير من ذلك وعلموا للعنز القلائد والأطواق الذهبية، وافتتنوا بها وشاع ذلك الخبر عند الوزراء والأمراء وأكابر النساء فجعلن يرسلن كل على قدر مقامه من النذور، وازدحمن على زيارتها فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يتلمس منه الحضور إليه بالعنز ليتبرك بها هو وحريمه فركب الشيخ بغلته والعنز في حجره، وصحبته الطبول والبيارق والجم الغفير من الناس حتى دخلوا إلى بيت ذلك الأمير علىتلك الحالة، وصعد بها إلى المجلس وعنده كثير من الأمراء فتملس بها وأمر بإدخالها إلى الحريم للبركة، وكان قد أوصى بذبحها وطبخها، فلما ذبحوها وطبخوها أخرجوها مع الغداء فأكلوا منها وصار الشيخ يأكل والأمير يقول: كل يا شيخ من هذا التيس السمين. فيقول: والله إنه طيب ونفيس، وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون، فلما أكلوا وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أن الذي كان بين يديه وأكل منه هو العنز، فبهت الشيخ عند ذلك ثم بكته الأمير ووبخه وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته، وأن يذهب به كما جاء بموكبه وبين يديه الطبول والأشائر ووكل به من