الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحد من الآخرين قطعة واحدة وبعد ختم القراءة ينشد رجل حسن الصوت عارف بالموسيقى قصيدة نبوية، وله في اليوم قطعتان.
ويرتب قارئ حسن الصوت يقرأ على الكرسي الذي في الجامع سورة (يس) بعد صلاة الصبح، وله في اليوم قطعتان. وآخر يقرأ سورة (عم) بعد صلاة العصر، وآخر يقرأ سورة (تبارك) بعد صلاة العشاء ولك منهما قطعة واحدة، ويترب رجلان لغلق أبواب الجامع وشبابيكه ليلا وفتحها صباحا مع الملاحظة والتعهد للجامع بالتنظيف ونحوه، ولكل منهما قطعتان.
ويرتب رجل نظيف نزه لتبخير الجامع بلا تبذير ولا تقتير وله في اليوم قطعة واحدة، ولشراء البخور قطعتان، ورجل أمين لحفظ المصاحف الشريفة التي بالجامع وله في اليوم قطعة. ورجل زاهد يكون مراقبا وله في اليوم قطعة واحدة.
ويرتب وقادان صالحان يحفظان الشموع والقناديل ويتعهدان بالنظافة للإيقاد والإطفاء بالأوقات المعلومة مع الاحتراس التام من تلويث الحصر والبسط، ولكل منهما قطعتان.
ويترب رجلان قويان برسم الفرش والكنس والتنظيف في داخل الجامع، واثنان برسم تنظيف الميضأة والأخلية مع عدم التساهل ولكل واحد من الأربعة قطعة واحدة.
ويتب رجلان عارفان بغرس الأشجار والرياحين وإصلاحها وسقيها برسم خدمة البستان الكائن أمام الجامع ولكل منهما في اليوم قطعتان.
ويرتب رجلان قويان برسم سقي الأشجار ولكل منهما في اليوم ثلاث قطع. ويرتب رجل ماهر في التعمير والترميم يتولى إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه.
ونصت الواقفة - المذكورة- على ترتيب شخص قارئ في مسجد المدينة المنورة يتلو كل صباح سورة (يس) ويدعو لها. وعلى ترتيب رجل صالح لخدمة قبر سيدنا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بالشام من إيقاد القناديل وغلق الأبواب وفتحها ونحو ذلك. وأن ترسل إلى القبر - المذكور - شمعتان من الإسكندري خمسة أوقات، ومثل ذلك إلى حرم مكة المشرفة، ومثله إلى الروضة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحيات.
حرف الضاد
ضياء ابنة الوزير فرنان وزير جزيرة صقلية
كانت ذات جمال بارع وعقل وأدب يفوق أهل زمانها وترجع على أقرانها بالظرف والرقة، وكان للملك المهرجان ملك تلك الجزيرة ابنا أخ يقال لأحدهما:(ألفونس) والآخر (دون لوزريق) فتوفي والدهما وتركهما تحت كفالة عمهما الملك المهرجان، فضم الأكبر إليه وعهد بالآخر - وهو ألفونس - إلى الوزير والد ضياء وكان للملك أخت يقال لها:(بوران) فتوفيت عن بنت يقال لها: (سلطانة) ، فأخذ يعتنبي بتأديبها، وأقام لها الخدم الكثير والمؤدبين من رجال ونساء، وكان للوزير (فرنان) قصر في ضواحي (بلرمة) حاضرة الدولة فأخذ (ألفونس) إليه وأحسن تأديبه، وتوسم فيه من الذكاء والنبالة ما حمله على استمرار التحفظ به، وكانت ضياء أصغر من (ألفونس) بسنة.
فلما نشأت ضياء معه وصارت هي في صباها وصار هو في صباه وقع بينهما حب كأشد ما يكون وعملا الجهد كله على أن لا يدعا الوزير يفطن لشيء من أمروهما حتى اتفق أن الوزير سافر بأمر الملك يجول في أنحاء المملكة ليتفقد أحوال الرعية ورد المظالم إلى أهلها، فاغتنم (ألفونس) فرصة غيابه، وأخذ في فتح باب في الجدار الذي كان قائما بين مقصورته ومقصورة ضياء وجاء بنجار ودفع له مالا كثيرا حتى يحسن عمله ويبقي السر مكتتماً في صدره، فاتخذه بين الرسوم التي كانت تغشي الجدار على إحكام ليس
في الإمكان أصح مما كان، بحيث إذا أغلق لم يفطن الرائي أن في ذلك الجدار بابا لكثرة ما هناك من النقوش والتخاريم.
فلما حقق (ألفونس) بغيته فيما أراد من وصوله إليها سرا أصبح يدخل عليها في أكثر الأيام ويبيت معها في حديث وتقبيل وملاعبة ليس غير لأنها شرطت عليه حين أذنت له بفتح الحائط أنه يدخل عليها لمبادلة الحديث بينهما فقط لا لشيء غير ذلك.
فلما دخلي عليها في بعض الأيام رآها ضيقة الصدر حزينة النفس فانكمش لذلك وسأل قهرمانتها عن الأمر الذي أوجب كدرها وكآبتها فقالت: وصل إليها يا سيدي أن الملك عمك انطرح على فراش الموت فقدرت أنك إذا توسدت الملك وصار إليك أمر الأمة فقد أشغلك العز والنعيم وأسكرتك العظمة والقدرة عن التفطن لها والقيام بعهودك إليها فلم يدعها تختم كلامها حتى دخل على بنت الوزير وقال لها: يا سيدتي، كأني أرى الكدر مرسوما على وجهك الفتان، فبالله إلا صدقتيني.
فلما رأته هيج الشوق بكاها، واغرورقت عيناها بالدموع، وكاد لا يأتيها الكلام، فسكتت قليلا، ثم قالت: لا شيء يوجب لي الكدر غير أني يا سيد وأمير الناس عمك المهرجان قد احتضرته الوفاة فإذا تبوأت الأريكة موضعه أشغلك أمر الأمة دوني، وصرفك اقتدارك عن النظر إلي لأني سمعت عن الأمراء أنهم إذا راموا حال ولاية عهدهم أشياء تطلبها أنفسهم ونالوها فإنهم يغضون عنها بعد جلوسهم على أريكة الملك وإني لو أمنت من وجهتك على وفائك بحق الوداد، فلم آمن من وجهة طالعي أن لا يخون سعادتي بك.
فلما سمع كلامها كادت تنفطر مرارته رحمة عليها وقال لها: يا سيدة الملاح إن تمكن اليأس منك على غير موجب لمما يفتت قلبي شفقة عليك وإن تصورك الخيانة في بصرف قلبي عن حبك لمما يزيل ذل العشق ويجرح خاطري، ولكن رجائي إليك أن تصرفي هذا الحزن وتعلمي أن سعادتي وفخري لا يتمان إلا بك. فقالت: أيها الأمير لا يبعد أنك إذا علوت السرير طلب إليك الوزراء والأشراف أن تتأهل بأميرة من بنات الملوك لتزيد عظمتك افتخارا ومجدا، ربما خانني دهري بأن يجعلك مجيبا لمسائلهم، فانتفض عرق الحدة بين عينيه وقال: لم تجلبين الكدر والقنوط لنفسك يا حبيبتي على غير طائل، فإني أقسم بالله إني إذا وليت الملك تزوجت بك على محضر من الأمراء والملوك.
فلما سمعت ضياء قسمه هدأ روعها واطمأنت نفسها وأخذا يتجاذبان أذيال المذاكرة عن مرض الملك المهرجان، وكان يظهر من كلام (ألفونس) أنه تكدر لوفاة عمه مع أن أميرا غيره كان يسر من وفاة ملك يورثه ملك الدولة، ولاسيما إذا كان عليه ثأر فباتت ضياء بعد قسم (ألفونس) بوفاء عهده إليها في راحة وأمن ودعة، وهي لم تعلم بالخطب الذي كان يحدق بها من جهة أخرى فإن وزير الدولة الثاني المعروف بالمركيس قد كان رآها في بعض الأيام ففتن جمالها عقله وخطبها من أبيها فوعده بأن يزوجها إليه، ثم اتفق أن الملك مرض فأخر الزفاف إلى أجل مسمى، وأمر الوزير (فرنان) جماعته أن لا يعلموا (ألفونس) ولا ابنته بشيء من ذلك الأمر.
فلما كان (ألفونس) صباح يوم جاءه الوزير ومعه ابنته ضياء، وقال له بعد السلام: يا سيدي إن الخبر الذي حملته إليك يكدر صفو خاطرك، ولكن البشارة التي أتبعه بها تسر خاطرك، وترفع مقامك.
فاعلم أيدك الله أن المهرجان عمك قد مات وأوصى إليك بالولاية بعده، فهنأته بالعطية وخفق لواء سعدك على أنحاء بلادك منصورا وأن الأشراف والأمراء والقواد قد اجتمعوا ببابك ليقدموا لجلالتك خالص التهنئة بما أعطاك الله، فلما سمع كلامه لم يخامر التعجب نفسه لأنه كان عالما بمرض عمه ودنو أجله من قبل ذلك بشهر وأيام وإنما صار صدره بعد سماع كلامه ميدانا تتسابق فيه الأفكار وتضطرب فيه الخواطر ففكر ساعة ثم قال: يا أبت، إني أتخذك وزيرا لي أعتمد في الأمر على حسن آرائك المباركة لأني رأيتها
تحسم النوازل كأنها سكاكين في مفاصل الخطوب، ويكون لكلامك نفوذ كأبلغ مما كان لأيام عمي رحمه الله، ثم انحنى على مائدة هناك ووضع ختمه على قرطاس وسلمه إلى ضياء، وقال لها: يا سيدتي، خذي هذا القرطاس واكتبي فيه ما أردت فوق الختم وهو يدلك على أني راض بكل ما تشائين وأن عشقك قد بلغ مني مبلغا لا سبيل إلى التعبير عنه بالقلم ولا باللسان، فلما سمع (فرنان) كلامه أخذه العجب منه لغفلته عن إدراك عشقهما قبل ذلك، وسلمت ابنته القرطاس إليه وقد قالت للملك - وفي وجنتيها احمرار الخجل -: يا سيدي إني أقتبل النعمة التي يمطر جلالة الملك علي خبرها بشكر لا مزيد عليه ولكن لي أب لا أعزم على أمر إلا بمشيئته، فأنا أسلم الرقعة إليه وهو يكتب فيها ما يشاء بحكمته ودرايته فقال الوزير للملك: يا سيدي إني أكتب في هذه الرقعة ما تسومني شكرا عليه فيما بعد.
فقال له: اكتب بها ما أردت أيها الحكيم الفاضل فإنك لطيف النظر، ولكن أسرع الآن إلى (بلرمة) وخذ مبايعة الجند والأمراء وبلغهم سلامي وقل لهم: إني أسير إليهم بعد وصولك بقليل فما كاد يتم كلامه أن انصرف الوزير وابنته وركبا العربة إلى (بلرمة) ، وهي تبعد أميالا قليلة عن موضع القصر.
وأما الملك (ألفونس) فإنه بعد انصراف الوزير بساعة ركب جواده وقصد مدينة (بلرمة) لينزل من قصر السلطنة وباله مشغول بالعش، فلما رآه الناس ارتفع فيهم الدعاء له وأصوات الفرح والسرور حتى دخل مجلسه في القصر، فرأى (سلطانة) بنت (بوران) عمته في ثياب السواد، فعزاها وعزته، ثم ارتفع على السرير وجلست هي على كرسي دونه وقد ظهر أنها تحبه في قلبها مع أن العداوة بين أمها وأبيه كانت من أشد ما يكون، ثم جلس الأمراء والقواد على كراسي ووسائد زينت لهم، وقام فيهم (فرنان) الوزير خطيبا، وتلا وصية المهرجان إليهم.
يقول: في بعضها إنه لما لم يرزقني الله ولدا يلي الملك بعدي فإني أجعله أربا إلى (ألفونس) ابن أخي على شرط أن يقترن بسلطانة ابنة أختي فإن أبى ذلك فيصير الملك إلى أخيه (دون لزريف) على الشرط عينه وهذه وصيتي إلى الأمراء والقواد.
فلما وعى (ألفونس) ما في وصية عمه كاد ينخلع قلبه من الغم والهم والكدر، وما لبث الوزير أن أتبع تلاوة الوصية بقوله للحضور: أيها الأمراء إنه لما بلغت جلالة الملك مرام عمه المهرجان من زف (سلطانة) إليه لم يتردد ساعة في قبول ذلك، فازداد غم (ألفونس) حتى بان الكدر في وجهه وقال للوزير: ولكن اذكر يا (بهرام) القرطاس الذي سلمته إلى ابنتك ضياء فأجابه الوزير - وقد رفعه على مشهد من الأمراء -: ما كتب في هذا القرطاس: هو وعدك بأن تقترن بابنة عمتك وتتم كل ما ذكر في وصية عمك، ثم فتحه وقرأه على مسمع من الأمراء والأعيان فسروا من حسن عواطف الملك، وارتفعت أصواتهم بالدعاء له وهم غافلون عما كان في نفسه حتى إذا تفرق جمعهم إلا قليلا وتباعدت (سلطانة) التي ما فتئت تبث إليه هيامها به، وهو لا يعقل من شدة اضطراب عقله قال للوزير (فرنان) : أنت خنتني وحق السماء وإنما كان الواجب عليك أن تكتب في القرطاس ما كان من الاتفاق والعهود بيني وبين ابنتك.
فقال له الوزير: يا سيدي تمعن في الأمر فإن أنت خالفت وصية عمك المهرجان فقد بخست نفسك حقها وأضعت الملك من بين يديك قال هذا وابتعد عنه حتى لا يسمع جوابه فغضب الملك غضبا شديدا وبات بين اعتمادين في نفسه.
فإما أن يعتزل عن الملك، وإما أن يقترن بابنة عمته ففكر في ذلك برهة فوقع في ذهنه أن زفافه بابنة عمته لا يكون إلا ببراءة من لدن البابا تأتي بعد شهر أو شهرين وأنه في تلك المدة يولي المراتب العظيمة من يأمن خيانته من الأمراء والقواد حتى إذا نفذ الوصية لم يتفقوا على خلعه وبات أمر الأمة في يده.
فلما وقع هذا الرأي في نفسه سكن روعه واطمأنت نفسه وحقق
بغيته بما أراد من الاقتران بضياء حبيبته، ولم يطلع أحدا من الناس على ذلك، وكان يخابر (سلطانة) بالكلام اللطيف ويسبك كلام (بهرام) في أنه يحب الاقتران بها حتى لا تهب إعصار الفتنة قبل تداركه إياها بالحيلة.
ولكن كان من نكد الحظ أنه بينما يحدث (سلطانة) ويعد باقترانها به إذ دخلت ضياء مع أبيها وقد وقع كلامه في أذنها فاصفر لونها واستحوذ عليها شيء شبيه بالغمائم قال لها أبوها بحضرة (سلطانة) : يا بنية، قدمي احترامك إلى ملكتك وادعي الله أن يطيل عمرها ويجعل أيامها بالسعد مقبلة، فتأكدت من كلام أبيها ما سمعت من كلام الملك وأخذتها رجفة شديدة لم يكن لها حيلة في إخفائها. فأما (سلطانة) فظنت أن اضطرابها إنما هو ناشئ عن عزة الملك الذي لم تره قبل ذلك، وأما الملك فإنه عرف سبب ألمها وكدرها لما كان من وقوع وعده ابنة عمته في أذنها، وصار بنفسه الاضطراب مثل ما صار بها، وأحب لو مكنته الظروف من الاجتماع بها حتى يعلمها بأن وعده لسلطانة إنما هو حيلة منه لا خيانة بودها، ولكن لم يكن من سبيل إلى التحدث سرا معها إذ كانت عيون الأعيان متجهة إليه هذا ما كان من أمر الملك.
وأما ضياء فإن أباها لما أنس جزعها وقنوطها، ورأى الملك منقبضا إلى اليأس صار بها على الفور إلى قصره وقد أعلمها بأنه سيزوجها إلى المركيس، فلما سمعت كلامه بلغ الحزن من نفسها ووقف الدم على قلبها، فوقعت بين يدي أبيها مغشيا عليها وقد ضعفت قواها وتغير لونها حتى كأنها الميت المدرج في كنفه فرق قلبه عليها وتداركها بماء الورد حتى أفاقت. فقالت: يا أبتاه الشفيق يخلجني أني أطلعتك على اشتغال قلبي بهوى الملك، ولكن الموت الذي يوافيني بعد قليل سيرفع عنك أكدارا جلبتها عليك ابنة منكودة الحظ فقال لها: لا تقنطي يا بنية، فما الوزير الذي أزوجك منه إلا أعظم رجل في الدولة، وأجله خطرا. فقالت: صدقت يا أبت وإني أقر بفضله وكرم أخلاقه وسجاياه غير أن الملك كان يؤلمني بأن أكون له عروسا. فقال لها: لقد علمت اليوم كل ما كان بينك وبينه، وأنا لا أعذبك على ذلك، ولكن من حيث قد قام بين الوعد وإنجازه مانع لا يقوى الملك على إزالته إلا بخسران الملك من يده فاعملي على صرف آمالك وكفكفي دموعك حتى لا يقال في دار الملك: إن حبه قد علق فؤادك، ولا تؤملي بأنه يتخذك زوجة له إذ أنه اشترى بك الملك والسلطنة. واعلمي بأني وعدت الوزير (المركيس) بأن أزوجه منك فانجزي وعدي إليه ولا تخيبي أبا يتقدم إليك بالضراعة والطلب قال هذا وانصرف إلى مجلسه وهو مؤمل بأنها إذا فكرت فيما نطق به إليها لبت طلبه ورضيت بأن تصير زوجة للمركيس الوزير.
فلما خلا المكان لضياء أسبلت الدمع من عينها وغلب عليها اليأس وخامرها كمد لا يعبر عنه اللسان لما كان من تحققها خيانة الملك بدليل الكلام الذي سمعته من فمه، وما كان من إكراه أبيها لها على تزوجها من المركيس الذي لا تقدر أن تحبه، فظنت أن الموت لا يبعد أن يفاجئها بعد ذلك، ثم صاحت:(تبا لك أيتها الآمال التي عللت نفسي بها، ثم ألقتني في وهدة الألم والحسرات، وأنت أيها العاشق الخائن لم علقت امرأة غيري بعد تقدمك إلي بالقسم والعهد فلا هناك الله بهذا الملك الجديد، ولا بوركت بهذا الزمان الذي ثلمت فيه اليمين بعد توثيقها إلي ولتكن لحظات (سلطانة) إليك حنقا عليك، وليكن ريقها كسم قتال ينحدر إلى جوفك ليبدلك الله بنعمتك شقاء مثل الشقاء الذي أذوق مرارته. واعلم أيها الخائن من حيث إن ديني لا يحل لي قتل نفسي بيدي فإني سأنتقم من نفسي بأن أتزوج بالمركيس الذي لا أحبه حتى إذا كان عشقي باقيا في فؤادك أسفت وتحرقت لتسليم نفسي إلى رجل غيرك، وإن كان ذكري قد برح من خاطرك فأكون
على الأقل قد انتقمت من نفسي لأجل أنها أشغلت قلبها بحب رجل خائن مثلك) .
قالت هذا الكلام والدمع يجري من عينها وهي في حالة من القنوط لم تنفك عنها النهار ولا الليل بطوله، فلما أصبحت دخل عليها أبوها وعلم منها أنها عازمة على الاقتران بالمركيس، فاغتنم هذه الفرصة أن جاء به وزوجها منه سرا في كنيسة القصر، فكانت حالتها في ذلك اليوم تستبكي الحجر رحمة عليها إذ لم يكفها مصابا بأنها فقدت الملك وجفاها حبيبها الرفيق، وتزوجت برجل لا تميل إليه حتى إنه وجب عليها أن تكتم حزنها في قلبها بحضرة هذا الزوج الذي هام بحسنها وجمالها، ومازال جاثيا على الأرض بين قدميها إلى آخر النهار، غير تارك لها فرصة تبكي فيها على انفراد ما حاق بها من البلاء.
فلما أقبل الليل ودخلت عليها قهرمانتها وزينتها لدخوله عليها خامرها يأس عظيم لم يسعها كتمانه بحضوره، فتقرب منها بتذلل وسألها عن سبب كدرها فحاولت إخفاء الأمر عليه وقالت: إن نفسها منقبضة في تلك الليلة ليس غير، فزم عليها أن ترقد في السرير، فأبت إلا الجلوس مكانها على المقعد وأخذت تفيض من عينيها دموعا كثيرة فتعجب لذلك عجبا شديدا وأتاه أن من جفائها إياه لأمرا يخون عشقه لها ولا يليق بشرفه وعرضه فبات جزعا قلقا وأعمل على أن يبقى اضطرابه كامنا في صدره.
فقال: يا سيدتي، قومي إلى مضجعك وخذي راحة لجسمك والرياضة لعقلك، وإن كنت ترومين آمر القهرمانات بالقيام بين يديك لخدمتك فعلت ذلك إكراما لخاطرك.
فقالت - وقد اطمأنت نفسها وذهب خوفها ووجلها -: إني لا أرى لزوما لقيامهن بين يدي، ولكن أرقد في السرير حتى يغلبني النعاس ويروق ما بي من القلق. وكان المركيس في تلك الليلة متسهدا من شدة جزعه وهو يفكر في نفسه لما كان من ضياء بأن حبيبا قد هام قلبها بحبه، ولكن من هذا الحبيب أمن أمثاله، أو ممن هو أخفض من مراتب الدولة، فلم يعلم ذلك ولكنه رأى نفسه بهذا الزواج أشقى العالمين، ومازال يردد هذه الأفكار في نفسه إلى هدوّ الليل الآخر وإذا بقرقعة خفيفة قد طرقت أذنه وتلاها وطء أقدام خفيفة في المقصورة فظن بادئ الأمر أن ذلك يتراءى له بالوهم لعلمه بأنه كان قد غلق الباب وقفله بيده بعد انصراف القهرمانات، غير أنه أزاح ستار السرير ليرى بنفسه ما كان من هذا الأمر.
فإذا بالمقصورة سودها الظلام لأن السرج الذي كان موقدا قد انطفأ فبقي في موضعه مكتئبا وإذا بصوت منخفض حنون ينادي: يا ضياء فوثب من فراشه مذعورا وبادر إلى سيفه وتقدم إلى جهة الموضع الذي منه سمع الصوت ليمزق صدر الحسود الذي أراد أن يفوز باللذة على مشهد منه فإذا بسيف صلت قد لطم سيفه، فوثب فشعر ما بين ظلام الليل برجل يهرب من وجهه، فلحقه من موضع فلم يقف له على أثر فتعجب ووقف مكانه صاغيا فلم يسمع حركة البتة، فتراجع وجحد موضعه فظن أن ذلك سحر مبين.
ثم تقدم إلى جهة الباب فوجده مقفولا فزاد عجبه وظن أن غريمه يكون مختبئا في موضع من المقصورة ففتحه ووقف فيه لئلا يفر الغريم من وجهه وصاح بخدمه وغلمانه لملاقاته، فبادر جماعة منهم بالسرج والشموع في أيديهم، فتناول شمعة منورة وقلب المقصورة بالبحث والتفتيش وسيفه في يده صلت فلم ير أحدا، ولا رأى منفذا فيه للدخول ولا للخروج، فتحير تحيرا شديدا وكان يغيب عقله عن الصواب، فرام أن يسأل ضياء عن الأمر ففكر أنها وإن عرفت شيئا من ذلك فهي تخفي عليه أمره، فعزم على أن يفاوض أباها في هذا الشأن وسار إليه وقد صرف الغلمان إلى مواضعهم بقوله إنه سمع قرقعة على حين لا شيء من ذلك.
فلما صار على مقربة من غرفة الوزير رآه مقبلا من الباب ليرى ما كان من أمر الضجة والصراخ فأخبره بالقضية فورا وهو لا يعقل لشدة اضطرابه، فلما سمع كلامه تعجب غاية العجب واستحوذ
عليه كدر عظيم وعرف في نفسه الداخل إلى ابنته ليس هو إلا الملك بعينه، ولكن لم يطلع المركيس على ذلك وإنما عمل بعكس ذلك على تهدئة جأشه وتسكين روعه وإقناعه بأن ما سمعه ليس هو بأمر واقعي وإنما هو خيال يزور صاحب الغيرة من العشاق.
فإذا رأوا غير شيء ظنوه شيئا، وأكد له بأن قلق ابنته لم ينشأ عن خوف وخجل خامر فؤادها بتزويجها من رجل لم يكن لها معرفة سابقة به فهي تبكي كمثل ما يبكي غيرها من بنات الخدور من الأشراف اللواتي لا تميل قلوبهن إلى رجالهن إلا بعد المؤالفة الطويلة، ثم إنه حض على حسن الظن بها وأن يرجع إليها وينفي ما أتاه من الأوهام والأفكار، فلم يجبه المركيس بشيء على ذلك لأحد سببين فإما أن يكون اقتنع بأن ما سمعه وشعر به لم يكن إلا وهما تراءى له على حين كان باله قلقا، وإما أن يكون أضرب عن الرد على (بهرم) على حين لا يحصل له من إقناعه بكلامه فائدة، فعاد إلى سريره طلبا لإراحة نفسه بالنوم بعد شدة ما قاساه. هذا ما كان من أمره.
أما ضياء فلما سمعت وطء الأقدام في الغرفة ومناداة الزائر إياها عرفت أنه الملك نفسه فتعجبت منه غاية العجب لما كان من أمره أن يجتمع بها ويجلس إليها على حين وعد (سلطانة) بأن يتزوج بها ويجالسها ويلبسها تاج الملك، فداخل قلبها من مرامه هذا غيظ شديد لأنها حسبت دخوله عليها سرا في الليل إهانة أخرى تتهم شرفها إلى آخر ما فكرت في نفسها من سوء الظنون.
وأما الملك بعد أن انصرفت ضياء من حضرته يوم جلوسه على الملك وهي تظن به أنه أعظم الناس خيانة هام قبله بحبها أكثر من الأيام السالفة ورام أن يجتمع بها ليفصح لها عما خبأه في ضميره وأخذ في الحيل السياسية لأجل التمكن من الاقتران بها، غير أن اشتغاله في تلك الأيام ووفود الأمراء عليه لتهنئته لم يترك له فرصة للمسير إلى قصرها قبل آخر الليل، فدخل البستان وفتح بابا سريا من القصر بمفتاح كان لا يزال في جيبه، ثم طلع إلى المقصورة التي ربي فيها ودخل مقصورة ضياء من الباب الذي فتحه في الحائط.
فلما رأى عندها رجلا وقد لطم سيفه سيفه تعجب غاية العجب من ذلك كأنه لم يكن يعلم بتزويجها من المركيس، وكاد أن يعرفه نفسه في ذلك الوقت ويأمر لحينه بقتل الشقي الذي تطاول عليه برفع السيف لولا أن حبه لضياء منعه صونا لها، وأسف لوقوع هذا الأمر.
وقد عزم على العودة من الغد ليرى ما كان من هذا الرجل من إهانة شرفه وعرض نفسه للتهلكة وذلل عشقه وغرامه، فلم ير لذلك أسهل من الحيلة بالخروج إلى الصيد، فلما طلع النهار أمر جنده وأتباعه بأن يجهزوا له مركبه لذلك فركب إلى غاية القصد وبدأ في مزاولة القنص باجتهاد حتى لا يبقى لجماعته مجال لأن يفطنوا لمقصده من الحيلة.
فلما اشتغل كلهم بالصيد ولحقوا الكلاب التي تطارد الغزلان والمها ركب جواده وسار إلى موضع القصر وهو لم يضل في مسيره لأنه كان يعرف الطرق والمنافذ إليه ولم يسعه اصطباره إلا أنه يركض فرسه ملء مروجه، فلما قطع المسافة التي كانت بينه وبين موضوع عشقه وآماله وهو يفكر في الحيلة التي يمدها للاجتماع بها سرا رأى تحت شجرة على باب القصر امرأتين تتحدثان فخفقت أحشاؤه لعلمه بأنهما من نساء القصر ثم ما لبثنا أن التفتتا إليه لسماعهما طرق أرجل الفرس فتحققهما وإذا هما ضياء وقهرمانة لها أمينة قد صحبتها لتبث إليها شكواها وأحزانها، فترجل عن جواده وقابلها بالتحية والإكرام فإذا بها متقطعة من الحزن فرق قلبه عليها.
وقال لها: يا سيدتي، كفكفي دمعك وأذهبي الحزن عنك فإن ظواهر أمري وإن لم تقم ببرائتي لديك ففي نفسي عزم على الاقتران بك لا أنفك عنه ولو خسرت النعمة التي أتقلب فيها، فلما سمعت كلامه خنقتها العبرة ولم يأتها الكلام فقال لها: لم تتمادين في الأحزان يا سيدتي ولا تعتنين بملك يبيع ملكه حتى
ينعم بك؟ فغصبت نفسها على النطق وقالت: أيها الملك لقد قام دون اقترانك بي مانع لا تقوى عليه. فقال: يا سيدتي لا تسمعيني هذا الكلام الشديد الذي يمزق كبدي فأنا والله لأقلبن البلاد وأصبغها بالدم ولا أفقد نفسي سعادتها من الاقتران بك! فقالت: أيها الملك، إن اقتدارك وعظمتك لا ينفعانك في هذا الوقت، فما أنا اليوم إلا امرأة المركيس الوزير، فلما سمع كلامها غاب عن الصواب ومزق اليأس قلبه وأوقعه في غماء، ورجع الوراء بارتجاف وقد وهت قواه واصفر فألقى نفسه كالقتيل على شجرة كانت وراءه ولبث ينظر بعين آسفة إلى حبيبته ليظهر مبلغ اليأس من هذا الخطب الجسيم والبلاء، فكانت حالته وحالتها في ذلك الحين تستبكي الحمام رحمة بالعاشقين، ثم إنه وقع نفسه بقوة وشجاعة وقال - وهو يتنهد -: يا ضياء، كيف فعلت ذلك لقد أهلكتني وأهلكت نفسك بهذا الحزن.
فلما سمعت كلامه تنغصت منه في نفسها لعلمها أن الخيانة كانت منه لها لا منها له. وقالت: أيها الملك كيف تخونني، ثم تلومني وتعذلني أما كفاك وعدت (سلطانة) ابنة عمتك بالاقتران بها حتى جئت تكذب ما نظرت عيناني وسمعت أذناي فقال: يا سيدتي، لقد قلت لك: إن ظواهر أمري تقضي علي بأني خائن، ولكن ما سمعته من وعدي ابنة عمتي ليس إلا سياسة كنت حمدتني عليها فيما بعد وحققت أن عشقي لك لا يكون في القلوب أعظم منه فقالت: أيها الملك، لقد علقت نفسي بآمال ظننت أنك تحققها لي، ولكن العظمة قد أبعدتك عني فرأيت أنه لا يليق بي أن أضع على رأسي تاج الملكات فأنت أيها الخائن لِمَ لم تنطق إلي بالحقيقة التي عاهدت نفسك على إجرائها يوم أنست قلقي واضطرابي فكنت يوم ذاك شوكت جور الدهر من خيانتك وظلمك وما كنت تزوجت بأحد غيرك.
وأما الآن فإني أستأذن منك بالدخول إلى مخدعي حتى أخلص من هذه المذاكرة التي تهين مجدي وشرفي ولا يحل لي أن أكلمك فيها أو في غيرها بعد أن صرت زوجة للمركيس الوزير، قالت هذا وابتعدت عنه إلى باب البستان. فقال: بالله قفي وارحمي ملكا مغرما يروم أن ينتزع الملك من يده حرصا على ودادك.
فقالت: لقد حال الجريض دون القريض وأنا اليوم لا أقلق لخراب الدولة إن خربتها، ولا اضطرب لزوجتك إن تزوجت بمن أردت.
واعلم بأني وإن أشغلت قلبي بهواك لأعملن جهدي كله في أن أكون خالية منه وأريك أن زوجة المركيس ليست معشوقة الأمير (ألفونس) كما عهدتها، قالت هذا ودخلت البستان وتركت الملك في أشد حسرة لما كان من إعلامها إياها باقترانها بالمركيس فوجم ساعة يفتكر بمصابه وما كان من خيبة آماله حتى كادت الغيرة تقتله فانتفض عرق غضبه وعزم على أن يقتل (بهرام) والمركيس الوزير في ساعته لولا بقية صواب بقيت في عقله وتراءى له فيها أنه إذا جمعه ومحبوبته مجلس سري أزال يأسها وأحزانها وبرأ نفسه من تهمته بخيانتها فلم ير ذلك إلا ببعد المركيس عنها، فرجع إلى قصره وأمر رئيس الشرطة أن يقلي القبض عليه بقوله: أن له في بعض الفتن.
أما المركيس فإنه لما قبض عليه رئيس الشرطة بإذن الملك وضجت المدينة لذلك رأى الوزير أن يذهب إلى البلاط ويتقدم إلى الملك بالشفاعة في صهره، وكان الملك قد عرف ذلك وأن الوزير لابد من أنه سيدخل عليه للشفاعة، فأمر حجابه بأن لا يأذنوا لأحد بالدخول عليه كائنا من كان حتى لا تكون له فرصة لمزار حبيبته قبل الإفراج عن زوجها، ولكن (فرنان) مع علمه بأمر الملك أبى إلا أن يدخل عليه بحيلة من الحيل حتى إذا مثل بين يديه قال له: أيها الملك الشفيق العادل، إن عبدك (فرنان) جاء يشتكي منك إليك فأي ذنب اقترف صهره حتى حل به سخطك ولزمه العار بما أمرت به رئيس شرطتك من القبض عليه؟ فقال: اعلم أيها الوزير الصادق
أن لدي بينات تثبت بأن لصهرك يدا في فتن الدولة ولا أظنه إلا ميالا مع أخي (دون لزريف) يريد أن يبايعه ويخلعني فردد الوزير في نفسه له يد في فتن الدولة ويخلع ويبايع، ثم رفع رأسه وقال: لا وأيد الله جلالة الملك إن الخيانة لم يتعودها أحد من آلي، وكفى بأن يكون المركيس صهرا لي حتى تنتفي عنه هذه التهمة، ولكن أراك قد قبضت عليه لغاية سرية منك! فقال الملك: من حيث إنك تكلمني عن سري فإني أبيح به إليك فاعلم أن الطريق التي اتخذتها بحقي جلبت علي وبالا عظيما وحرمتني لذة ينعم بها أحقر الناس قدرا. واعلم بأني لا أتزوج بسلطانة بنت عمتي. فرجف الوزير من ذلك وقال: لا يصح أيها الملك أن لا تتزوج بها بعد أن واعدتها بذلك على محضر من الأمراء والقواد فقال: ليس الذنب في ذلك علي، وإنما هو واقع عليك لما كان من إكراهك إياي على وعدها بذلك على حين لا رغبة لي فيه ولا إمكان، وما كان من كتابتك القرطاس الذي سلمته إلى ابنتك باسم (سلطانة) لا باسمها وما كان من تزويجك إياها من المركيس بالرغم عنها حتى ولو فرضنا أن طاعتك منها واجبة فما كان أغناك أن تفيدني بوعد لا طاقة لي على إنجازه إلا تذكر أن (سلطانة) إنما هي ابنة (بوران) التي أهدرت دم أبي ظلما وعدوانا أترى في الإمكان أن أجتمع وإياها على فراش واحد لا والله ولكنك ترى صقلية رمادا وسكانها رمما ومتاعها نقارا ومعالمها دوارس من قبل أن أنجز (سلطانة) وعدي باقتراني بها، فلما سمع الوزير كلامه خاف العاقبة.
وقال: أيها الملك العظيم، اخفض عليك غضبك ولا أظن أن حبك لرعيتك يدعك أن تفعل ما تقول وعشقك لابنتي يحملك على إعمال العشاق من العامة، وأنا إنما صاهرت المركيس لكي أجعله من عبيدك المقربين فقال الملك: إن مصاهرتك إياه كانت سببا لما أنا فيه من القلق والاضطراب فلم توكلت بأموري على حين لم تصن رعايتها ولا سياستها أفرأيت في جبنا حتى لا أقهر من ناوأني من الأمراء والجند إذا أثاروا الفتنة علي أم رأيت أم الملوك لا حق لهم بالتنعم بما يتنعم به عامة الناس فإن كان رأيك هذا وأني أكون عبدا فخذ هذا الملك الذي أردت أن تبقيه لي بما عملت من جلب الغم واليأس علي فقال الوزير: أنت تعلم أن الملك لم يصل إليك إلا باقترانك مع (سلطانة) .
فقال: بأي حق كتب عمي وصيته كذلك فهل اشترط عليه أخوه (كارلوس) بمثل هذه الشروط حين خلف له الملك ولكن لتعلم أن وصيته تفسيرها العدالة وأني لا أعزم على الاقتران بابنة عمتي حتى إذا أبدى أخي إشارة ثورة علوته بالسيف وأن فكرته وإلا فكان أحق بالملك مني.
فلما سمع الوزير هذا الكلام لم يبق عليه إلا أن يقبل الأرض بين يدي سيده ويطلب منه العفو عن صهره فوعده بذلك وأمره بأن يسير إلى قصره وينتظر رجوع المركيس بعده بقليل حتى إلا خلا له المكان رجع إلى نفسه وعزم على إبقاء المركيس في السجن إلى غد اليوم ليزور زوجته خفية. وأما المركيس فإنه لما قبض عليه صاحب الشرطة وطلس به لم يخف عليه معرفة سبب ذلك وصار في نفسه كأنه مطمح للغيرة تتقلب به، وتقطع فؤاده حسرة وندما، وعزم على أن ينتقم لنفسه بعد الإفراج عنه، ولكن لما قدر أن الملك لابد أن يجتمع بزوجته في تلك الليلة رام أن يدهمهما بغتة فطلب من أمير الحبس أن يطلقه في تلك الليلة على الوعد بأن يعود في الصباح إلى محبسه فلباه لذلك لمودة كانت بينهما، ولعلمه بأن (فرنان) تشفع له عند الملك فوعده بالإفراج عنه.
وزاد الأمير على ذلك أنه قدم إليه فرسا كريما ليذهب إلى قصر زوجته فلما وصل إلى البستان فتح بابا سريا بمفتاح كان في جيبه وطلع إلى القصر واختبأ في مقصورة بجانب مقصورة زوجته دون أن يراه أحد ووقف وراء الباب ليرى كل ما يكون حتى إذا سمع صوتا بادر إلى المقصورة بسيفه
فما كان بعد قليل إلا أن مرت من هناك قهرمانة ضياء وصارت إلى مخدعها للرقاد - هذا ما رآه من وراء الباب في بادئ الأمر.
وأما ضياء فإنها لما بلغها قبض رئيس الشرطة على زوجها علمت أن الملك أمر بذلك لكي يأتي إليها فلا يراه وقدرت أنه لا يفرج عنه في تلك الليلة مع كل ما أكد لها أبوها أن الملك وعده بان يفرج عنه بعد رجوعه بقليل، فباتت وهي تنتظر دخول الملك عليها لتلومه على حبس زوجها وتخوفه العواقب الوخيمة التي تنالها منه، وإذا به قد فتح الباب (وذلك بعد انصراف القهرمانة) وانطرح بين قدميها وقال لها: يا سيدتي، لا تقضي علي بالشر قبل أن تسمعي اعتذاري فإني لم أحجز على زوجك إلا لتكون لي فرصة للاجتماع بك وإظهار الحقيقة لك، فإذا فرجت عنه لم تبق لي وسيلة إلى ذلك.
فأقوال من حيث إن حرمانك حبا لي وفقدانك من بين يدي قد أحدث بي ألما لا يعبر عنه اللسان فدعيني أخفف هذا الألم بتأكيدي لك أني لم أخن عهودي إليك في شيء من الأشياء، وإني إنما وعدت (سلطانة) بالاقتران بها سياسة أكرهني عليها أبوك سامحه الله لا رضا من نفسي وإلا فإن أعمالي في الليل والنهار كانت للتمكن من التزوج بك دونها، فكان من سوء الحظ ونكد الطالع أنك سلمت نفسك إلى هذا المركيس، وجعلت لي ولك حزنا لا ينفك آخر الدهر. قال هذا الكلام وقد ظهر على وجهه يأس فهمته منه ضياء وسرت منه في بادئ الأمر لتحققها عشق الملك لها.
ثم فطنت لتزوجها بالمركيس وفقدانها هناء الوصال من الملك، فتقطعت حزنا وقالت: أيها الملك إن معرفتي بعد حكم الزمان بتفريق شملنا أنك لم تخني في عهودي لما يزيد فؤادي على علاته وصبا ولكن طالعي أبى إلا أن يكون نكدا فظننت أنك نسيتني بعد جلوسك على أريكة السلطنة حتى إذا أمرني أبي بأن أتقبل المركيس زوجا لم أخالفه بذلك فكان مثلي كالرجل الباحث على حتفه بظلفه والويل لي على ما كان مني مذ خنت اليمين بعد توكيدها إليك، فانتقم لنفسك مني بأن تهجرني وترفع ذكري من خاطرك. فقال بصوت: ليس بمقدرتي يا سيدتي أن أهجر هواك ولا تعذليني على ذلك فإن العذل يولعني ويزيدني جوى! فقالت وهي تتنهد: ولكني أرى من السداد أن تجهد نفسك بذلك فقال: وهل في استطاعتك أنت أن ترفعي ذكر عشقنا من خاطرك؟ فقالت: لا أظن ولكن أبذل الوسع فيه فقال: يا قاسية القلب، أتعرضين عن محب قتله هواك وعلقت بك محبته أيام الصبا بمجرد عزم تعزمين عليه؟ فقالت كأنها ترفع عنها المذلة: أتظن بأني أرضى بأن تكون لي اليوم عاشقا لا وحياتك فإن القدر إذا لم يقدر لي بأن أكون ملكة، فلذلك لم يقدر علي بأن أخون زوجي وهو من القدر والفخامة بمنزلة لا تقل عن منزلتك لأن أجدادك هم أجداده وقد دانت لهم الملوك أيضا كما دانت لك اليوم وإني أحلف عليك بالأيمان أن تنصرف عني ولا تذل عرضي وشرفي.
فصاح الملك: يا للجفاء والقسوة! أما كفى بي حزنا أن تكوني زوجة المركيس حتى تعامليني بهذا الجفاء وتحرميني من رؤيتك التي لا سلوة لي غيرها؟ فبكت، وقالت: بذا قضت الأيام، فانصرف عني فإن رؤيتك تهيجني شوقا إليك وتحدث خفقانا في قلبي لتذكري أيام الصبا، كما أن أحشائي تضطرب اضطرابا، وقل أن يكون في العاشقين مثله عند اجتماعهم بأحبابهم فاذهب وخلص شرفي من المحاربات التي تخالج فؤادي فقالت هذا الكلام وأخذت في نفسها حتى إنها قلبت شمعة منورة كانت وراءها على مائدة من غير أن تفطن لذلك فتناولتها بيدها وسارت إلى مقصورة القهرمانة لتشعلها، فلما عادت ألح عليها الملك بأن لا تعرض عن حبه ليبقى الحب بينهما متبادلا، فلما سمع المركيس كلامه اتقدت به نار الغيرة ووثب إلة المقصورة غضبا في ذات