الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا بدر إنك قد كسيت مشابها
…
من وجه المستنير الائح
وأراك تمصح بالمحاق وحسنها
…
باق على الأيام ليس ببارح
فضحكت عريب وصفقت وقالت: ما على وجه الأرض أحد يعرف هذا الصوت غيري فلم يقدر أحد من القوم على مساءلتها عنه غيري فسألتها فقالت: أنا أخبركم بقصته ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم بها وهو أن أبا محلم وفد بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فأعجبها جماله ورقته فولعت به وأحبته حبا مفرطا وأرادت التوصل إليه فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في احتياج وأنها بعدة مدة ترده إليها بعث إليها بعشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث بها إليها فاستحسنت ذلك منه واتصلت المودة بينهما، وكان القرض سببا للوصلة فكان يدخل إلى منزلها ليلا وكنت أنا أني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة وقرطاس وكتب:
يا بدر إنك قد كسيت مشابها
…
من وجه أم محمد ابنة صالح
والبيت الآخر وقال لي: غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت أم محمد في آخر المجلس: يا أختي قد نبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة إلى آخر الدهر فقال أبو محلم: وأنا أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح ذاك المستنير اللائح وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر.
وكتبت عريب يوما إلى ابن حامد تستزيره فأرسل إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه:
إذا كنت تحذر ما تحذر
…
وتزعم أنك لا تجسر
فما لي أقيم على صبوتي
…
ويوم لقائك لا يقدر
فلما قرأ الرقعة صار إليها من وقته وأرسل إليها يعاتبها في شيء فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه هذين البيتين:
تبينت عذري وما تعذر
…
وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني
…
ودمعي من العين ما يفتر
فلما اطلع على البيتين ذرفت عيناه وسعى إليها مستسمحا ومستجديا عفوها عما وقع منه، وقد تمت أخبار عريب.
عزة الميلاء
كانت عزة مولاة للأنصار ومسكنها المدينة وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجها وأحسنهن جسما، وسميت الميلاء لتمايلها في مشيتها، وكانت ممن أحسن ضربا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني الصبا من الدائم مثل سيرين وزرنب وخولة والرباب وسلمى ورائقة وكانت رائقة أستاذتها، فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزة عنهما نغما وألفت عليه ألحانا عجيبة فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء وحرض نساءهم ورجالهم عليه، وكان مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها
ما كان أحسن غناءها وأرق صوتها وأنجى حلقها وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي وأجمل وجهها وأظرف لسانها وأقرب مجلسها وأكرم خلقها وأسخى نفسها وأحسن مساعدتها.
وقال طويس: يصف عزة: هي سيدة من غنى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس. تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له. فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها. ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها من تكلم أو تحرك نقر رأسه.
وقال ابن إسلام: فما ظنك بمن يقول فيه طويس هذا القول ومن ذا الذي سلم من لسان طويس.
وقال معبد: إنه أتى عزة وهي عند جميلة وقد أسنت وهي تغني على معزفة في شعر ابن الأطنابة:
عللاني وعللا صاحبيا
…
واسقياني من المروق ريا
قال: فما سمع السامعون قد بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها وقد أسنت فكيف بها وهي شابة وقال صالح بن حسان الأنصاري كانت عزة مولاة لنا وكانت عفيفة جميلة وكان عبد الله بن جعفر وابن أبي عتيق وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره فشق ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قالت له: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال: إنس سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي، وكان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء وكان يقدمها على سائر قيان المدينة، وكان يزيد بن ثابت ختن ابنته فأولم فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة وحضر حسان بن ثابت وقد كف يومئذ وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة فوضع في حجرها مزهر، فضربت به ثم تغنت فكانت أول ما ابتدأت به شعر حسان قوله:
فلا زال قبر بين بصرى وجلق
…
عليه من الوسمي جود ووابل
وحسان يبكي وابنه يومئ إليها أن تزيد فإذا زادت بكى حسان وقال خارجة بن زيد: فلما طال جلوس حسان ثقل علينا مجلسه فأومأ ابنه إلى عزة فغنت:
أنظر خليلي بباب جلق هل
…
تبصر دون البقاء من أحد
فبكى حسان حتى سدر ثم قال: هذا عمل الفاسق - يعني ابنه - أما لقد كرهتم مجالستي فقيح الله مجلسكم سائر اليوم وقام فانصرف.
وقال عبد الله بن أبي مليكة كان رجل من أهل المدينة ناسك من أهل العلم والفقه وكان يغشى عبد الله بن جعفر فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني: باتت سعاد وأمسى حبلها انقعا.
فشغف بها وهام وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر:
يلومني فيك أقوام أجالسهم
…
فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره فبعث إلى النخاسين فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت وقال لها: ممن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره فأعلمه إياه وصدقه عنه فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه فغنته، فصعق الرجل وخر مغشيا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه الماء الماء فنضح على وجهه، فلما